انتظار على طريقة الـ «سيبوكو»

حجم الخط
0

مناف زيتون: أما زال الوقت باكراً على إخراج هويتي وأوراقي الثبوتية؟، أسأل نفسي وأنا أنتظر مرور عشرات السيارات التي تحجب الأفق. اختيار التوقيت المناسب لإخراج أوراقي الثبوتية أمر حساس. فمن ناحية يجب ألا أغضب الجندي على الحاجز بتلكئي في تقديم أوراق رسمية تدعم إجاباتي، ماذا تعمل؟ بطاقتي الجامعية، أين تسكن؟ عقد ملكية المنزل، خدمة العلم؟ دفتر الجندية. ومن ناحية أخرى يجب ألا أظهر للركاب بمظهر الجبان المصاب برهاب الحواجز، وبالتالي أخسر امتيازاتي المعنوية كأحد الذكور القلائل الذين يستقلون المواصلات العامة.
فكرة روايتي الأولى خطرت لي في ميكروباص كهذا. أغلب الظن أن تكون الثانية كذلك. أما الآن فالانتظار الطويل لا ينتج الروايات. خطرت لي أفكار آلاف الروايات أثناء كل هذا الانتظار، وإن استمر الحال كذلك سأجن في آخر العام مستجدياً الله بعض الكهرباء كي أكتب كل هذه الروايات، ساعتان أو ثلاث يومياً على الحواجز، لا فرق، إنها مدة أكبر من أن تخصص للتفكير بصمت.
هل سأبدو متبجحاً أو «خالي البال» إن قرأتُ الآن على مرأى الجميع رواية عن محاربي الساموراي الذين يؤدون طقوس الـ «سيبوكو» عندما يشعرون بإذلال هزيمة مرتقبة؟. لا ينتحرون فقط عند الهزائم العسكرية في الروايات التي أقرأها، بعضهم تفادياً لإذلال التقدم بالعمر مثلاً.
لو كانت تقاليدنا تتضمن طقوساً مشرفة للانتحار كاليابان، لكان سائقو السيارات المترامية أمامي ينزلون واحداً تلو الآخر الآن ويبقرون بطونهم على قارعة الطريق، وقد يكون أحدنا من اللباقة بما يكفي ليتجول على المنتحرين بسيفه ويحوز شرف قطع رؤوسهم واحداً تلو الآخر، مجنباً إياهم عذابات الاحتضار. لو كانت لدينا تقاليدٌ مشرّفة للانتحار، لفضل معظمنا الموت على تحمل هذا الانتظار الطويل للعبور نحو العمل والمنزل، وللحصول على الخبز والغاز والوقود، لبقرنا بطوننا حين يزيد انتظار الماء عن اليومين.
كان لدى صديقتي سيف «ساموراي» من ضمن مجموعة سيوف للزينة تتوزع في المنزل. وعدتني أن أحصل عليه. لكنها سافرت قبل أن نجد طريقة نمرر بها السيف من الحواجز. أتخيلني خارج البلاد، في باريس حيث تمكث هي الآن، هل سيكون هناك شأن ذو فائدة أقضي فيه الساعات التي أهدرها هنا؟، هل ستنطلق حياتي المهنية وأثبت نفسي كما يعدني جميع من يدعونني إلى السفر إليهم؟ أم سأنتظر من جديد سنتين أو أكثر ريثما أتقن لغة أو أحصل على إقامة؟ وهل ما زلتُ أصلاً أتقن لغة هذه البلاد أو مصرحٌ لي بالإقامة الدائمة فيها؟
أخرج هويتي وأوراقي الثبوتية، أنظر حولي ولا أحد قد أخرجها سواي. إنه جندي الخط العسكري المجاور… إنذار خاطئ. أرجعتُ الأوراق إلى جيبي، وعدتُ للتفكير في الـ»سيبوكو»، لو كان هناك تقليد شعبي للانتحار رفضاً للذلة يدفع عائلتي للفخر بي بدلاً من الحزن علي، لأطبقتُ السيف على حنجرتي قبل أن تنطق أي عبارة تقودني لحديث «نوستالجي» مع الركاب يطيل زمن الانتظار بدلاً من اختصاره.
لكل منا حصته من الانتظار، وإن قررتَ الهروب والتخلص من كل هذا الهدر للوقت، سيكون عليكَ دفع حصة أخيرة من الانتظار، نهارا أو نهارين في انتظار الأوراق اللازمة لاستصدار جواز السفر، يوم عمل في انتظار تقديم الأوراق، نهار على الحدود اللبنانية، وعدد غير واضح من الأيام بانتظار هدوء البحر أو استعداد المهرّب. لتنتهي فترات الانتظار كما تنتهي رحلتي في هذا الحاجز، نظرة سريعة تسبر الوجوه، وبالتزامن مع حركة إصبعيه… «روح».

روائي سوري

انتظار على طريقة الـ «سيبوكو»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية