انطباعات صغيرة لرجل كبير

حجم الخط
1

في ذلك اليوم العصيب من أيام صيف 2011، اضطر الأديب إبراهيم أصلان لمصارحة قارئه، بمشاعر القلق التي تتزايد لديه، كلما اضطر لكتابة مقال له طابعه السياسي المباشر، قائلاً: «كأنني أمد يدي لأسحب خلسة حقيبة العدة الخاصة بواحد من هؤلاء الأصدقاء المشغولين بالشأن السياسي المباشر، أفتحها وأستخدم ما تحتويه من مفاتيح ومفكات وخلافه، بينما الأصل أن يقوم كل واحد في هذا البلد، بالعكوف على عمله، ومحاولة إجادته ليس أكثر من ذلك ولا أقل».
لكنه التمس لنفسه العذر، لأن الظروف الاستثنائية المحيطة دفعت الكل إلى الحديث في السياسة، ولم تترك له مساحة يلتقط فيها الأنفاس، ولأنه كان حديث العهد بظاهرة التعليقات على المقالات، فقد أعلن استغرابه من غضب بعض قرائه من آرائه السياسية وانطباعاته المنفعلة بالأحداث قائلاً: «دعك من قارئ يصيح بك معلقاً: انت بتقول إيه؟ وهو يوغل في تكرار حرف الهاء حتى ليبدو في نظري، كأنه يموء مواء لا يليق، كأنه يظنك تكتب له وحده، رغم أنك في أول الأمر ونهايته، مجرد كاتب يكتب ما يشاء، بينما هو قارئ لا يجبره أحد على قراءة ما لا يشاء، أفكر في هذه المسائل كلها وأنا جالس وحدي في قلب الليل، غير قادر على تنحية ما هو سياسي خارج الحجرة، بل يظل مشهد الحجرة الافتتاحية لمحاكمة مبارك، لا يغادر مخيلتي إلا ليأتي».
وسط مشاعر تدرجت من الفخر والحماس إلى القلق والارتباك، وصولاً إلى الحزن والأسى، يروي عمنا إبراهيم أصلان انطباعاته عن تقلبات شهور الثورة، التي جُمعت في كتاب صدر بعد وفاته، بدون أن يحرم قارئه من «المسرّات العابرة»، حين يحكي عن تطورات مشروع لشراء «الفِشّة والممبار» تقوم به أم مرسي وزوجها المذهول بما يتابعه من محاكمات رموز نظام مبارك، وعن بائع البصل الأخضر المشغول بمصير الفلوس التي سرقها مبارك «وخبّاها برّه»، وعن بندقية صيد العصافير التي يستند إليها ليروح في النوم وهو يحلم بمطاردة البلطجية الهاربين، وعن أبيه الوفدي القديم الذي حكى عن مقولة «لو رشح الوفد حماراً لانتخبناه»، ثم سأله: «عارف ليه كانوا بيقولوا كده؟»، وحين لم يجد إبراهيم الصبي إجابة، شرح الأب: «لأن الناخبين لم يكن يهمهم شخص المرشح، بل البرنامج الذي يمثله، يعني الناخب يدي صوته لبرنامج مش لمرشح، فهمت يا حمار؟». عن سائق التاكسي الذي قال له: «أنا باشبِّه على حضرتك، إنت مخرج سينمائي، صح؟» فرد العم إبراهيم: «للأسف لأ، لكن عندي واحد صاحبي مخرج سينمائي فعلاً»، فرد السائق بثقة: «يبقى علشان كده بقى». عن الأستاذ مرزوق الذي جاوز الثمانين وصديقه الأستاذ منصور الذي جاوز السبعين، اللذين يتابعان أحداث الميدان ويناكف أحدهما الآخر أثناء لعب الكوتشينة، وحين قال منصور لصديقه إنه حلم إنه طلعت له أسنان، وقعد على الكنبة يأكل الخيار، فقال له مرزوق إن هذه بشرة خير، وحين استغرب منصور الرد، قال له: «إحمد ربنا إن طلعت لك حاجة زي كده، لأن دي أيام صعبة قوي،»، فيستنكر منصور التلميح: «هو إنت كل حاجة تدخلها في الحاجات دي؟»، فيرد مرزوق: «حاجات إيه يا راجل يا حمار، وسنان إيه اللي عاوزها تطلع لك؟ الواحد في الظروف دي ممكن يطلع له ديل، مش أسنان، وبعدين أسكت بقى خلينا نسمع الناس دي بتقول إيه؟».
في انطباع كتبه بعد أسابيع من خلع مبارك، يتذكر إبراهيم أصلان العاشق القراري للحياة والبهجة، أيامه القديمة في إمبابة، حين كان يسهر مع كتبه والناس تسهر من حوله، وأذناه تلتقطان الضحكات والقهقهات التي تتردد في بيت أو آخر، فيخمن مصدر الضحكات المتناهية إلى سمعه، «قبل أن تخفت الضحكات مع الأيام التي طالت وصارت الدنيا موحشة، وكست الكآبة وجوه الناس، وفي أيام الثورة انفرجت الوجوه، صحيح أنها خلفت وراءها قلقاً، لكن يبقى أن مصر قد عادت لما عاودتها قدرتها على صناعة المرح المدهش العميق». لكنه بعد أشهر، حين وقعت مذبحة ماسبيرو يكتب: «كان مشهداً غاية في البشاعة والقبح، إلا أنه لم يكن مفاجئاً أبداً، لأننا في حقيقة الأمر استكثرنا على أنفسنا أن يظل العالم محتفظاً لنا بالصورة المبهرة التي قدمناها… ونحن نحمد الله أننا عملنا طوال الشهور الماضية بكل الدأب والإخلاص على تشويه هذه الصورة الجميلة المتحضرة التي بدونا عليها، وأكدنا لهم أننا لسنا كذلك دائماً، هكذا قمنا بكل ما نقدر عليه حتى توجناه بما جرى في ماسبيرو».
حين تتدهور حالته الصحية يكتب الأستاذ: «حرمتنا نعمة الثورة من فضيلة التأمل في شأن هنا أو شأن هناك، وكيف بك أن تستبصر شيئاً في مواجهة الدنيا، وقد تحولت جميعها إلى مشهد غائم بالغ الارتباك يبرق في قلبه حلم، أنت الذي صار لا يتبين ترجمات الأفلام جيداً إلا إذا اقترب، ولم يعد يأخذ ما يقوله محدثه مأخذ الجد إلا إذا حدثه بصوت مسموع، ولم يعد يرتدي بنطلونه إلا وهو جالس في مقعد أو على كنبة خوفاً من وقوع محتم سوف يؤذيه، والذي مضت عليه سنوات الآن يدخل فيها المرحاض كي يتبول، فيستدير ويغلق على نفسه جيداً ويدير أكرة الترباس، بعد ما انقضت الأيام التي كان يدخل فيها خفيفاً ويعري نفسه ويبول متمهلاً، بينما الباب مفتوح وراءه عن آخره وهو واقف، والذي لم يعد يتمكن في المحافل غالباً من فتح سدادة زجاجة المياه المعدنية إلا إذا فتحها لك رجل أو سيدة، بعد ما يلمحون جهودك شبه المضنية، رغم محاولاتك أن تخفي ذلك، وتقول بينك وبين نفسك، لله الأمر من قبل ومن بعد».
قبل أسبوعين من موته الفاجع لمحبيه، يختم العم إبراهيم انطباعاته بالتعليق على أحداث مجلس الوزراء الدامية التي سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى برصاص الجيش والداخلية، وفُجع الملايين بمشهد تعرية ست البنات في التحرير وركلها في صدرها، فيسرد أولاً ما رآه من مشاهد مخزية، كأنه يحفظها بإعادة كتابتها من التزييف والنسيان، قبل أن يختم متسائلاً: «كيف سمحنا أن تبدو قواتنا المسلحة أمام العالم أجمع بهذه الصور التي تجاوزت ما نراه في سوريا والأرض المحتلة. إنها خيبة أمل كبيرة وكسرة خاطر شعب بكامله. لقد بنى هذا الجيش مكانته التاريخية في قلوب المصريين على مدى سبعة آلاف عام، فكم نحن بحاجة من الأعوام لاستعادتها؟».
لم يعد الكثيرون يتذكرون ما كسر خاطر إبراهيم أصلان، فقد توالت من بعده مآسٍ وجرائم أنست بعضها بعضاً، رغم كسرها قلوب الملايين في بيوت مصرية، ولم يعد الكثيرون مشغولين بالتفكير في كيفية استعادة الجيش لمكانته، لأن المأزق المصري أصبح أعقد وأضل، لكن سؤال العم إبراهيم وما يرتبط به من أسئلة تفصيلية عن الانتهاكات والجرائم والخطايا، ستظل تواجه الجميع مهما هربوا منها، ولكن فقط حين تتأكد غالبية المصريين، من استحالة أي نجاح للتغيير السليم، في ظل استمرار واستفحال «التسلخات» والتلفيقات. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ـ «انطباعات صغيرة حول حادث كبير» ـ إبراهيم أصلان ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب.

٭ كاتب مصري

 

انطباعات صغيرة لرجل كبير

بلال فضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    لو عاش العم ابراهيم ” وشاف اللي بيعملو السيسي ح يقول إيه”؟

إشترك في قائمتنا البريدية