تأتي رواية «بائع الأمل» الصادرة نهاية عام 2015عن دار ورق للنشر والتوزيع في إطار بنية سردية، حاول من خلالها المؤلف أن يكشف لنا أسراره وسيرته الذاتية من خلال عالم الكتابة الإبداعية الذي يعيش فيه ولأجله (مذ كان طفلا في التاسعة يحلم بأن يكون كاتبا) بما يخبئه هذا العالم من تفاصيل تتعلق بالكيفية التي تتعامل بها مخيلة الكاتب وأدواته التقنية مع مشاهد الحياة.
أسرار الكتابة
لأجل أن تكتمل اللعبة أوكَل الرمضاني عملية سرد الأحداث إلى الكاتب الضمني الذي جسّده في شخصية ضابط مجند في الجيش العراقي أثناء غزو الكويت عام 1990 لم يتبق لديه لكي يكمل كتابة مذكراته، التي يُصر على أنها رواية سوى ثمانية عشر يوما قبل أن تنتهي المهلة التي منحها المجتمع الدولي للعراق، حتى ينسحب من الكويت أو يبدأ هجوم قوات التحالف بقيادة الأمريكان: «الوقت يمضي بسرعة وقد ضيعت منه الكثير، والآن لابد لي من أن ابدأ بالكتابة أو أن أتركها نهائيا.. بقي ثمانية عشر يوما وتقع الواقعة، لذا فعلي أن انهي عملي هذا قبل نهاية المدة التي حددها لنا مجلس الأمن مشكورا».
شاء المؤلف أن يستند إلى تقانة السرد الذاتي ليكشف من خلالها أسرار عمل الكاتب ومشغله الفني: «الخميس 28/8/2014.. ربع ساعة فقط وسأكمل دورتي الخمسين حول الشمس.. حاولت أن أنهي الكتاب قبل يومين لكنني قدمت لنفسي كل الذرائع التي تمكنني من التهرب من الكتابة ولا أدري لماذا؟ هل لأنني ساشعر بالخواء فور أن انتهي من كتابة آخر كلمة في هذا الكتاب؟ لا أدري».
الرمضاني مستتر بقناع المؤلف الضمني، يستدعي أعماله من قصص ومسرحيات ومقالات، سبق أن اشتغل عليها خلال مسيرة حياته ليتوقف عندها ويتفحص الخيوط التي ارتبطت بها مع الواقع ومع رؤيته الذاتية للحدث الواقعي في مشغل مخيلته: «وأنا في الصفحات الأخيرة لكتابي الذي أردت خلاله سرد محاولتي غير الموفقة في أن أصبح كاتبا له أثره عند الناس.. أدرك الآن أنني لم أكتب عن جميع نصوصي، نسيت بعضها أو تناسيته، ولكنني لا أحب إنهاء هذا الكتاب دون ذكر ما أعده نصا من أهم النصوص التي كتبتها خلال تلك الرحلة، ليس رواية ولا مسرحية ولا قصة قصيرة بل هو مقالة قصيرة عنوانها (في المشكلة العراقية.. تغيير الجغرافيا لتغيير التاريخ) أذكر أنني قضيت ثلاثة أشهر وأنا أجمع المعلومات وأنظر إلى الخرائط الورقية والإلكترونية».
مارس الرمضاني بناء لعبته السردية بمراوغة ذكية قاصدا من ورائها التأكيد للقارئ على أن عمله لا صلة له بالسيرة الذاتية، وينبغي التعامل معه على أنه عمل روائي، عندما منح اسمه الصريح «ناهض الرمضاني» ليكون اسم شخصية الكاتب الضمني الذي يتولى عملية السرد: «قد يقولون عن كتابي إنه سيرة ذاتية، أو ربما مجموعة من القصص أو ربما رواية، وهذا الرأي الأخير هو ما أميل إليه، فالرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الذي لا معيار له يقاس عليه كما يقول باختين. حسنا إذن اعتبروها رواية أضع فيها نفسي أنا شخصيا ناهض الرمضاني لأصبح بطلا ـ لا بطوليا بالطبع ــ لهذا العمل». سيكون من غير الإنصاف أن نعتبر ما جاء من بنية سردية في «بائع الأمل» لا تخرج عن سياق بنية السيرة الذاتية، كُتبت بأسلوب يحاكي اشتراطات البناء الروائي.
تجنيس النص
هذا النص يحمل في تركيبته الفنية ملامح وتفاصيل العمل الروائي، وقد سعى المؤلف وعبر فصوله الثلاثة (1- الجحيم ،2- الأمل ،3- الخروج ) التي تناولت ثلاثة عقود من تاريخ العراق المعاصر، ابتدأ من مطلع تسعينيات القرن الماضي وانتهاء بسقوط الموصل 2014 أن يأخذنا معه إلى منطقة من التجنيس نصبح فيها في حيرة من أمرنا، بحيث لا نعرف إن كنا نقرأ سيرة ذاتية أم رواية، فالحيرة هنا ليست مبنية على ضعف كامن في بنية السرد إلى الحد الذي يصبح فيه العمل دونما ملامح واضحة، بل كان خيارا تقنيا من قبل المؤلف ينم عن امتلاك عال لأدوات الكتابة الروائية، قد يبدو للوهلة الأولى خيارا بسيطا، إلا أن هذه البساطة تحمل بين طياتها خدعة فنية مارس فيها المؤلف عملية مراوغة مع فعل الكتابة والقارئ ليؤسس بنيته الروائية وفي الوقت نفسه يكشف أسرار لعبته التقنية.
هذه البنية تلتقي مع رغبة قوية في الكتابة للمؤلف الضمني /السارد للأحداث: «سأكتب لأنني إن لم أفعل سأنفجر. أريد أن أتحدث. أريد أن أصرخ. أريد أن أقول.. كنت أريد أن أصبح كاتبا طول حياتي وفشلت وهذا هو دفاعي».
إن مسألة اقتحام عالم الكتابة تبدو للكاتب الضمني عملية شاقة ليس من السهل الدخول إليها إلا بعد أن يخوض تجارب عديدة يحارب فيها على عدة جبهات حياتية وفنية حتى إنه يقول في إحدى قصصه التي سبق أن كتبها ويعيد تأملها في مرحلة لاحقة من مذكراته «إن قتل إنسان أسهل بكثير من الكتابة عنه».
هذه الرواية لم تكن تنحصر بنيتها في إطار قواعد السرد الفلوبيرية (نسبة إلى فلوبير) بل سعى المؤلف إلى أن يكون شكلها الفني خارج استراتيجيات الوسائط البنوية التقليدية، بالشكل الذي يضع القارئ بعيدا عن التوقعات العادية التي تفرضها الاشتراطات الفنية المسبقة للنوع الأدبي، وهذا ما يتضح في تعامله مع الوحدات البنائية، فالزمن على سبيل المثال لم يلتزم في مساره الأفقي بقدر ما كان حرا في ارتداداته ودورانه، كذلك رؤيته للعلاقة ما بين الحقيقة والمتخيل، حيث لجأ إلى تفكيك الحدود القائمة بينهما عندما جعل القارئ على وعي تام ببنية العمل، طالما كان السارد كاشفا لأسرارها أثناء عملية الكتابة التي يضطلع بها، وهو بذلك قد وضع المؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي على قدم المساواة، بالقدر الذي يصعب على المتلقي أن يفرز ما بين شخصية المؤلف الحقيقي وشخصية المؤلف الضمني السارد، إلى الحد الذي يصعب تلمس الحدود ما بينهما، وكذلك ما بين الرواية والواقع.
التنصيص في السرد
التضمينات والإشارات والنصوص والتعليقات التي استعاد قراءتها المؤلف الضمني في مخطوطته، التي كانت تشير إلى الأعمال التي سبق أن كتبها المؤلف الحقيقي منذ أن ابتدأ مشوار الكتابة السردية، يأتي استخدام هذه التقنية متوافقا مع كتابات ما بعد القص، حيث أن النص يشير إلى نصوص أخرى، وشخصياته تشير إلى شخوص في نصوص أخرى. إن «ما وراء القص يرتبط ارتباطا وثيقا بالتناصية، حيث أن النص والشخصيات المتضمنة تشير دائما إلى نصوص أخرى» هذا ما تشير إليه الناقدة سوزانا وانجا، بما يعني أن من الممكن الحديث عن خيوط ترتبط بها النصوص مع بعضها.
ومن هنا فإن السرد لن يسير في بنائه بوتيرة واحدة متصاعدة، بل يتقطع دائما من قبل السارد، ليكشف عن أفكاره في عملية الكتابة نفسها، أو ليأخذنا إلى حدث آخر يعود بنا إلى الوراء، بعد أن نكون قد قطعنا شوطا زمنيا طويلا في مسار الحكاية.
عتبة العنوان
عنوان الرواية المثير بما يحمل من تأويلات استمده المؤلف من سيرة الضابط الشخصية المحورية في العمل، الذي خرج مهزوما في حرب غزو الكويت عام 1990، بعد أن خاض تجربة الأسر لمدة أربعة أشهر وليواجه من بعدها حياة البطالة والإفلاس أيام الحصار الدولي على العراق، فما كان منه إلاّ أن يتنقل في عدد من الأعمال فشل في جميعها، منها أنه عمل بائعا للأثاث بعد أن استأجر محلا صغيرا سماه (معرض الأمل) وهكذا أصبح بائعا للأمل: «السبت 1/7/1995 في مثل هذا اليوم تماما وقبل عامين افتتحت معرض الأمل، الواقع في سرداب تحت عمارة متواضعة. واليوم.. اليوم بالذات قررت أنا وابن عمي غلق المحل. فلم يعد العمل مجديا فيه، لا أدري ماذا سنفعل».
مساحة السخرية
لعل أبرز ما يكشف عنه ناهض الرمضاني في هذا العمل قدرته العالية على أن يمنح للسخرية مساحة من الحضور الشفاف، وهو يتصدى لبشاعة الحروب والطغاة وصور القمع والانتهازية، وأكاذيب الساسة، ولعل أسلوبه الساخرعلى مرارة ما يحمله من أوجاع يذكرنا بفرادة السخرية لدى كتاب كبار أمثال ماركيز وكازنتزاكي وهما يتصدون لقساوة الأحداث: «نسيت أن أكتب شيئا ليلة رأس السنة.. وإذا كان العالم كله يحتفل بهذه المناسبة، فالعراق والعراقيون غير معنيين بها إطلاقا. فما قيمة سنة في عمر شعب امتد تاريخه أربعة آلاف عام، بل ما قيمة سنتين أو ثلاث أو عشر. إن السنين والشهور بل والأيام تهم كثيرا من لا تاريخ له (كشعوب الغرب مثلا) أما نحن، فالزمن عندنا يدور حول محور، من دون أن يؤثر أو يتأثر. فالحصار يتآكل منذ ست سنوات. وكل سنة تمر وهو يتآكل ونحن نتآكل.. دورة، دورة، وعاما عاما، من دون أن يحدث ما يكسر رتابة هذا التآكل. وهكذا سنجد أنفسنا فجأة قد كسرنا طوق العدوان وانتصرنا على الأعداء.. كل الأعداء، وربما يحدث هذا الانتصار بعد عقد من الزمان أو عقدين أو ربما قرن.. لا يهم .. فما قيمة القرون أمام شعب عريق عمره يمتد آلاف الأعوام، وما قيمة جيل أو جيلين في حضارة امتدت مئات الأجيال».
رواية «بائع الأمل» تجربة في البناء السردي تقفز على المفاهيم المتعارف عليها في بناء المبنى الحكائي، عمد فيها المؤلف إلى الغور في أوليات النصوص والكتابات ومسارات تطورها وتركيبها بهدف الكشف عن طبيعة العلاقة بين تركيبة النصوص وتركيبة الواقع، وتفكيك هذه العلاقة أمام القارئ.
قدم لنا المؤلف خبرته في عالم الكتابة بعد أن شكلتها مسيرته التي ابتدأت مذ كان طالبا في جامعة الموصل قسم اللغة العربية في ثمانينيات القرن الماضي، ثم ضابطا مجندا وأسيرا في حرب الكويت، ثم بائع أثاث، وبعدها مدرس لغة عربية في ليبيا والإمارات ومن ثم العودة إلى العراق بعد عام 2003 والعمل في الصحافة وبناء أولى المدارس الأهلية في مدينة الموصل، لينتهي المطاف بهذه الرحلة السندبادية إلى أن يكون تحت سلطة «داعش» خلال الأشهرالثلاثة الأولى من عُمر سيطرة التنظيم على المدينة، لتنتهي أحداث الرواية والمؤلف الضمني يسجل مذكراته يوميا وهو يعيش محاصرا في مدينة استوحشت الحياة فيها بعد أن سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة.
٭ كاتب عراقي
مروان ياسين الدليمي