المجتمعات ما قبل الحديثة مجتمعات تراتبية، بهرميات مركّبة تزداد تعقيداً مع حيوية «الأجسام الوسيطة» بين الحاكم، أو الطبقة الحاكمة، وبين المحكومين، أو الرعايا، هذا إذا كان من الممكن رسم خطوط فصل واضحة بين «الأجسام الوسيطة» وما «فوقها» أو «تحتها». هذا يصح بالنسبة، يكاد يكون، إلى المجتمعات المسيحية أو الإسلامية أو الهندوسية ما قبل الحداثة سواء بسواء، وإن اختلف نظام التراتبية، ومفاتيح تسويغه بين المجتمعات، وخصوصاً من ناحية الأنساق والممارسات الدينية، فالمراتب الدينية المهنية الوراثية في نظام «الكاست» بالهندوسية (المؤصل دينياً بـ»الألوان» أو «الفارنا» الأربعة، أي الكهنة فالأمراء فالتجار والصناع فالخدم) أكثر تعقيداً ومنعة وربطاً للعباد بنسقها، من التراتبيات التي كان معمول بها شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط مثلاً، ولا تزال تحافظ على نفسها (أو بالأحرى تجدّد في «إطارها») إلى اليوم في الهند، رغم أنّ «نظام الكاست» هذا لا مسوّغ له من الناحية القانونية فيها، بل أنّ بعض مترتباته المباشرة يعاقب عليها القانون.
في المقابل، انهارت، في أوقات متتالية / نعم، وبسياقات جد مختلفة / نعم، ونتائج تكاد تكون متضادة / نعم، معظم المجتمعات التراتبية المسيحية أو الإسلامية على كوكب الأرض. عنى ذلك بشكل أساسي انهيار الأرستوقراطيات، الوراثية أو غير الوراثية، الحضرية أو الريفية، المرتكزة إلى نبالة الدم أو إلى نبالة السيف (بمن فيها تلك القادمة من نظام الرق، كالمماليك)، وضعف أو تشتت «الأجسام الوسيطة» بين الحاكم والرعية، بل الانتقال من قسمة «الحاكم والرعية» التي تستوعب وسائط ووسطاء، إلى قسمة «الحاكم والمحكوم» الحديثة التي لا تستوعب طرفاً ثالثاً (لا فرق هنا ان جرى تأدية هذه القسمة في قالب ديمقراطي أو ديكتاتوري).
هذا الانهيار الكبير في المجتمعات التراتبية، واختزال هرميتها المركبة إلى ثنائية «الحاكم والمحكوم»، يستمدّ الكثير من صوره، ورموزه، وايحاءاته، وكوابيسه، من حوادث «الثورة الفرنسية»، نظراً لجذريتها في الغاء نظام المنازل الثلاثة (الاكليروس، والنبالة، والمنزلة الثالثة وعلى رأسها البرجوازية). لكن «النظام القديم» القائم على التصور التراتبي لتنظيم المجتمع ظلّ محتفظاً بحيويته وممانعته في أوروبا لفترة طويلة بعد الثورة (يراجع خصوصاً كتاب المؤرخ ارنو ماير عن «استمرارية النظام القديم»)، ولم يفكك فعلياً، وتهمّش النخب الأرستوقراطية، إلا بنتيجة الحرب العالمية الأولى، التي لعبت فيها النخب الأرستوقراطية دوراً مهماً في تسيير جيوشها واضفاء الصفة الملحمية على جبهاتها، في واحدة من مفارقات التاريخ. كذلك الكنيسة، ركيزة المجتمع التراتبي المسيحي، فإن نفوذها في القرن التاسع عشر ازداد بدلاً أن يتراجع، ودورها الارسالي والتبشيري في المستعمرات، واكبه توسع لهذا النفوذ في المناطق الريفية، حتى في فرنسا الجمهورية، قبل الطلاق النهائي بين الدولة والكنيسة وبين الكنيسة والمدرسة العمومية عام 1905.
لأجل ذلك، اختزال مقولة «العلمانية» في هذا الفصل وحده غير سليم. اعتبار أن هناك «مواءمة» جوهرية بين ديانة بعينها وبين العلمانية أيضاً غير سليم، ولا تنفع كثيراً حيلة القول بأن العلمانية بضاعة المسيحيين ردّت اليهم، أو أنّ العلمانية ينحو اليها الإسلام بالفطرة. هذه تخريجات اما سجالية واما دعائية. لا يمكن بالمنظار التاريخي اصطناع علاقة «جوهرية» بين دين بعينه وبين العلمانية، هذا بشرط تمييز سياقها. وتمييز السياق لا يعني أن كل مجتمع هو جرم يتحرك في فلك قائم بذاته.
في معظم المجتمعات المسيحية كما الإسلامية انهار نظام التراتبية، بنخبه الأرستوقراطية (التي كانت النخب الأريستوقراطية الاكليروسية في آن، كالبراهمة والأشراف من بينها)، وأجسامه الوسيطة التي كان يقودها أساساً رجال الدين. العلمانية بالمطلق هي التدبير القادر على التعامل مع وقائع انهيار المجتمع التراتبي هذه، وكيفية التدبّر في مجتمع لم يعد هناك فيه مطرح أساسي للأجسام الوسيطة بين الحاكم والرعية، لأنه بدلاً من هذه القسمة ما قبل الحديثة تبلورت قسمة حديثة تقوم بين الحاكم والمحكوم، بصرف النظر إذا طابقت الحداثة نفسها هنا، فصار المحكومون هم مواطنون ينبثق من بينهم الحاكم، أو فرضت على المحكومين صورة الرعية دون أن يكون ممكناً في عالم اليوم اكمال باقي الصورة. فالتراتبية في التصور السائد في التاريخ الإسلامي الوسيطي مثلاً هي تراتبية «المنازل الثلاثة»، الأمراء والفقهاء والعامة، وهذه التراتبية لم يعد بالامكان اكمال صورتها يكاد يكون في معظم أقطار العالم الإسلامي، بما في ذلك في إيران القائم نظامها على عقيدة «ولاية الفقيه»، فهذا الفقيه الواحد النائب عن الامام الغائب أو وكيله، يلغي عملياً مكانة الفقهاء ورجال الدين في المجتمع لصالح «الحرس الثوري»، أي «الأمراء»، انما هذه المرة امارة من دون ذرّة أرستوقراطية لا موروثة ولا مكتسبة. كل فلسفة الامام الخميني قائمة على كيفية عيش الإسلام مجدداً في مجتمع تنهار فيه التراتبية، وكيفية دفع أزمة هذه التراتبية إلى خواتيمها المقبولة، من دون ان يصيب ذلك حيوية الإسلام نفسها في المجتمع. وجد ضالته في مثال «الملك الفيلسوف» الأفلاطوني، وحاول تلبيسه نسقاً فقهياً، بولاية الفقيه، مغفلاً أن الملك الفيلسوف هو رأس مجتمع تراتبي بامتياز، في حين أنه سيتحول إلى ملك قليل الحظ بالفلسفة في مجتمع يعيش أزمة تراتبية، وتندثر فيه النخب الأرستوقراطية (بفعل الثورة خصوصاً)، وتتضاءل فيه «وساطة» الفقهاء حين يرفعون، أو يرفع أحدهم إلى درجة الحكام، أو الحاكم بأمره، ويهمّش الباقون.
والمفارقة من الناحية «السنّية» أن هدم المجتمع التراتبي ما قبل الحديث بدأ مع الحملات، سواء من داخل الصوفية (في حالة النقشبندية)، أو من خارجها (في حالة الوهابية)، ضد التعبد للأولياء والأضرحة، ثم ضد كل نسق الإسلام الطُرُقي والخانقاه أو التكايا كأجسام وسيطة (مع ما برز من نزوع حيوي في النقشبندية من أجل تفكيكه كنسق ثم محاولة احيائه عندما يتفكك)، ثم امتد التفكيك للأجسام الوسيطة التي شكّلها الفقهاء. وفي الحملة على «التنظيم الطرقي» للمجتمعات الإسلامية، اتفقت الوهابية مع الأتاتوركية (وفي تركيا ستتمكن الطريقة الصوفية الأقرب إلى مناهج أهل السلف، أي النقشبندية، وليس الأبعد، من بلورة بدائل «تعايشية» مع الأتاتوركية، مع تجربة الشيخ النورسي). صحيح انّ النظم العسكرية ستحتاج لاحقاً لمساعدة يقدمها لها الفقهاء كما الطرق الصوفية، لكن حينها لم تعد هذه الأجسام وسيطة بين راعي ورعية، صارت جزءاً من «الأجهزة الأيديولوجية للدولة»، وهي لم تكن كذلك ما قبل الحداثة.
وكما في الخمينية، كذلك في «الإسلام السياسي» السني. محاولة لايجاد حل لأزمة انهيار المراتب، أو المنازل الثلاثة (الأمراء، الفقهاء، العوام). ما سيميز الإسلام السياسي السني العربي عن الإسلام السياسي في شبه القارة الهندية أن حسن البنا وسيد قطب ليسا من الفقهاء مجتمعياً، ولا من خريجي الجامع الأزهر، بخلاف «اكليروسية» أبو الأعلى المودودي مثلاً. لكن، سواء في الحالة العربية أو الباكستانية نفس المشكلة: الحركة الإسلامية التي تواجه تراجع معاشات الأسلمة في المجتمعات وتعتبر ذلك خطراً علمانياً، «تعلمن» هذه المجتمعات من جهتها حين تجهز أكثر فأكثر على قسمة «أمراء – فقهاء – عامة»، مرة إذا ناقضت أي تصور يعطي العامة «شرعية ديمقراطية»، ومرة إذا جعلت العامة فقهاء، ومرة إذا جعلت الفقهاء أمراء، ومرة إذا جعلت الأمراء فقهاء، وهكذا.
العلمانية في سياقها الإسلامي تبدأ من تسجيل سرد المفارقات هذا. مجتمع مبني على ثلاثة «أمراء وفقهاء وعامة» لم يعد قائماً في معظم البلدان الإسلامية. الجواب على سؤال «ما العمل اذاً؟» هو جواب علماني حكماً، طالما ان المفترض عليه الاجابة ليس فقيهاً ينصح باحياء ثلاثية «الفقهاء والأمراء والعوام». والحركة الإسلامية، طالبت على مدى قرن من تاريخه، بأشياء كثيرة ومختلفة بين تياراتها ومراحلها، احياء الخلافة، الأمر بالمعروف، اقامة الحدود، اقامة شرع الله، الحاكمية الالهية، الشورى، الدولة الدينية بمرجعية إسلامية، لكن السؤال الأساسي كان وما زال: ما العمل في مجتمع مسلم بأعمّه الأغلب – باستثناء السياق السعودي – انهارت فيه ثلاثية «أمراء وفقهاء وعوام»؟ هذا السؤال يعني أن الكثير من النقاش حول العلمانية وامكان او استحالة اعتمادها إسلامياً هو نقاش بلا قيمة. العلمانية هي السياق التاريخي القائم، اضطراراً أو تبنياً له، فصاماً عنه، أو غلواً فيه، أو سعياً من خلاله للتوازن مع الممارسات الدينية، بمجرد انهيار المجتمع التراتبي القديم والأجسام الوسطية وثنائية الحاكم والرعية لصالح ثنائية الحاكم والمحكوم. كل التحدي هو اقرار هذه العلمانية القائمة بالفعل، والتي لا يفعل الإسلاميون إلا توسيع مداها (وجعل التصالح مع هذا المدى مستحيلاً في آن، من خلال نبذ كل تركة التنوير) أيضاً، طالما ان معظم هؤلاء الإسلاميين ليسوا رجال دين وفقهاء، واذا كانوا من العوام أرادوا أن يصيروا فقهاء وأمراء، واذا كانوا فقهاء أرادوا أن يصيروا أمراء.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
اعترف لك سيد وسام ان مقالاتك تدعوني لقراءتها اكثر من مرة
–
لما تحتويه من ثراء فكري عميق
–
بالنسبة للتراتبية في المجتمع الهندوسي فالوافدون الاريون هم من كرسها
–
في المجتمع الهندي بنصوص من حديد
–
وتحياتي
العلمانية امر بعيد في مجتمعاتنا لاننا ان تقدمنا خطوة الى الامام نتراجع خطوتين فاني اعتقد ان محتوى المقال لا يتطابق مع مجتمعاتنا فالتراتيبية كما ذكرها الكاتب موجودة في مجتمعاتنا في صيغ اخرى ولا اعتقد ان الاستاذ وسام سعادة لا يعرف مجتمعه اللبناني فالتراتيبة واضحة في الامراء (العوائل التي تقود الطوائف)و الفقهاء (رجال الدين المسيحي والاسلامي والاقليات الاخرى) والعامة هم مجموع طوائف المجتمع .وفي المغرب والاردن وباقي دول الخليج لا يختلف الامر كثيرا عن السعودية الا بالترتيب حيث الامراء ورجال السلطة ثم الفقهاء والعامة قد تكون تونس الوحيدة التي يمكن ان تسمى علمانية .وحتى بعض الانظمة التي كان البعض يسميها علمانية كنظام البعث في العراق فقد كانت هناك تراتيبية من نوع اخر.فالامر لا يتعلق بالاديان بقدر ما يتعلق بثقافة المجتمع وعاداته
ركيزة المجتمع التراتبي المسيحي، فإن نفوذها في القرن التاسع عشر ازداد بدلاً أن يتراجع، ودورها الارسالي والتبشيري في المستعمرات، واكبه توسع لهذا النفوذ في المناطق الريفية، حتى في فرنسا الجمهورية، قبل الطلاق النهائي بين الدولة والكنيسة وبين الكنيسة والمدرسة العمومية عام 1905.
ركيزة المجتمع التراتبي المسيحي، فإن نفوذها في القرن التاسع عشر ازداد بدلاً أن يتراجع، ودورها الارسالي والتبشيري في المستعمرات، واكبه توسع لهذا النفوذ في المناطق الريفية، حتى في فرنسا الجمهورية، قبل الطلاق النهائي بين الدولة والكنيسة وبين الكنيسة والمدرسة العمومية عام 1905.
هذا النمط في الحكم متواجد في كل البلدان حتى التي تدعي العلمانية ,فرنسا و كلّ أوروبا الملكية و الجمهورية,و كذلك النظام السوفييتي فالطبقية تختلف في المنوال فقط,فالقانون الفرني 1905 جعل خصيصا لاليهود و البروتستانت,لكنّه حوّر لما طالب المسلمون بحرية اللباس و التجمهر تمّ تعديله,الغرب منذ سقوط جدار برلين و هم يخضون حربا صليبية على الاسلام و المسلمين كما كان في سالف العصور ,ثقافيا بالافلام حتى في البلدان العربية و الاسلامية بتمويل غربي ,كذلك تغيير المناهج التدريسية بوأد الكتاتيب و المدارس الدينية,طبعت كتب للمستشرقين تشكك في الاسلام ,و الغرب يحمي كلّ من يمس العقيد أشهرهم سلمان رشدي و آياته الشيطانية ثمّ الكريكاتير في عدة بلدان كالدانمارك و هولندا و فرنسا جريدة شارلي هيبدو مثلا,و كتابة آيات قرآنية على جسد الصومالية العارية و فيلم اباحي للرسيول من صنع قبطي في أمريكا,حرب الخليج ابتدأت بعد الهدنة بين العراق و إيران,حصار العراق و الحرب بعد غزو الكويت و هي المكيدة التي تبتها امريكا,أجد المقال ليس له معنى الا الدعوة للقبول بالنظام العلماني بكل مساوئع و هذا لا يتوافق مع ديننا الحنيف الدي يدعو للفضيلة و الاخلاق الحميدة.