ما هو المتوقع من الانتخابات التركية المقبلة، خاصة وهي الثانية التي تجرى هذه السنة بعد الانتخابات التي خلقت وضعاً متوتــــراً، رأى الرئيس أردوغان، أنه من الضروري، إنهاءه لما يثيره من أسئلة ويطرحه من تحديات أمام مســــتقبل تركيا بشكل عام، ومستقبله شخصياً على وجه التحديد.
فترة وجيزة تفصل تركيا عن انتخابات سيمتد أثرها خارج حدودها، معركة جديدة لأردوغان، من المرجح ألا تحسمها لمصلحته، شخصيته الكاريزمية، وبقاؤه في حالة حدوثه، سيكون تعبيراً عن عدم قدرة المنافسين على التوحد للإطاحة به، فحزبه ما زال إلى اليوم يسيطر على 74٪ من البرلمان التركي، ولكن الأطراف المناوئه له على الرغم من تحقيقه الأغلبية، لا تمتلك الأرضية الموحدة الضرورية لتجميعها في مواجهة التنمية والعدالة، وعليه، فإن إنهاء ملف الأردوغانية يبدو مستبعداً على الأقل في المدى المنظور.
كاريزمية أردوغان تصطدم اليوم بالصاعد الكردي صلاح الدين ديميرتاش، ولكن القوميين الأتراك في اليمين يدركون أن خصومتهم مع ديميرتاش وجودية، وليست سياسية كما هي الحالة مع أردوغان، وبعد أن تنتهي الانتخابات سيستطيع «التنمية والعدالة» أن يحصل على التحالفات اللازمة له، حتى لو اضطر للتضحية بأردوغان وتصعيد وجوه جديدة للمواجهة، وجوه تمتلك القدرة على إعطاء وعود جديدة، وتكون أكثر مرونة من أردوغان الذي لم يواجه خصوماً من نوعية ديميرتاش من قبل.
ولكن ما الأثر الذي ستتركه الانتخابات المقبلة على تركيا من الناحية الوجودية طويلة المدى، ففوز أردوغان يضرب هوية تركيا أيضاً، فالرجل على خصومة مع الكمالية، ويراها مشروعاً محدوداً تمكن سابقاً من إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع انهيار الامبراطورية العثمانية، ولكن حزب «التنمية والعدالة» تناقض مع الكمالية القومية وتدخل في مشاريع لا يمكن تسويقها وطنياً على المستوى التركي، فالتقاطعات مع الأوضاع في سوريا والعراق تبدو مقبولة لدى قطاع واسع من الأتراك، على الرغم من وجود كثير من التحفظ، ولكن تدخل تركيا في الشأنين المصري والليبي يبدو لمعظم مكونات الطيف السياسي في أنقرة مسألة مرهقة، وستؤدي إلى التهام مكتسبات كثيرة حققها الأتراك سابقاً، فالمنافسون الأوروبيون لا يرون في تركيا طرفاً يستحق الالتفات في الشأن الليبي، عدا بالطبع عن الاستحواذ على حصة معلومة من عوائد الكعكة الليبية. أما المصريون فيمكنهم مواجهة الأتراك بصورة مباشرة وغير مباشرة بصورة استفزازية، فالقاهرة لم تجد في نفسها شيئاً من التردد لتستدعي قبرص واليونان لتعلن عن تحالف، أكدت أنه غير موجه لأحد، ولم يكن أحد في المنطقة ككل يمتلك حسن النية ليصدق القاهرة في هذه المسألة تحديداً. الصحافة المصرية خمنت أن تركيا وقطر وألمانيا وأوكرانيا صوتت ضدها في انتخابات العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، ولكن ليس مهماً من الذي صوت ضد المصريين، ففي النهاية كانت الأصوات التي حصلت عليها مصر كافية لتؤشر إلى صعود القاهرة في مواجهة أنقرة، التي تعاني في هذه المرحلة من تراجع في قدرتها على استقطاب الأصدقاء والحلفاء، وعلى الرغم من فتور يعتري علاقة مصر والسعودية، إلا أن الرياض تجد نفسها غير مضطرة لأن تبدل بوصلتها تجاه تركيا، وما زالت تمضي مندفعة وراء أجندة السيسي، الذي تمكن بصورة أو بأخرى من سحب البساط من تحت أقدام السعوديين، والأخذ بالمبادرة على المستوى السياسي للتحالف العربي الذي يجمعه مع السعودية والإمارات والأردن، مع وجود تحفظات كثيرة على نزعة الرجل للاجتهاد بمفرده والتصرف من دون وجود تنسيق مسبق، خاصة في الملف السوري.
ما أهمية هذا الحديث كله مع اقتراب الانتخابات التركية؟
عملياً فإن ميول ديميرتاش بخصوص السياسة الخارجية لتركيا تبدو غامضة، ولكن في المقابل، فإنه يظهر بوضوح فشل السياسة التركية في عصر أردوغان، وانتهاء عصر (صفر مشاكل)، ويزيد من التأزم ارتداد الأعمال الإرهابية إلى الداخل التركي، وفشل الحكومة التركية في تحميل حزب العمال الكردستاني المسؤولية عن العمليات الأخيرة، وفي حالة عدم وجود خصم حقيقي يستثير النزعة الوطنية التركية ويحقق حالة من التحالف الوطني، فإن النبرة التي ستصعد هي إدانة التقصير من حكومة أردوغان، وربما الرغبة في مراجعة أدائها في متابعة ومراقبة «داعش»، هذا بافتراض أن وتيرة الانتقادات لن تشتمل على حديث عن وجود تواطؤ بين أنقرة وبعض الجماعات المقاتلة في سوريا.
هذه المرة ستكون عيون الناخبين الأتراك على القضايا المحلية والبرامج التنفيذية للأحزاب، ولكنهم سينصتون جيداً، وربما على غير عادتهم، لإيقاع المنطقة من حولهم، فالأداء الاقتصادي لتركيا لم يعد يشهد نفس الاطراد المطمئن، كما أن تركيا دخلت في مدار العنف الذي يسود المنطقة، وربما لم يعد الأتراك يعتقدون بأن الوضع السوري هو ملف خارجي يمكن أن يتركوه وديعة لدى أردوغان، وعلى حساب رصيد الثقة والشعبية الذي يمتلكه الرئيس التركي، وعلى الأرجح فإن إشارات حول السلوك التركي في القضية السورية ومختلف الشؤون الخاصة بالجوار ستكون أحد البنود المهمة لدى الناخبين.
كان الأتراك يعتقدون بأنهم دولة حسمت ونهائياً صورتها القومية وهويتها الوطنية، ولكنهم يكتشفون اليوم أن تركيا هي الأخرى صنيعة الاتفاقيات والتسويات الاستعمارية، التي تبعت انهيار الخلافة العثمانية، وهي من حيث تركيبتها السكانية وظروفها لا تختلف عن أي دولة عربية أنتجتها مراحل الاستعمار والانتداب، فسوريا هي صورة تركيا في المرآة، والفرق يكمن في الظروف التي تحدد كثافة وسرعة التحولات في الدولة، ولا يكمن إطلاقاً في المقدمات التي تشتمل على خرائط مشوهة وأقليات غاضبة وتفاوت اجتماعي يرتبط بالمناطقية وبالطبع وجود النخب الفاسدة، وبذلك، فإن تركيا لا تمتلك استثناء نفسها من المنطقة، وحتى لو أعاد أردوغان البوصلة تجاه أوروبا، فإن ذلك يشتمل على ما يمكن أن يهدد تركيا وجودياً، فالأوروبيون وجدوا حلولاً للتزاوجات غير الشرعية، وأنتجوا دولاً جديدة تكون في حد ذاتها تسوية لأوضاع مغلوطة نتجت عن وجودها في كيان سياسي واحد، والأمثلة متعددة من التشيك إلى سلوفاكيا إلى كرواتيا والبوسنة والصرب، وربما على مقربة من بروكسل يمكن أن تظهر دولة جديدة لشعب الفلاما، فصورة الدولة كما قدمتها أوروبا في عصر الثورة الصناعية أخذت تترنج اليوم من أدنبرة إلى برشلونة.
صعود الأردوغانية يمكن اعتباره جزءا من التراث السياسي للمنطقة، وسيجده المؤرخون قريباً في عموميته من صعود الناصرية ومبدأ ايزنهاور وحروب الخليج متعددة الفصول، وانهيار الأردوغانية سيمثل أيضاً جزءاً من تاريخ المنطقة ككل، لا تركيا لوحدها، وسيصبح التاريخ الفاصل بين صعود أردوغان وأفول نجمه حقبة يمكن أن توضع بين قوسين، وأن تصبح وحدة للدراسة بكل تشعباتها وتعقيداتها بجميع تنويعاتها، ابتداء من الاقتصادية والسياسية، بوصفها نموذجاً للإسلام السياسي، مروراً بتمددها الثقافي واستدعاء المولوية والبكتاشية والإنكشارية ومختلف المعطيات العثمانية، بحيث أصبح جلال الدين الرومي وتراثه يزاحمان الاهتمام بالبوذية والروحانية الشرقية في المكتبات الأوروبية والأمريكية، ويتفردان بصدارة القراءات العربية، وصولاً إلى زرقة عيني كيفانش تاتليتوغ (مهند) وابتسامة الجميلة توبا بويوكستون (لميس) التي شغلت العرب وجعلتهم يتسمرون أمام الشاشات لمواسم متتابعة انتهت مع دخول مواسم الغضب والدماء في حصادها المرير. هل ينتهي أردوغان أم أن أمامه وأمام خصومه جولات أخرى؟
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
رائع هذا المقال.
مستقبل تركيا!!
شكلت الأردوغانية تحدي لفكر مؤسس الدولة التركية الحديثة . فحلم اتاتورك كان أحتلال مقعد بين الأمم الأوربية النهضوية العلمانية ، بينما حزب العدالة والتنمية ،وعلى العكس ، يلتفت شرقاً “وحلم خلافة أسلامية تراوده” في ظل منافسة واضحة لمكانة السعودية الروحية والسعي للعب دور مصر في العالم العربي . إن إيران هي المستفيد الأول من الانقسام الحاصل اليوم في تركيا، فتركيا تعاني من أنقسام (قومي ، ومذهبي) وهذا ما يجعل شهية الطامعين كبيرة في ضرب أستقرار تركيا في حال سعت لتنفيذ أجندتها القومية ومنافسة القوى الكبرى في المنطقة . إن الأنتخابات البرلمانية المقبلة حُبلى بالمُفاجآت على صدى الطيران الروسي وتفجيري أنقرة .