هل يمكن عزل الرئيس الأمريكي المنتخب إذا ما اتبع بالفعل سياسات خطيرة ومضرة بالولايات المتحدة؟ طرحت هذا السؤال من قبل وطرحه غيري في أكثر من مكان، وهو سؤال قد يبدو من الناحية النظرية سهل الإجابة، حيث يمنح الدستور الأمريكي حق عزل الرئيس في حالة ارتكابه ما يؤثر فعلاً على صورة أمريكا أو أمنها القومي.
أما من الناحية الواقعية، فالأمر ليس على ذلك النحو من البساطة، الذي يبدو عليه فيكفي أن نتذكر أنه على مدى القرن العشرين فإن طرح عزل الرؤساء لم يناقش بجدية، إلا ضمن حالتين استثنائيتين هما، حالة الرئيس ريتشارد نيكسون إثر فضيحة ووترغيت الشهيرة، والرئيس بيل كلينتون بعد قصته التي لا تقل شهرة مع مونيكا لوينسكي. عدا ذلك، ورغم ممارسة الرؤساء الأمريكيين لحماقات كبيرة جداً، إلا أن الشعب والدستور ظلا محترمين لرغبة الشعب واختياره.
بالإضافة إلى احترام الناخبين كان هناك سبب آخر يدفع للتمسك بالرؤساء المنتخبين، وهو صورة الولايات المتحدة كقلعة ديمقراطية، حيث أن التغيير الطارئ للرئيس المنتخب، أو أي إجراء آخر كانتخابات مبكرة أو كتكليف مجلس خاص بقيادة البلاد حتى حين، كل تلك أمور تتناقض مع الشكل الذي تحب الولايات المتحدة أن تظهر به وأن تقدمه للعالم، بل لعلها لو فعلت هذا لبدت أشبه بدول العالم الثالث التي تعلن نتيجة انتخابات ثم تنقلب عليها بذريعة أو بأخرى.
رغم كل ذلك فإن هناك معطيات جديدة قد برزت مع الرئيس دونالد ترامب، فهو الرئيس الذي واجه أكبر حملة رفض بعد تنصيبه، على الأقل لما يقارب مئة عام مضت. كما أنها أول مرة يناقش الشعب الأمريكي فيها بجدية احتمالية التدخل الأجنبي في الانتخابات، وهو ما حدث إثر فوز ترامب وما صاحبه من حديث لدور روسي في هذا الفوز، عبر تلاعب إلكتروني أو دعائي ضد منافسته هيلاري كلينتون.
أما فيما يتعلق بصورة الولايات المتحدة، فقد عمل دونالد ترامب منذ قدومه للبيت الأبيض بنجاح على «تثليث» أمريكا، بمعنى جعلها جزءاً من ثقافة العالم الثالث الاستبدادية والعدائية. ابتداء من عداء الأجانب والعنصرية ضد المسلمين، ونهاية بإبراز قناعاته بأن الولايات المتحدة هي في الأصل بلد للسكان البيض، مروراً بالكثير من الإجراءات التعسفية، التي تحاول تحجيم دور القضاء والمنظمات المدنية وحتى حرية الصحافة، التي يكن لها عداء خاصاً، ويبدو مهووساً بفكرة أنها تعمل ضده ولا تقدم لمتابعيها صورة حقيقية لواقع الأحداث.كل ذلك أوجد حالة غير مسبوقة من الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، بل داخل مؤسسات الحكم نفسها، وهو ما تجلى في عدة مظاهر بدأ بعض المراقبين الأمريكيين يعدها خطراً على الاتحاد الأمريكي العريق.
حتى محاولات دونالد ترامب التي كان يحاول من خلالها إثبات شعبيته، كانت تبدو بائسة وشبيهة بمحاولات الديكتاتوريات العريقة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فقد دعا لتظاهرة كبيرة بعد أسابيع من انتخابه لمقابلة المظاهرات الرافضة له، ولإثبات أن الأغلبية معه. لا شك أن مثل هذا النشاط لا معنى له، فمن المفهوم أن تقوم مظاهرة للرفض أو لانتقاد سياسة معينة، أما أن يخرج مؤيدو رئيس منتخب فهذا لا يدلل على شيء لأن الأصل، إذا كانت الانتخابات فعلاً ديمقراطية، هو أن تكون الأغلبية قد أيدته فعلاً وصوتت له، أما الاحتكام للشارع وللدعم الشعبي فيتنافى مع الاحتكام للصناديق، بل يجعل منها ممارسة بلا جدوى.
بالتزامن مع هذه التظاهرة كانت الولايات المتحدة تشارك في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي يعقد بشكل سنوي. كانت تلك إحدى أهم المشاركات الخارجية لأمريكا الجديدة، إلا أن اللافت كان انقسام الوفد الأمريكي بين مجموعة الكونغرس ومجموعة البيت الأبيض، وقد علق كثير من المحللين على ذلك بسخرية قائلين إن أمريكا شاركت بوفدين يحمل كل منهما صورة ومقاربة مختلفة عن الآخر تجاه التحديات الأمنية.
تعدد الخطاب الأمريكي يعد من الإشكاليات التي لا يمكن تجاهلها، فما يزال الموقف من قضايا في غاية الأهمية والحساسية كحلف شمال الأطلسي مثلاً، أو كالتعاون الأمني والعسكري مع اليابان، أو كقضايا ما يعرف بالشرق الأوسط، أو النزاعات الآسيوية، ما يزال الموقف من كل ذلك ملتبساً، فما أن يصدر تصريح باتجاه ما اليوم حتى يلاحق في الغد بتصريح مختلف ومتناقض من الجهة ذاتها، أو من جهة أخرى داخل دائرة صنع القرار نفسها.
في غمرة ذلك الالتباس ظهر الخبر الذي تناقلته أجهزة الإعلام، والذي مفاده أن جهاز المخابرات الأمريكي يحجب الكثير من المعلومات عن الرئيس المنتخب. يعيد ذلك إلى الأذهان التصريح الغريب لترامب، الذي قال فيه إنه غير محتاج للتنوير اليومي الذي تقدمه في العادة الأجهزة الاستخبارية. تراجع ترامب عن تصريحه ومدح في تصريح تالٍ رجال «سي آي إيه»، لكن ما كان واضحاً هو أن العلاقة بين الطرفين لم تكن جيدة. لكن، كيف يصل الأمر درجة حجب معلومات مهمة عن الرئيس؟ هذا الخبر سوف يعزز النظرية التي بدا الرئيس ترامب مؤمناً بها، وهي أن هذه الأجهزة الاستخبارية تتآمر عليه وتقود حرباً غير معلنة ضده. الأمر الذي يجعله يعين أحد المقربين منه لمراجعة ومراقبة عمل الدوائر الأمنية.
تزداد الآن عزلة ترامب، فحتى المتطرفون والعنصريون الذين انتخبوه لم يكونوا سعداء به، وهو يفضح برنامجهم بلا مواربة ولا دبلوماسية، ومثل هذا العزلة التي يعيشها مؤيدو ترامب داخل حزبه الجمهوري نفسه. أما أعداؤه في المعسكر المقابل فقد ازدادت قناعتهم بعدم صلاحيته، حتى تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية خبر إطلاق مجموعة عمل كبيرة لبحث إقالة الرئيس. هذا غير خبر المشروع المطروح في الكونغرس لبحث تعديل شروط إقالة الرئيس.
سوف يذكرنا ذلك مرة أخرى بقصص العالم الثالث، التي فيها يتم التحضير للانقلاب على الحاكم عبر تحالف باطني لأجهزة الدولة العميقة، ففي حالة ترامب وبخلاف المخابرات والإعلام، فإن المئات من الدبلوماسيين أعلنوا صراحة رفضهم للسياسة الترامبية، خاصة الأمر التنفيذي بحظر مواطني بعض الدول بحجة الأمن، كما أن هذه الجهات «العميقة» استطاعت بعد نشرها تسريبات لمستشار ترامب لمسائل الأمن القومي مايكل فلين أن تشكك في نزاهته وفي تخابره مع الروس، وهو الأمر الذي أدى لإقالته.
الحديث عن «الدولة العميقة» الذي كان يرتبط في ذهننا بتركيا وبالدول العربية التي حاولت الكيانات العميقة استردادها بعد ثورات الربيع، يبدو أنه لم يعد قاصراً على هذه الدول. على ما يبدو فإن الدولة الأهم أيضاً والأكبر على مستوى العالم تعمل أيضاً على النحو ذاته بين دولة على السطح وأخرى أعمق.
حتى الآن يعتبر البعض أن في الأمر مبالغة وأنه لا يمكن تشبيه أمريكا بدول العالم الثالث، لكن الكثير من الكتاب الأمريكيين لهم رأي مخالف فقد كتب بنجامين ولاس في صحيفة «ذا نيو يوركر» مقالاً تحدث فيه عن هذه الدولة العميقة مستشهداً بحالة الالتباس والغموض الحالية، في حين اعتبر إيلي لايك في «بلومبيرغ» أن التسريبات ضد فلين كان من أهدافها تقويض سلطة ترامب وأنه قد كان هناك تعاون بين المخابرات والإعلام بهذا الاتجاه. كتاب آخرون برروا انعدام الثقة بين ترامب وجهاز مخابراته في كون أن الجهاز يعتبر أن الإدارة الحالية مخترقة روسياً، ولذلك فهو يتعامل معها بحذر حفاظاً على الأمن الأمريكي القومي.
حتى إذا تجاهلنا كل تلك الآراء فإنه سيكون من الصعب علينا تجاهل ما كتبه المؤرخ الأهم للسياسة الأمريكية رونالد فاينمان، الذي ذهب إلى أن تنحية ترامب وتولي نائبه قد صارت مسألة وقت.
على كل حال، فإن أمراً واحداً قد بات مؤكداً وهو أن الرئيس الأمريكي، في حالة بقائه، سيكون مجبراً على اتباع سياسة أكثر واقعية وتصالحاً مع مؤسسات الدولة، فالأمور لا يمكنها أن تستمر طويلاً على هذا النحو.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح