انطباعات شخصية عن الشاعر أديب كمال الدين: نبرة لاهوتية ودموع سخية حيال الأخطاء والنقائص

حجم الخط
0

منذ أن بدأت بالتعرف على تجربة الشاعر العراقي أديب كمال الدين، وأنا أجد في الذهن بعض المشابهات. كأنني أعرف هذا الشاعر.
وفي البداية تصورت أنه من جنوب لبنان بسبب الإحالات المستمرة لمأساة الإمام الحسين.. والنبرة اللاهوتية التي تربط كل شيء بمسائل الوجود والإيمان، ولكن في ما بعد انتبهت لإحساسه المتناهي بالذنب، والعمل الدؤوب بحثا عن المغفرة. وهذا هو الحال في المجموعة الصادرة في مطلع عام 2015عن دار ضفاف بعنوان «رقصة الحرف الأخيرة».
لقد كان لدى الشاعر في هذه القصائد ضمير مستيقظ يمنع عنه النوم، يفرض عليه ساعات من السهر الطويل، وخلالها يراقب النجوم والظلام، ولكنه لاحقا يؤكد أنه ظلام ينتشر من داخل التجربة اعتباطيا ليخيم على حياتنا. والتجربة لديه نوعان: جحيم الطاغية الذي لا يتفاهم مع الحرية، وعذاب المنفى والضياع والتشرد. وهكذا تحولت الحياة إلى سيرك، والمدينة إلى مربع أضلاعه كما يقول «السجن والرعب والموت والظلام».
ومن هذه النقطة تطورت حساسيته الشعرية إلى نوع من المغامرة. فاكتشافه لتجارب الذات هي مثل التخبط في المجهول. وأجد أن هذه هي خلاصة تجربته مع الشعر. إنه يؤمن مع النفري بأنه كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وكان عليه من هذه الحقيقة أن يعمل دائما على تحدي الكلمات والحروف. 
إن أديب كمال الدين بهذا المعنى ليس من شعراء التصوف التقليديين، ولكنه من شعراء الوجود. إنه إنسان دهري يرى أن الكلمات هي نفسها المعاني، ومهمته تقتصر في المطابقة، أن يعيد للحرف المعنى الحقيقي. أو ما يقول عنه هيدجر معناه بذاته. وعليه فإن الشاعر لا يضيف شيئا ولا يلغي شيئا. ولكن كما قال في قصيدة السيرك إنه:
يزيح الستار قليلا
كي نرى ما يخفي… الدهر
إن هذا اللون الجديد من التصوف، بتعبير جون ماكوري، يتعامل مع الإنسان والحياة ككل، أو كواقع متعين وموجود، وإذا كان الاحتجاج هو في أساس هذه الفكرة فهو يؤكد على لا مسؤولية الوجود الفردي. وأعتقد أن أديب كمال الدين نجح في هذه المهمة أيما نجاح. إنه في مغامرته مع الشعر ينيط بالكلمات التصور الأساسي الذي ينبع من ذاته.. من بذور الفكرة التي تعهدها في ذهنه، ولذلك يتساوى عنده معنى المرأة والمرآة. فكلتاهما مؤنث في اللغة.
وكلتاهما مثال نموذجي للنرجسية والأنانية والتقليد ومحاباة الذات. كلتاهما تحاولان التغطية على دمامة الواقع، على الرغم من المعرفة المسبقة أن التستر على الخطأ لا يعفي الإنسان من السقوط. وأيضا تتساوى في قصائد الشاعر الحركة مع السكون، ويرمز لذلك بترادفات مثل صور البحر والمرآة.
يقول عن ذلك:
فسبح البحر في المرآة
انكسرت المرآة لسبب مجهول
فضاعت المرأة.

إن حركة واضطراب أمواج البحر لا تغنينا عن ملاحظة الاضطرابات النفسية والعقد التي ننطوي عليها تحت سطح من المظاهر الصامتة والمبتذلة، ولذلك كانت العلاقة بين الندين علاقة إلغاء، فالبحر لا يتماهى مع المرأة ولكن يلغيها. وهذا يفتح الباب أمام تنافي الصور وتكامل المعاني. وديالكتيك شعرية أديب كمال الدين يعتمد على استيعاب الملموس بالإدراك.
وخير مثال على ذلك أجواء قصائده. فهو لا ينظر لعالم الأشياء كما نراها، ولكن كما يشعر بها.. ولهذا السبب تتخلل القصائد أجواء سريالية ويتحكم بها جو ضبابي. وتتطور الحياة ضمن علاقات تتحكم بها أحلام الهيلة (الكوابيس، الأحلام المرعبة التي يسودها جو من العنف والسقوط والسحر الأسود). 

* * *

لا توجد تشابهات حقيقية بين أديب كمال الدين وشعراء بواكير الحداثة، ولذلك فإن متوالية التوريثات، التي وردت في إحدى قصائده تبدو لي مثل تكريم لبعض المراجع التي تركت أثرا أسميه المتبقي في ذهن ونفس الشاعر. وحتى هذا الإرث أرى أنه غير حقيقي، وهو مجرد رمز يتحرك في اللاشعور، من دون أن تعرف بالضبط السبب.
ماذا يجمع الشاعر مع تيد هيوز وطليقته سيلفيا بلاث.. كيف يساوي بين النرجسي والأناني هيوز (الذي ورثه الغراب المحبوس في القفص والهرطقة والتجديف) وزوجته الرقيقة بلاث التي ورث عنها مرآتها الحمراء، والتي عاشت في ظل الخطر الداهم من جراء انحرافات مرضية في السلوك والتواصل. فهي كما ذكر في هذه القصيدة:
كانت تنتقل من نهر إلى نهر
حتى وصلت إلى البحر
فتحولت إلى مركب عظيم من المرايا.

إن لأديب كمال الدين ذاتية انجراحية تعاني من الانكشاف والالتحام، بمعنى التمكين. بينما لسيلفيا بلاث فلسفة قوامها التخلي، بمعنى الانفصال والقطيعة والتغريب. ولكن للتوضيح فقط يمكن أن أقارنه بمشروع جورج سالم القاص السوري مؤلف «عزف منفرد على الكمان».
فكلاهما (الشاعر والقاص) يحب الانفراد بنفسه، والضياع في الطبيعة، والاحتكام للذات، مهما كانت الظروف معقدة وكآبية. وهما معا يعتقدان أن مصدر القيمة يكون من داخل التجربة. وأن المعيار هو حياتك، بكل ما تنطوي عليها من ندم وقلق وإحساس بالسقوط وبكل ما تفرضه من موجبات لطلب المغفرة.
وإذا كانت دموع أديب كمال الدين سخية حيال الخطأ والنقائص، فإن جورج سالم يختار التطهير وبالأسلوب المسيحي من أجل التوازن النفسي، وربما الخلاص.

كاتب سوري

صالح الرزوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية