بدر شاكر السياب: عن أدونيس وجماعة «شعر»

حجم الخط
1

 

عزيزي أدونيس: وصلتني قصيدتك بشكلها النهائي، وقد رأيت أنك انتبهت إلى ما أردت أن أنبهك إليه، حين استلمت صيغتها الأولى: الإكثار من المقاطع الموزونة بين المقاطع المكتوبة نثراً. لقد كانت قصيدتك المنشورة في عدد «شعر» الأخير أكثر توفيقاً من هذه الناحية. أما رأيت إلى الشعر الحر كيف استغله بعض المتشاعرين:»وعلى الرصيف/ جوعان يبحث عن رغيف/ والشارع الممتد يزخر بالجموع/ من ثائرين مزمجرين/ فليسقط الاستعمار/ يا.. يسقط المستعمرون» إلخ… وإذا شاعت كتابة الشعر دون التقيد بالوزن، فلسوف تقرأ وتسمع مئات من القصائد التي تحيل «رأس المال» و»الاقتصاد السياسي» وسواها من الكتب، ومن المقالات الافتتاحية للجرائد، إلى شعر. وهو، لعمري، خطر جسيم.
كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور، لا أكثر. ولكن: هل غاية الشاعر أن يُري قراءه أنه قادر على الإتيان بمئات من الصور؟ أين هذه القصيدة من «البعث والرماد»، تلك القصيدة العظيمة التي ترى فيها الفكرة وهي تنمو وتتطور، والتي لا تستطيع أن تحذف منها مقطعاً دون أن تفقد القصيدة معناها؟ أما قصيدتك الأخيرة، فلو لم تُبقِ منها سوى مقطع واحد لما أحسست بنقص فيها. ليس هناك من نمو للمعنى وتطور له. ما زلت، أيها الصديق، متأثراً بالشعر الفرنسي الحديث أكثر من تأثرك بالشعر الانكليزي الحديث، هذا الشعر العظيم: شعر إيليوت وستويل ودلن توماس واودن وسواهم.(1)

ـ 2 ـ

الحق أن تجربة «شعر» كانت في أول بدايتها تبشر بخير كثير (…) لكن ٭في فترة لاحقة أخذت الحركة تجنح شيئاً فشيئاً نحو الغرب، دائرة ظهرها للشرق وللتراث العربي بصورة خاصة. وحتى الشعر الغربي الذي كانت تترجمه هذه المجلة كان يضرب على وتر معين، وكان يمتاز بالركاكة وعدم الترابط والغموض الذي لا يبرره شيء، وغير ذلك، كأنما كانوا يريدون أن يقولوا لنا: هذا هو الشعر، فاكتبوا مثله (…)
ربما كان الحافز ليس سياسياً محضاً، يجب أن نحسن الظن قليلاً بالناس؛ أعتقد أن ضعف الشعراء وضعف أدواتهم الشعرية هو الذي جعلهم يضربون على هذا الوتر ليبرروا ضعفهم بأنهم شعراء كبار وأن مثلهم في الغرب يكتبون على نفس النمط وبنفس عدم الترابط وبنفس الركاكة والتفاهة، وأنهم شعراء كبار.
والحق أن الذي يطلع على النقد العربي القديم، في عهوده الزاهرة وليس في عهود انحطاطه، في عهود البيان والبديع مثلاً، الذي يقرأ كتاب «المثل السائد في أدب الشاعر والناقد»، أو يقرأ «الموازنة بين أبي تمام والبحتري»، أو غير ذلك من كتب النقد، تروعه هذه النظرات الصائبة التي تضارع في عمقها، بل ربما زادت في عمقها وفي دقتها وفي صحتها وفي جماليتها، ما يكتبه النقاد الغربيون. إنما لو فهمنا تراثنا، ولو اطلعنا على تراثنا اطلاعاً حقيقياً، لوجدنا أن عندنا كلّ ما يمكن للإنسان أن يفتخر به. ولكن جماعة مجلة «شعر»، لسبب من الأسباب، يظنون أن كل ما هو غربي عظيم ورائع، وكل ما هو عربي تافه وضعيف وركيك.(2)
(1) رسالة إلى أدونيس، يرجح ماجد السامرائي أنها تعود إلى أواخر 1959.
(2) حوار مع السياب، كان إذاعياً في الأصل، سُجّل سنة 1964، ونُشر للمرّة الأولى في مجلة «الأجيال»، سنة 1972.

صخرة سيزيف
رسائل (1926ـ1964) تكشف الكثير من خبايا مواقفه تجاه قضايا عديدة، أدبية وفكرية وسياسية وشخصية، خاصة وأنّ عدداً كبيراً منها كُتب والشاعر في ذروة المرض، حين أخذ وجدانه، المثقل بأعباء الجسد والروح، يتقلب من طور حادّ إلى آخر أكثر حدّة؛ وفي المقابل، بدا أنّ آراءه تصفو وتنصقل وتتضح، أكثر من أية فترات سابقة في حياته. وترجمة عدد من رسائل السياب إلى اللغة الإنكليزية، وصدورها في كتاب مؤخراً، مبادرة طيبة تُسجّل للباحث اللبناني جورج نقولا الحاج، الذي رأى في النصوص مصدراً ثميناً لإلقاء الضوء على «الحياة الكارثية التي عاشها هذا البطل المأساوي»؛ ولاستكشاف أفكاره الداخلية كما شاء أن يتشارك فيها مع أمثال ألبير أديب، سهيل إدريس، يوسف الخال، أدونيس، خليل حاوي، وعلي السبتي. يكتب الحاج: «خلال القسط الأعظم من سنوات حياته القصيرة، ظلّ السياب مسكوناً بفكرة الموت، وما بعده، والفناء، والخلود. وفي ختام رحلته الدنيوية، تصالح بدر مع نفسه، وصالح البُعدين المتناقضين: الحياة، والموت. ولقد قهر الموت عن طريق أنسنته، والسيطرة على الخوف منه، ثمّ الاستسلام له حين أخذ جسده يذوي وينهار. ورغم أنه لم يكن وجودياً، فإن السياب، في برهة محددة، استمرأ اعتناق الوجودية بوصفها إجابة فلسفية على مشكلته الوجودية: إلى أيّ مدى، وكم من الوقت، سوف يكون قادراً على حمل صخرة سيزيف؟».
English Translation of Selected Letters of
Badr Shakir al-Sayyab
by George Nicolas El-Hage
CreateSpace, 2013. 80 p.

بدر شاكر السياب

كلمات مفتاحية

  1. يقول حسام-تكساس:

    هل الاذن في الصورة طبيعية؟

إشترك في قائمتنا البريدية