■ عبر قرنين من الزمن تنقَلت الأمة العربية من مشروع إنقاذي إلى مشروع إنقاذي آخر، بدون أن توصل أي مشروع إلى نهايته وتحقق أهدافه. كلُ مشروع ترك معلقا في الوسط، إما بسبب تعثُر تحقيقه لأسباب موضوعية أو بسبب بروز تحد جديد يتطلب تأجيل المشروع القديم لصالح مشروع جديد يتعامل مع، ويواجه التحدي الجديد.
لقد عاشت الأمة في هذه الدوامة التي استهلكت طاقاتها المادية والمعنوية وأدخلتها في الحيرة والقنوط. كانت البداية طرحا جزئيا لمشروع الإصلاح الديني الإسلامي للخروج من الجمود الفقهي والفكري والثقافي، الذي تراكم وتعاظم بعد سقوط الخلافة العباسية. تبع ذلك مشروع الأخذ بالليبرالية الأوروبية بعد ازدياد الاحتكاك بأوروبا والانبهار بحضارتها. لكن خيانة أوروبا لمبادئ أنوارها وممارستها للتوسع الاستعماري، واحتلال جزء كبير من أرض العرب، طرح مشروعا جديدا مستعجلا، مشروع الاستقلال الوطني. وما أن انزاح الاستعمار حتى وجدت الأمة نفسها أمام تحدي الهجمة الصهيونية الاستيطانية من جهة، وفشل الرجعية العربية في مواجهة الصهيونية وفي الحكم من جهة أخرى، مما نقلها إلى طرح مشروع الانقلابات العسكرية كطريق ثوري إنقاذي يواجه الصهيونية ويواجه الرجعية العربية الفاسدة في آن.
ومن خلال نجاح الانقلابات العسكرية في العديد من الأقطار العربية المفصلية، طرح المشروع القومي الوحدوي الرامي لتوحد الأمة العربية وصيانة استقلالها، ودحر الصهيونية وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية. لكن هذا المشروع واجه العقبات والعثرات بسبب مؤامرات الخارج وأخطاء الداخل، لتنتقل الأمة إلى مشروع الاعتماد على الاسلام السياسي لإنقاذ الأمة، حتى اذا ما جاءت رياح الربيع العربي بثوراته وحركاته وآماله الكبيرة، امتحن الإسلام السياسي في عدة أقطار وفشل بصورة عامة، مع استثناءات محدودة، في ذلك الامتحان.
الآن تواجه الأمة تحديا جديدا يتمثل في العاصفة الجهادية الإسلامية التكفيرية الممارسة للعنف البدائي البربري، والمهددة لكل الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي بنتها الأمة العربية عبر تاريخها الطويل. ومن المؤكد أن هذا التحدي الهائل غير المسبوق في تاريخ الأمة سيحتاج إلى طرح مشروع يواجه هذا التحدي ويدحره. مكونات هذا المشروع ومنهجيته والقوى التي ستقوم به تحتاج إلى ألا تعيد ارتكاب أخطاء الماضي ولا تعاني من نقاط ضعفه. فلا محل للمشاريع الجزئية المبتورة، ولا للمشاريع المؤقته، ولا للمشاريع غير المنبثقة من تاريخ وتراث وأحلام وحاجات وأولويات وتجارب الأمة، ولا للمشاريع الفوقية المعزولة عن صخب وحناجر الجماهير. ولعل أقرب تصور فكري منهجي لمثل مشروع مطلوب كهذا، هو المشروع النهضوي العربي بنقاطه الست المترابطة: الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية الإنسانية الشاملة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري.
النقاط الست العامة تلك غير كافية إن لم يصاحبها دخول عميق في التفاصيل، لإبراز معانيها وواقعيتها وكفاءتها. وقبل ذلك هناك حاجة لمراجعة تحليلية نقدية لمحاولات كثيرة قام بها مئات المفكرين العرب والمسلمين، محاولات بالغة الغنى، بالغة الجرأة، بل بعضها بالغ الحداثة، لكنها في غالبيتها الساحقة كانت محاولات فردية معزولة عن عموم المواطنين وعن حياتهم اليومية، وهي محاولات تجاهلتها المؤسسات الرسمية والكثير من المؤسسات المدنية فماتت في الواقع العربي.
المطلوب هو إدماج الكثير من تلك المحاولات المبهرة لجعل المشروع النهضوي شاملا وعميقا ومرتبطا بالواقع والمستقبل إلى أبعد الحدود. إنه جهد مؤسسي تكاتفي كبير من أجل تجويد المشروع ونشر نتائجه والدفاع عنه، تمهيدا لمأسسته في الحياة السياسية العربية على المستويين الوطني والقومي.
لو أخذنا، كمثل، نقطة التجدد الحضاري، فإن عدم الدخول في تفاصيل الإصلاح الفقهي وعقلانية قراءة النُصوص الدينية ، أي موضوع المدرسة الكلامية الإسلامية التي يحاول بعض المفكرين العرب والمسلمين بناءها حاليا، وربطنا ذلك بتفاصيل الحداثة التي يطرحها أيضا المفكرون العرب والمسلمون، فإننا لن نواجه موضوع التجدد الحضاري بجدية وفاعلية.
سندخل في تفاصيل هذا المثل في مقال الأسبوع القادم. مواجهة داعش وأخواته، فكرا وفهما وثقافة ، ستحتاج إلى كل ذلك.
٭ كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو
أظن ما نشره محمد كريشان تحت عنوان («إنهيار الدولة» في تونس؟!) يتكامل مع ما نشره د. علي محمد فخرو تحت عنوان (انتقال الأمة إلى مشروع جديد) في نفس عدد جريدة القدس العربي بتاريخ 8/7/2015 لتوضيح اشكاليات أزمة الوجود التي تعاني منها دولة “الحداثة”، كما هو حاصل في اليونان مهد الفلسفة التي تم بناء ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة” عليها.
أنا أظن هناك تشابه كبير فالجميع يفكر وفق محددات سايكس وبيكو، وكل منهما ركّز على النقاط التي تعكس خلفيته الثقافية في كيفية قراءة أي شيء يمر عليه، فيما له علاقة بما أطلقت عليه “انتفاضات أدوات العولمة” والتي من شعل شرارتها من وجهة نظري ليس البوعزيزي في تونس بل هو حذاء منتظر الزيدي الذي رماه على ممثلي النظام البيروقراطي للأمم المتحدة وفي بث حي مباشر على أهم أدوات التقنية والعولمة في نهاية عام 2008.
والذي كان نفس العام الذي أعلن فيه انهيار أو إفلاس نظام الديون الربوي ما بين البنوك والمصارف في نيويورك أمريكا رمز النظام التجاري العالمي الحديث في حين تم رمي الحذاء في وادي الرافدين مهد الحضارات الإنسانية التي فيها تم عصر التدوين بالكتابة المسمارية ومسلّة حمورابي والسبي البابلي واكتمال الخط العربي والصيغة البنائية للكلمة العربية وبحور الشعر العربي وتدوين نص القرآن الكريم بجميع قراءاته وألسنه العربية في نص مكتوب واحد تنم عن عبقرية لم تصل لها أي لغة أخرى حتى الآن.
الجمع بين المقالتين من وجهة نظري يمثل صورة رائعة سلطت الضوء على واقع إشكالية النظام البيروقراطي بشكل عام، والذي يرفض التعامل بالأخلاق بحجة أنّها قيد على الحريّة الشخصية، فالفلسفة تتعامل على أنَّ كل شيء نسبي أو لونه أحد درجات اللون الرمادي ما بين الأبيض والأسود، وكأنّ السبب من أجل أن تعطي للنخب الحاكمة حق أن تقول عن أي درجة من درجات اللون الرمادي على أنَّ اساسه اللون الأبيض.
كما عمل بذلك وأصدر رئيس النخب الحاكمة للنظام البيروقراطي للأمم المتحدة، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما من اعتماد حق تسجيل زواج الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة بالإضافة إلى زواج الرجل بالمرأة في النظام البيروقراطي، في محاولة لضرب حكمة البشرية في طريقة تعريف الأسرة من أنها علاقة ما بين الـ أنا والـ آخر إلى علاقة ما بين الـ أنا والـ أنا لكي تتناسق مع ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة” بشكل عملي على أرض الواقع، فيتحول مفهوم الأسرة من وحدة تكوين وتربية جيل المستقبل للإنسانيّة، إلى وحدة رعاية جيل المستقبل لصالح النظام البيروقراطي ووفق قواعد ومتطلبات وشروط النخب الحاكمة، ومن لا يلتزم بذلك يتم سحب جيل المستقبل منها، إن لم يكن معاقبتها وسجنها لتقصيرها.
وأضيف في شهر الصيام هذا، رمضان عام 2015 أصدر أمير المؤمنين، العاهل المغربي قرارا بمنع رجال الدين في التعامل بالسياسية، وعلى ضوء هذا القرار خطر لي السؤال التالي المنطقي والموضوعي متى أمير المؤمنين والمثقف والسياسي والتاجر التابع له سيتوقف كل منهم عن التدخل في الدين، خصوصا وأنَّ تدخلهم كان كتدخل الرهبنة والرهبان.
وخصوصا وأنَّ الإسلام يحارب الرهبنة والرهبان في الحكم الإسلامي، عكس طريقة الحكم في دولة محاكم التفتيش التي قضت على الحكم الأموي في الأندلس بجوار دولة أمير المؤمنين في المغرب، وكذلك أنا لاحظت هناك تقارب ما بين الفكر الشيعي والفكر الصوفي والفكر العلماني/الليبرالي/الديمقراطي فجميعهم اساس فكرهم هو الفلسفة أو ثقافة الـ أنا أو الحداثة، والتي تعتمد على مفهوم أنَّ النُّخب الحاكمة يجب أن تكون فوق النقد أو الدستور والقانون أي معصومة من الخطأ أو هم أولياء الله أو من ضمن شعب الرب المُختار من قبل السامري للدولة العميقة (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية).
أنا لاحظت الكثير لم ينتبه إلى أنَّ طريقة الحكم في دولة محاكم التفتيش، بسبب أنَّ اساسها هو الثقافة الكاثوليكية فلذلك تجدها تعتمد على مفهوم إن ضربتك النخب الحاكمة على الخد الأيمن، يجب عليك قبل أن تعطها الخد الأيسر أن تغفر لها وتسامحها، وإلاّ ستكون أنت إرهابي ويحق لمحاكم التفتيش أن تفعل بك ما تشاء على ضوء ذلك، ناهيك مفهوم أنت ومالك لأهلك، ومفهوم الأهل في دولة محاكم التفتيش ليس الأسرة أو العشيرة والقبيلة بل هو النخب الحاكمة، ومن هذه الزاوية نفهم لماذا المثقف والسياسي والتاجر في دولة “الحداثة”، يعمل على تحقير مفهوم الانتماء للقبيلة والعشيرة والعمل على تغيير مفهوم الأسرة التي هي اللبنة الأساسية، ومن هذه الزاوية نفهم لماذا يكون المسلم إرهابي في مفهوم دولة “الحداثة” أو ثقافة الـ أنا؟!
هناك أزمة مالية خانقة الآن يعاني منها النظام البيروقراطي في دولة “الحداثة” ولا يمكن تبرير تخصيص أموال لسامري الدولة العميقة (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) إلاّ من خلال استعباد الشعب والعمل على استفحال عقدة الخوف والجبن حتى لا يُطالب بحقوقه، مقابل ما يتم فرضه عليه من ضرائب، والتي من المفروض لتقديم الخدمة له وليس من أجل استعباده بنقوده.
وأقول لمن يبحث عن فكفكة الصورة لتشخيص اساس مشاكل المواطن بسبب مزاجيّة وانتقائيّة من يحمل مقص الرقيب في دولة “الحداثة” والتي تمثل ثقافة الـ أنا، فالعولمة وأدواتها التقنية فرضت تحديات حقيقية على دول “الحداثة” لجميع أعضاء نظام الأمم المتحدة البيروقراطي، منها الشفافية واللامركزية للوصول إلى الحوكمة الرشيدة من خلال الاستعانة بالآلة لتقليل تكاليف تكوين فروع من أجل تقديم خدمات الدولة في أبعد نقطة في الدولة إن كانت قرية أو ناحية أو مدينة أو محافظة أو إمارة.
وأي دولة رفضت التعامل بشفافية ولا مركزية تعاني الآن أزمة وجود، والدليل على ذلك “اليونان” مهد الفلسفة التي تم بناء دولة “الحداثة” عليها في رمزية عجيبة غريبة، وتتبعها البرتغال واسبانية وإيطاليا بل وحتى فرنسا وكذلك بريطانيا، بالرغم من عضويتهم في الاتحاد الأوربي.
فما قام به بريمر عند احتلال العراق في 2003 من خلال تدمير سامري الدولة العميقة (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) كان هو الشيء الصحيح، الذي لم يتم عمله في الدول التي نجحت فيها انتفاضات أدوات العولمة (التي بدأها منتظر الزيدي بحذاءه على ممثلي النظام البيروقراطي الفاسد لنظام الأمم المتحدة في نهاية عام 2008، وهو نفس العام الذي أعلن فيه انهيار النظام الربوي للديون ما بين المصارف والبنوك) ولهذا نجحت الثورة المضادة على نتائج أي انتخابات نزيهة، والتي اعترف مؤخرا محمد البرادعي أنَّ أحد زعمائها هو الاسباني بيرناردينو ليون والذي هو الآن ممثل الأمم المتحدة لتمكين خليفة حفتر من قيادة ليبيا، مثلما حصل في مصر من تمكين عبدالفتاح السيسي.
ولكن ما لم يقم به بريمر هو عملية احصاء سكاني واقتصادي لجرد كل شيء حتى يمكن بناء أي عملية سياسية واقتصادية وتنموية بشكل صحيح، من خلال عدم ترك أي حجّة من حجج المظلومية بأن فلان أو علان أخذ شيء يتجاوز فيه عدده أو امكانياته على أرض الواقع، وهو ما نصحت به هيئة علماء المسلمين بقيادة د. حارث الضاري والذي تم انتخاب ابنه د. مثنى حارث الضاري أمينا عاما للهيئة بعد والده.
حيث من وجهة نظري أنَّ الحكمة تمثل خلاصة المزاوجة بين المُمارسة والمُدارسة والتي تكشف لك خبايا لم يُظهرها تدوين أهل الاختصاص في العلم الظاهر أو في العلم الباطن، كما أنني لاحظت أهل ثقافة الـ أنا ترفض الاعتراف بالتاريخ والجغرافيا، للاستعانة بالخبرة الإنسانية لتطوير إمكانياتها، والسبب هو عدم الرغبة بتحمّل مسؤولية تجاه الـ آخر أو الأسرة أو المجتمع.
كما تجده واضحا فيما يتم تدريسه في دورات البرمجة العصبية لتطوير الذات، فيما يطلقوا عليه الطاقة الإيجابية، من خلال البحث عن مكان عمل آخر، أو الهجرة، دون محاولة العمل على الإصلاح، حيث بدون الشعور بالانتماء لأي تاريخ أو جغرافيا، لن يكون هناك حاجة للتفكير في التطوير.
وهذه أهم آفة في ثقافة الـ أنا أو الفكر أو الفلسفة، ولذلك أنا من أنصار ثقافة الـ نحن أو اللغة أو الحكمة، وهذا ما جرّ انتباهنا في مشروع “صالح” لضرورة معالجته في عملية تطوير المناهج التعليمية لتكوين أي موظف في أي وزارة من وزارات الدولة، وخصوصا وزارة التعليم.
اللغة الأم، والترجمة، والوقت، هذا الثلاثي، العولمة والتقنية وأدواتها رفعت من أهمية كل منهم، حيث بدون هذا الثلاثي لن تستطيع المنافسة في أجواء العولمة، والتي فرضت الشفافية واللامركزية من خلال الآلة لتقديم خدمات الدولة في أبعد قرية وناحية ومدينة ومحافظة وإمارة بنفس كفاءة تقديم الخدمات في مقر الوزارة في العاصمة.
أنا لاحظت سبب المشاكل والإشكاليات في دولة “الحداثة” مفهوم (أتغدى به قبل أن يتعشى بي) وهو اسلوب الحكم الذي تتعامل به حرفيا ثقافة الـ أنا لشعب الرّب المُختار من قبل سامريّ الدولة العميقة (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية).
فقد تبين بالدليل العملي أنَّ الشعب في دولة “الحداثة” في خدمة وراحة السّامريّ (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية) وهذا ما كشفته العولمة وأدواتها التقنية، ومن هذه الزاوية أفهم الموقف السلبي تجاه العولمة وأدواتها التقنية من قبل مثقف وسياسي وتاجر النخب الحاكمة في دولة “الحداثة”، وكانت السبب في الهوّة الواسعة ما بين ثقافة الطالب مقارنة بثقافة الاستاذ في كل ما يتعلق بالعولمة وأدواتها التقنية.
وهو ما حاولنا تجاوز إشكالياتها عند بناء (مشروع “صالح” لتطوير الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات) ويمكنك البحث عنه على يوتيوب، أمّا بالنسبة لمستخدمي غووغل فيمكنهم البحث عن (الحوكمة الرشيدة في دولة الحداثة ومشروع “صالح”).
ما رأيكم دام فضلكم؟