اهتمام بريطانيا الجدي بالموطن القومي اليهودي بدأ مع قرار احتلال فلسطين

حجم الخط
4

في 2 و3 أيلول/سبتمبر انعقدت جلسة جديدة لحكومة الحرب لمناقشة مذكرة مونتاغيو، تغيّب عنها لويد – جورج وآرثر بلفور. اتهم نائبُ الملك لشؤون الهند زملاءه باللاسامية لتأييدهم إعلاناً من شأنه تأجيج النزعات اللاسامية التي سوف ينتج عنها طرد اليهود من أوروبا. وأنكر مونتاغيو أن تكون فلسطين ذات صلة تاريخية باليهود ما يسمح بالنظر إليها بجدّية على أنها المكان المناسب ليعيشوا فيه. وأردف أنه لو قيّض أن تقوم دولة يهودية في فلسطين فسوف تتصاعد الضغوط من أجل حرمان اليهود البريطانيين من حقهم في الجنسية البريطانية، في الوقت الذي تتحول فيه فلسطين إلى «غيتو عالمي» لليهود. (شنير، 337ـ38).

الاحتكام إلى أمريكا

لم تصل حكومة الحرب إلى أي نتيجة في تلك الجلسة فتقرر عقد جلسة أخرى والاحتكام في الخلاف داخل الحكومة البريطانية إلى الرئيس الأمريكي ولسن. (Schneer, 328). عقدت الجلسة التالية في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر بمشاركة لورد كورزُن، رئيس مجلس اللوردات وحليف اللورد مونتاغيو ونسيبه. لاحظ كورزُن، بما يكفي من الاستعلاء الاستعماري، أن فلسطين أرض جرداء لا تليق باليهود وتساءل معترضاً عما سيكون مصير «السكان المسلمين» في فلسطين في ظل الوطن القومي لليهود. وكورزُن نائب الملك في الهند سابقاً ولعل هذا يفسّر اهتمامه بأثر الإعلان على مسلمي الهند. وقد يكون الوحيد بين كبار سياسيي بريطانيا الذي تنبأ بأن إعلان بلفور سوف يؤدي إلى عقود من العداء بين العرب واليهود.
في 13 أيلول/سبتمبر اتصل لورد سيسيل بمدير مكتب المخابرات البريطانية في واشنطن لتقديم نص الاعتراف والدعم للوطن القومي إلى ولسن. رد ولسن: «الوقت ليس مناسبا لأي موقف حاسم اللهم إلا موقف تعاطف يقدّم دون أن ينطوي على أي التزام جدّي». (John, 18). مضيفا أن الولايات المتحدة لم تعلن الحرب على تركيا وهي تبذل المساعي معها على أمل إنقاذ اليونانيين والمسيحيين والأرمن. وأرسل وايزمان صيغة المشروع إلى ولسن عن طريق مستشاره الصهيوني براندايس في 14 تشرين الأول/أكتوبر. فجاءه الجواب في 16 منه: «الرئيس يوافق لكنه يسأل أن لا تذكر موافقُته عندما سوف تعلن حكومة جلالته سياسات عامة، لأنه نظّم مناسبة يسأله فيها اليهود الأمريكيون عن مواقفه [من مشروع الوطن القومي اليهودي] ليعلنها على الملأ هنا [أي في الولايات المتحدة] «. ( John, 19). وعلى ذمّة رونالد ساندرز أن ولسن قرأ صيغة الإعلان قراءة سريعة ووضعها في جيبه ونسي الأمر. مهما يكن، لم يعلن ولسن موافقته «على الملأ» إلا في 31 آب/أغسطس 1918، أي بعد نحو سنة. ولم يصوّت الكونغرس الأمريكي على قرار دعم الوطن القومي اليهودي في فلسطين إلا في 30 حزيران/يونيو 1922.
لم يسهم رد ولسن ولا رسالة تعاطف وردت من الحكومة الفرنسية في توصل الحكومة البريطانية إلى تكوين اتفاق حول الموقف من الوطن القومي تلك المرة أيضا. فتأجل البتّ بالأمر.
في ربيع ذلك العام جدد سايكس محاولاته إقناع الفرنسيين بفلسطين بريطانية عن طريق الصهاينة. دبّر زيارة جديدة لسوكولوف إلى باريس لمقابلة جورج بيكو ليستمع المندوب الصهيوني من هذا الأخير إلى رأي جازم بأن فرنسا لا تريد إشرافا بريطانيا- فرنسيا وبالتأكيد ليس اشرافا بريطانيا- أمريكيا على فلسطين، فـ«الفرنسيون مصممون على أخذ كل فلسطين». ولكن في لقاءٍ ثانِ مع سوكولوف، أقرّ بيكو من حيث المبدأ بوجود أمة يهودية في إطار وطن قومي وحكم ذاتي محلي في فلسطين. لكنه لم يتزحزح عن موقفه من موضوع فلسطين البريطانية. (شنير، 212ـ213 ) وأمضى سايكس صيف 1917 يواصل مساعيه. سعى لإقناع بيكو بالتخلي عن الاتفاق بناء على ضرورة التنسيق بين السياسة الفرنسية والأهداف الحربية الجديدة للويد جورج والرئيس ولسن: «لا جدوى من التفكير بمصطلحات الماضي»، قال، «…إن صَوت الرئيس ولسن هو الآن الصوت المهم، والأفكار التي لا تنسجم مع خطاباته لن يكون لها تأثير في مؤتمر السلام. أعتقد أن كل مسألة تتعلق بالضم أو السيطرة المباشرين بما هما نمط التسوية بعد الحرب قد جرى التخلي عنه الآن». وحاول سايكس اقناع زميله بتعديل الاتفاقية بكتابة بواسطة مقدمة تدعو إلى «فترة وصاية على السكان قبل أن يستطيعوا ممارسة الحكم الذاتي كاملا»، على اعتبار أنه لا يمكن ممارسة هذه الوصاية «إلا برعاية أمم العالم الحرّة وبموافقة المحكومين». (Sykes, 304).

الوضع على جبهة السويس

كانت مشاورات صياغة إعلان الوطن القومي اليهودي تسابق تطورات الوضع الميداني على جبهة سيناء. مطلع العام 1917 نجحت القوات البريطانية في دحر القوات التركية من كامل سيناء خلال معارك صيف 1916 واحتلت رفح. فارتدّ الأتراك للدفاع عن مواقعهم في فلسطين وبنوا خط دفاع من غزة إلى بير سبع. في آذار/مارس حاولت القوات البريطانية تطويق غزة لكنها اضطرت إلى التراجع بعد أن تكبدت خسائر جسمية. وفي الثاني من نيسان/أبريل، تلقى الجنرال ماراي، قائد الحملة البريطانية، الأمر باحتلال القدس. قرر ماراي استخدام الغازات السامة ضد المدافعين عن غزة معززا هجومه بالبحرية والدبابات، لم يوفّق. في غضون أسبوعين من القتال، خسرت القوات البريطانية وقوات «الآنزاك» (مجندي المستعمرات ودول الكومنولث) 6444 قتيلا، ما يعادل ثلاثة أضعاف القتلى الأتراك. فقررت القيادة البريطانية تنحية ماراي واستبداله بالجنرال أدموند اللنبي، وقد حدد له لويد جورج الأمر تلك المرة باحتلال القدس قبل عيد الميلاد. من جهتها، نحّت القيادة العسكرية التركية جمال باشا عن قيادة الجيش الرابع واستقدمت تعزيزات من العراق لدعم القوى المدافعة عن فلسطين.
أطلق اللنبي معركة غزة الثالثة في 30 تشرين الأول/أكتوبر بالاستيلاء على بير سبع في يوم واحد. وخاضت قواته المعركة الحاسمة يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 عندما خرقت الدفاعات التركية على خط غزة وبير سبع وأشرفت على ميناء غزة. انسحبت القوات التركية وتجمعت للدفاع عن القدس والقوات البريطانية تتعقبها في هجوم لسلاح الخيالة على طريق الساحل. ويوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر احتلت القوات البريطانية يافا وباتت تحاصر القدس.
في لندن، حسم أمر الإعلان عن تأييد «الوطن القومي اليهودي» في جلسة حكومة الحرب يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر. رافع لورد بلفور عن مسودة الإعلان رادّاً على حجج المعارضين بالقول إن فلسطين سوف تكون تحت حماية بريطانية أو أمريكية، وأن صيغة «الوطن القومي» ليست تعني بالضرورة «إنشاء دولة يهودية مستقلة». وأردف أن الإعلان سوف يساعد على كسب اليهود والأمريكان والروس إلى جانب قضية التحالف. تغيّب مونتاغيو عن الجلسة، وقد اضطر للعودة إلى منصبه في الهند. لكنه علّق على الإعلان بقوله «حاولتُ طوال حياتي الخروجَ من الغيتو… أنتم تريدون إعادتي إليه». (Avidan, 209).
حضر كورزُن الجلسة وتعرّض لهجوم عنيف من سايكس على معارضته للرسالة وإن يكن لم يصوّت ضدها في صيغتها النهائية بعد أن أجري عليها تعديلان أساسيان مراعاة له ولمونتاغيو. نص التعديل الأول لأول مرة على ذكر «غير اليهود» وحقوقهم ولكن مع الاقتصار على الحقوق المدنية والدينية واستثناء الحقوق القومية والسياسية. أما التعديل الثاني فكان الغرض منه تبديد مخاوف الاندماجيين إذ اشترط أن لا يسيئ قيام الوطن القومي اليهودي إلى حقوق اليهود عبر العالم الذين قد لا يرغبون في الهجرة إلى فلسطين. (Schneer, 340-343).
أقرّت الرسالة في مجلس الوزراء، وخرج سايكس من الاجتماع ليزفّ النبأ إلى وايزمان الذي كان ينتظر في الخارج: «دكتور وايزمان، جاءنا صبيّ!». (Rogan , 350). وأرسلت الرسالة إلى اللورد روثتشايلد يوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 ونشرتها صحيفة «ذي جويش كرونيكل»، يوم السابع منه. لسائل أن يسأل: لماذا لم ترسل الرسالة إلى وايزمان طالما التفاوض كان معه ومع زملائه في الاتحاد الصهيوني؟ لعل التفسير الأرجح هو مراعاة خاطر الاندماجيين وعدم الربط المباشر بين الحكومة البريطانية والاتحاد.
استغلّ وايزمان التصويت ضد بيان «اللجنة المشتركة» بأكثرية ضئيلة في «مجلس النواب البريطانيين اليهود» ليعلن نفسه ممثلا للأكثرية اليهودية في بريطانيا ويطالب باعتماد الاتحاد الصهيوني ممثلا حصريا لليهود البريطانيين. (Schneer, 317-31). ما يعني ببساطة اعتبار مقياس الصفة التمثيلية للاتحاد الصهيوني هو أقلية من السياسيين والوجهاء الذين يؤيدونه. مهما تكن صفة اليهودية التمثيلية، يبقى أن العنصر الحاسم الذي غلّب الفريق الصهيوني على الفريق الاندماجي هو نجاحه في الانضمام إلى الرغبة البريطانية في انتزاع الحماية على فلسطين، وقواتها تحتل أرضها، ونسف فكرة الإدارة الدولية وخصوصا منع فرنسا من أن يكون لها وجود في فلسطين، وأهمية فلسطين كحاجز بين المنطقتين الفرنسية والبريطانية، وحماية قناة السويس وتأكيد حضور بريطانيا على الضفة الشمالية منها. (Schneer, 368 وراجع ڤيريتي، وشتاين أيضا). وقد خدم إعلان بلفور في تشريع وتسويغ كل هذا باسم «حقوق الأقليات» و«حماية الأقليات» المسوّغ الأكبر للاستعمار الجديد، الاستعمار الذي سوف تتبلور ملامحه في مؤتمر السلام العام 1919.
جورج نتانيال كورزن، سياسي بريطاني محافظ، شغل منصب نائب الملك في الهند (1899ـ1905) وكان من دعاة الحضور البريطاني الدائم في فارس والخليج وهو مهندس اتفاقية الحماية البريطانية للكويت (1899). في حكومة لويد جورج كان عضوا في حكومة الحرب المصغرة وكان من الداعين إلى أن تحتل بريطانيا بلاد الرافدين وفلسطين وربما سوريا. عن رأي كورزن في النزاع العربي اليهودي، انظر:
 (Paul Johnson, “Behind the Balfour Declaraion: The New York Times, January 22, 1984. وعلى ذمة رونالد ساندرز، صاحب كتاب يؤرخ لإعلان بلفور، فإن الرئيس ولسن وضع رسالة وايزمان في جيبه التي تضمنت إحدى مسودات الإعلان، ونسي الأمر إلى ذلك الحين. (انظر مراجعة بول جونسون لكتاب ساندرزRonald Sanders, The High Walls of Jerusalem, a History of the Balfour Declaration, 1984).

(يتبع)

اهتمام بريطانيا الجدي بالموطن القومي اليهودي بدأ مع قرار احتلال فلسطين
إعلان بلفور: وعدٌ أم وسيلة؟
فواز طرابلسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    نتابع باهتمام بالغ مقالاتك استاذ فواز
    عملية توثيقية غاية في الدقة والتسلسل. منهجية منقطعة النظير. بوركت يداك
    ولكن هل يمكن ان نفهم بأن البريطانيين في كل هذه المناقشات لم يتطرقوا لوعود بريطانيا للشريف حسين ورسائل مكماهون؟!!!

  2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    صباح الخير لكم, مع شكري الجزيل أخي فواز طرابلسي على هذه المعلومات. يصيبني الإحباط أحيانا عندما أقرأ هكذا معلومات, لأنني ألاحظ أننا خسرنا الكثير ومازلنا نخسر وباستمرار وكأنها معركة صراع حضارات لايكترث لأي إنسانية رغم أنه من المفروض أن الأمر هو حضارات إنسانية أي تطور للبشر على سلّم الرقي والتطور. والسؤال ماذا تعني الحضارة الإنسانية, صراع الأقوى! والتاريخ يكتبه الأقوياء وفقط.

  3. يقول omar..jordan:

    لكن هل يعرف اليهود من هم اليهود؟؟.. فالحكايه تبدا من شعار وطن قومي لليهود .. لكن في عصر تعدد لغات الفرد الواحد وعصر اختلاط الاعراق وعصر توسع الوعي والفكر وانفتاح الثقافه .. في هذا العصر لم يتبقى ما يجتمع الناس عليه الا المصالح النفعيه .. والمصالح الانسانيه النفعيه هي خلطه ماديه ونفسيه .. وهذه الخلطه لا تكون ناجحه الا بالانقياد للفكر .. والفكر اصلا هو شيء روحي (مثالي) .. والروح عامه وليست خاصه بلغه او لسان او عرق او …الخ ..فان لم تحتكم خلطة المصالح للروح (للمثاليه) فلن تكون الخلطه اصلا ناجحه بل ستكون الخلطه خاضعه (ليوم لكم ويوم لنا) .. والدين قبل كل شيء هو فكر اولا واخيرا .. فما هو دينكم؟؟..وما هو ديننا؟؟… وراثه لا علاقه لها بالدين ..

  4. يقول حسين/لندن:

    الاخ سوري المحترم
    لفترة أسبوعين كنت تورد في تعليقاتك القيمة أن صاحب فكرة الوطن القومي لليهود أصلها فرنسي وصاحبها نابليون بونابرت،،
    الأستاذ مالك التريكي كتب مقال الاسبوع الماضي يدحض فيه أن الفكرة فرنسية أو أنها راودت نابليون وساق على ذلك أدلة قوية،،
    كنت قد وجهة إليك في تعليق أطلب منك رد على ذلك أو ايراد مصدر معتمد يدعم هذا القول.( تجد المقال تحت زاوية راي).
    بالنهاية كلها دول استعمارية ونجحت في زرع هذا الكيان المسخ كالخنجر في قلب العرب والمسلمين،،وللأسف كانت هناك مواقف مخزية في هذا الشأن بالذات من قبل زعامآت عربية صدقت وعود بريطانيا وحاربت الدولة العثمانية فيما أصبح يعرف ب (الثورة العربية الكبرى)، فهدمت دولة الخلافة، وقامت دولة الكيان المسخ ا، وضاعت فلسطين ، ثم تم أنشاء مشيخات وامارات الدول العربية (الوظيفية) وتم تنصيب العملاء ومسرحيأت الاستقلال.
    الله المستعان

إشترك في قائمتنا البريدية