باب العامود… ذاكرة شباب القدس وملتقاهم

حجم الخط
1

«القدس الشرقية» – صابرين جودة : مدرج من إسفلت صلد يتسع للجميع. للأشجار والظلال والأعشاب، للكبار والفقراء والمنبوذين والأغنياء والمتمردين والمتشردين، للقانعين والرافضين، لعربات الذرة وأكشاك القهوة وغزل البنات، لخريجي الجوامع وخريجي البارات ورواد المقاهي ورواد السينما، مكان شاسع يتسع لليمينيين واليساريين والمعتدلين والملحدين والسلفيين والثوريين والقوميين والمستكينين، للمثقفين والبسطاء، للمتزوجين والعشاق والحالمين والواقعيين؛ يتسع حتى للصوص الهاربين.
هذا المدرج متصل ببوابة كبيرة تستقر داخل سور القدس. تستريح على كتفه السماء وتغني له فيروز كل صباح. في هذا المكان تلتقي بمن تعرفهم وبمن تود أن تعرفهم وبمن تحاول أن تتهرب منهم، أو لا تلتقي بأحد سواك.
في هذا المكان أيضا تعمر الأحداث التي تهرم بالذاكرة لكنها أبدا لا تموت. فأن تكون شاهدا على عملية تصفية لأحد المارة بكل تأكيد لن يكون حدثا عابرا.
بعض النهارات تبدأ بكوب القهوة هناك. وتنتهي بانتظار موعد الحافلة هناك أيضا. وعليك أن تذكر نفسك دوماً أن أي خطوة لك في ذلك المكان قد تكون الأخيرة. من يدري؟ فقد يرغب أحد قناصة العصابات الصهيونية باصطيادك لغاية في نفسه. إلا أن قدرتهم على اصطياد من يشاؤون هناك لا يلغي حقيقة أن وجودهم لزج وغير حقيقي. وأن من يصنع حوله تلك الهالة من الأهمية هو النظر إليه بجدية مفرطة.
لم هذا المكان تحديدا؟
لأنه ما من أحد ينكر بأنه يثير حفظة الجلاد! فقد عاند كل محاولات تهويده وأفشل محاولات أسرلة رواده ومنع عمليات تفريغه من زواره. فتجد أم الشهيد التي سُفح دم ابنها في ذلك المكان تحديدا. تزوره كل يوم وتنثر الورود هناك وتحتسي قهوتها على درجاته.
أعتقد حقا أن باب الكون سيُفتح من هناك. لذلك أرجو من الله ألا يغضب على اعتراضي بأن تكون الحرب الطاحنة -التي وعدنا بأننا سننتصر بها – في جورة العناب بحسب الأسطورة المتداولة. ألا ترى يا الله أن باب العامود أولى بهذا الشرف الذي سيكون؟ ألا ترى بأنه ساحة حرب مهيأة مسبقا؟
لا أبالغ إن قلت إن بيننا وبين ذلك المكان رابطة دم، أو طين. لكنني أجزم أن هنالك رابطة بيننا – نحن شباب القدس- وبينه. ونحن نحفظه عن ظهر ثورة آتية. فطينه نقي ثائر. نراه أحيانا خارج الخريطة. داخل الجرح.
-بشوفك باب العامود
صار ممنوع نقعد هناك
-إذا مش عاجبهم يطخونا
هذا حديث جرى حقيقة بين شابين في القدس. لكنني أتساءل: من وشى بنا للشيطان؟ من يغذي كل هذا الموت لينتشي بنا؟!
باب العامود وقد اكتسب اسمه هذا بسبب عامود من الرخام الأسود، وضع في الساحة الداخلية في الفترة الرومانية، وعلى هذا العامود خريطة من الفسيفساء. أما بالانكليزية فيسمى باب دمشق. ذلك أن القوافل كانت تخرج منه متجهة إلى دمشق. ومؤخرا فيطلق عليه البعض اسم باب الشهداء.. إنه ليس مجرد باب. بل أحد أجمل وأهم أبواب سور القدس. فهو المدخل الرئيسي للبلدة القديمة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وأسواق القدس العتيقة وحواريها وبيوتها.
أما المدرج الذي بني حوله، فيشبه المدرجات الرومانية القديمة، ويتخذ منه المقدسيون استراحةً لهم، والباعة مكاناً لعرض بضاعتهم فيه. وأمام المدرج توجد ساحة كبيرة تعج بالمقدسيين والسياح. والجنود الذين أتوا عنوة إلى هذه البلاد التي رزقنا حبها منذ زرعتنا يد الله بها، وتركتنا لنرعى شؤوننا وحدنا. نحن الذين تمسكنا بهذه الدرجات تمسك العشاق بعشيقاتهم. تحقيقا لوصية الإله والأجداد والطين. رغم أنه مؤخرا أصبح ساحة إعداماتٍ عشوائية. إلا أن قضيتنا كما قال مظفر النواب:

قضيتنا وإن عجنوا وإن صعدوا وإن نزلوا
لها شرحٌ بسيطٌ واحدٌ حقٌ
لمَ الهبل؟
لماذا ألف تنظير
يكثر حولها الجدل؟
قضيتنا لنا وطن
كما للناس في أوطانهم نزل
وأحباب وأنهار وأجداد
وكنا فيه أطفالا وصبيانا
وبعضٌ صار يكتهل
وهذا كل هذا الآن محتل ومعتقل
قضيتنا سنرجع.. أو سنفنى

باب العامود… ذاكرة شباب القدس وملتقاهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول البدوي الاحمر:

    انتِ من آل بيت صالحين لهذا المكان المجيد.

إشترك في قائمتنا البريدية