استقر في اللسانيات الحديثة أن الأسماء وغيرها من الكلمات علامات اعتباطية ليس في دالها أو في جزء منه ما يبرر مدلولها أو تسميته بذلك الاسم. غير أن هذا الكلام لم يكن سائدا حين وضع إفلاطون « الكراتيل» ونقل فيه تلك المحاورة الشهيرة حول دقة الأسماء وانضباطها، وقد دارت بحضور سقراط ومشاركته الفعالة بين كراتيل وهرموجين.
يعتقد كراتيل أن الأسماء مضبوطة طبيعيا، وأن الطبيعة وفرت لكل شيء اسما «طبيعيا» دقيقا؛ بينما يعتقد هرموجين أن دقة الأسماء أمر عقلي نابع من المواضعة بين البشر. وعن هذين الموقفين نشأ الرأيان العريقان حول أصل اللغات، أهي طبيعية أو عقلية مواضعاتية؟
لن نعود في هذا المقال إلى شيء مما استقر قديما أو حديثا لكن سيكون همنا إثارة مسألة لا تثار عادة، هي اهتراء الأسماء. فالأسماء شأنها شأن الأشياء تعيش فتنتعش أو تدور على غير ما أريد لها فتبلى.
من المعلوم أن هناك من الأسماء ما يظل يعين أشياء عامة أو موضوعية وتظل تلك الأسماء في توازن لا تزيد قيمتها أو تنقص مع الاستعمال فالباب أو الشباك أو المفتاح أو السمك أو الجدار، أسماء استخدمت وما تزال تستخدم في معانيها وتظل تحافظ على ما يمكن تسميته بنواتها الدلالية الصلبة سليمة. غير أن هناك من الأسماء ما لا يحافظ على نواته الصلبة فيهترئ لجملة من العوامل لجملة من العوامل ترتبط بإدراكنا للكون.
اهتراء الأسماء لا يكون بكثرة تداولها كما هو الحال في اهتراء الأشياء، بل في زئبقية دلالتها. زئبقية الدلالة تكون بأنْ يستعصي معنى الكلمة عن أن ينضبط، وهذا يكون أغلب في المفاهيم المجردة التي هي في الأصل تمتنع عن أن تدرك لها رسما خطاطيا معلوما. فمن اليسير أن ندرك رسما خطاطيا عاما لاسم من نوع شجرة وجَمل، لكن أن نرسم خطاطيا معنى شرف أو مجد فذلك يبدو أعسر. ليس لأن هذه المفاهيم مجردة بل لأنها واسعة وأحيانا فضفاضة، ولأنها كذلك تكون محاصرتها عسيرة النوال.
يلعب السياسيون الكليانيون في العالم على زئبقية المفاهيم، وقد يسخرون الإعلام وهو أداتهم الفضلى، في ترويج مفاهيمهم لهذه العملية. فالعدل و الحرية والديمقراطية أسماء تستخدمها الأنظمة الكليانية، مثلما تستخدمها الأنظمة الديمقراطية في العالم لتسمي بها ممارساتها للسلطة؛ وربما أقنع الجهاز السياسي الحاضن للنظام الكلياني هرم السلطة، بأن لتلكم الأسماء معناها الحقيقي في الممارسة. ومن الشعارات البراقة التي كنا وما زلنا نسمعها أن «حريتك تقف عندما تبدأ حرية غيرك»، لكن غيري قد يكون سلطة قامعة فهل لحدود حريتي الفردية هذا الضيق حتى تنحسر وتتراجع أمام القهر؟ للحرية الفردية حدودٌ قد تتداخل مع حرية الآخر وقد تتفاعل معها، لكنها لا تتراجع أو تتوقف. في النظام الكلياني يختار الحاكم معارضيه على مقاس معلوم ويسمي الجو السياسي بالديمقراطية، ومخالفيه الذين اختارهم بالمعارضة ويسمي صحافتهم بالصحافة الحرة، ويزعم أنها تعمل في مناخ مثالي من حرية التعبير. يرسي النظام الكلياني شبكة من المفاهيم لأسماء تدل في الأصل على معانيها الأصيلة، وتسعى تلك المفاهيم الهجينة إلى تهرئة المفاهيم الأصيلة وقد تنجح وإن كان إلى حين.
حين تهترئ الأسماء على يد مستعملها تغادر دلالتها الحقيقية، ويصاب من يتلقاها بشيء من الرعاف الفكري أو المفاهيمي يجعله مصدوما بالفارق بين ما عليه المفهوم، وما هو متداول، أو يجعله عازفا عنه لا اسما فقط، بل ممارسة وإدراكا. ومن هنا لا يمكن أن نعتبر أن الأسماء مجرد معينات للمرجعيات الخارجية، بل هي معينات لمُدْركات ونفسيات تؤثر في ميوعة المسمى.
إبان اندلاع الثورة في ما يعرف بالربيع العربي، كان لعبارات الثورة ومرادفاتها صدى عذب، عاشت أغلب المجموعات اللغوية على عبقه؛ غير أن كثيرا من الناس، وحين اكتشفوا أن السياسات خانت انتظارهم، خبا مفهوم الثورة لديهم. فالثورة التي كانت تعني تغييرا لا في هرم السلطة، بل انقلابا على النظام الديكتاتوري باتت عندهم – هم الذين باتوا يائسين من الثورة أسلوبا في التغيير- رديفا للانتكاسة وتهاويا إلى السحيق وتقهقرا في حركة التاريخ. وصارت كلمات من نوع احتجاج وإضراب لا تلقى البريق الثوري الذي كان لها، بل صارت عند جماعات معينة تعني تعطيلا للعمل. من عاش الثورة في بداية القرن العشرين، ومن عاش على أمل الثورة على البورجوازية، ومن عاش الثورة بالمفهوم العربي في سنواتها الأخيرة، سوف يعلم جيدا أن هذا المفهوم لم يبسط فقط، بل اهترأ في أركانه الأساسية، حين يصبح للشعور العام حدس بأن ما وقع ليس كما انتظرته الجماعة، فسيكون الأمر متعلقا عندئذ بنقد فطري للمفهوم يجعله يراه ليس كما انتظره. العامة لا تنتج خطابا ناقدا للمفاهيم التي تحملها الأسماء، ولكنها تنتج خلف امتعاضها من المفاهيم ومع ازدراء الأسماء، شيئا من عدم الرضا، بأن ما كان ليس هو ما ينتظر من المفهوم.
الثورة والأزمة وغيرهما من الأسماء، وصلتنا بعد دورات من الاستعمال والاهتراء. وبتأمل هذه الأسماء في أصل نشأتها تأملا يسمى في اللسانيات إيتيمولوجيا يلحظ أن مفهوم ثورة كان لاتينيا، وكان يعني الرجوع إلى الزمن السابق أو استعادته أو عودة الأرواح بهجرتها بالموت إلى جسم آخر. المهم أن حركة الثورة في هذا المفهوم لم تكن تقدمية، بل ارتدادية أو تراجعية، وتطور الاستعمال لا يبرر الانتقال من معنى إلى آخر، فلا شك أن هناك مراحل بين حركة الثورة الارتدادية وحركتها التقدمية، واسترداد الأرواح في العقائد القديمة التي تلبس الثورةَ لباسَ القساوسة والأحبار، أو لباسَ المشعوذين والعنف الثوري في السياسات والأيديولوجيات الحديثة التي تلبس الثورة لحية مفكر أو سيف محارب أو ثيابا ممزقة.
الأسماء لا تتطور ولا تتخلف، بل هي تعيش في أذهان أصحابها بانطباعات فردية أو جماعية؛ والشخص الذي يتطير من اسم «الملح» أو «الغراب» فلا يجترئ على النطق به صباحا، هو شخص لا يتعامل مع الأسماء بشكل محايد. والشخص الذي يحب الثورة ثم يكرهها، فيحب لحبها اسمها ويكره لكرهها اسمها هو شخص لا يتعامل مع الأسماء بحياد. لم يجرب الشباب الثائر الثورة قبل أن يسميها، وربما لم يفكر فيها وهو يخرج إلى الشوارع المكتظة بالشرطة والهَجانة والمرصوصة بالدبابات؛ كان يريد أن يعترض أو يتعاطف أو يعصى أوامر النظام. لم يكن يعرف حتى إن ذاك الذي يعترض عليه هو نظام كان يرى عناصر النظام ويتصدى لها؛ كان لا يرى إلا ما يرى ولا يرى إلا ما يريد .الأكيد أنه لم يكن محتاجا كثيرا من الأسماء.الزعماء كانوا هم من يزودونه بالأسماء وهو يتبنى ويسأل بعد ذلك عن معانيها.
هناك أبواق تبعث بالأسماء في اللحظة التي يبعث بها البوق المقابل تسمياته، سيسمي النظام التحركات قلاقل وهرجا وتشويشا، وسيسميها المعارض ثورة، وسيسميها الإعلام وهو في خندق ما باسم صاحب الخندق. وتحشر الأسماء المختلفة في الخندقين خندق السلطة وخندق المعارضة ولكن حين تنجح الأسماء الثورية وتنتعش مفاهيمها ثم يكتشف الناس أنها لم تعد تحمل معانيها ستزدرى وتهترئ وتنتظر أو تختضر.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
في الحقل المفاهيمي يااستاذ توفيق ..هم يفرقون في انتاج الالتباس بين ما يمكن تسميته او وصفه بالسواد الاعظم من المتلقين الذين تتشكل مكوناته من الاميين وانصاف المتعلمين ..وممارسوا النصب بالمواقف…، وبين القلة من المثقفين والاكادميين الذين يدركون ابعاد اللعبة ولايشاركون فيها…او على الاقل لايساهمون في تكريسها…؛ وبالاضافة الى ماذكرته من نماذج حية عن خلط المدلولات والمعاني في افق استثمار الدلالة في منحى مناقض ….؛ فان هناك امورا التباسية اخطر جعلت المتلقين في وضعية البلاهة الادراكية والتمييزية…ومنها التسليم بان من ساهم في سرقة الناس وخنق انفاسهم هو مرتكز ديموقراطي فذ….وان من عبر عن مواقف و من كتب والف دراسات تحتقر في مضمونها وابعادها تاريخ وثوابت دول بعينها يصلح ان يكون زعيما لثوراتها (ليفي..وماكين)….واعتقد ان الامل في الخروج من هذا الوضع المضحك المبكي …يتضاءل باستمرار في اطار الشروط السياسية والواقعية والاجتماعية المتحكمة في الواقع الحالي…..لان العزيمة تكون على قدر اهل العزم وليس العكس….وشكرا لك ايها المتميز داءما على تحليقك بنا في هذه الافاق التي لاتطاولها رقاب المتنطعين…
لقد وصفتَ واقعا أو اسماءا تتحكم فيها ظروف متعددة وهذا منهج الولادة والاستخدام ايجابيا ثم سلبيا وأفولها في فترة ما ولكنها قد ترجع في فترة اخرى بمفاهيم تجديدية وهو قانون صراع المفاهيم للاسماء في الحياة وقدرتها على الصيرورة وظروف افشالها من المتنطعين عليها من الخارج والداخل بعدة أشكال وأفعال وظروف ملازمة لها؛ ولكن كم من مفاهيم كلمات أو أسماء رحلت من لغاتها الى لغات اخرى بمعانيها او متغيرات الفاظها مع بعض معانيها. مثلا في اللغة الالمانية احصيت من اساتذ مصري 500 كلمة عربية ما زالت مستخدمة حتى اليوم. فالتضليل السياسي اللغوي له قاموسه وتوجد دراسات عديدة في اللغات الاوروبية. وقد شرح بعض اساتذة اللغة العربية منهم استاذي المرحوم عليه ابراهيم السامرائي رحلة مفاهيم التعابير العربية عبر عدة قرون وهذا باب واسع يقع بين مؤثرات متعددة الابعاد من المتنطعين عليه وممن ساهموا في احياء هذه الاسماء؛ حتى ولو لفترة زمنية بظروفها ومؤثراتها سلبا وايجابيا.فرحلة الاسماء مرتبطة بظروفها كالولادة والحياة والموت ثم الولادة مرة اخرى بظروف اخرى بمعاني متجددة في قانون الحياة رغم أنف متغيرات الافشال والمتنطعين عليها