ظلت الحكومة البريطانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مقتنعة بذرائعيتها الشاملة عمقاً وسطحاً، بأنّ خيارها الأوحد للبقاء في منصة صُنّاع القرار العالمي، هو الالتحاق التابعي للولايات المتحدة، بالشكل الذي وصفه أحد السياسيين البريطانيين بأنه «كما الذيل الملتصق بظهر كلب ذئبي مسعور يتحفز للانقضاض على الكون بأسره».
وهو الأمر الذي أفصح عن نفسه بشكل عياني مشخص لا يقبل التأويل في أحابيل توني بلير واختلاقاته لأكاذيب إمكانية نيل «أسلحة التدمير الشامل» في العراق الجريح، بعد حصاره المر منذ كارثة حرب الخليج الثانية 1991، من العاصمة لندن في دقائق، تمهيداً لغزو العراق عام 2003، وتحويله لمستنبت زرعي للخبث الداعشي، وما استتبعه من مآس وفواجع لا يبدو أنها آفلة في المستقبل المنظور.
وفي آخر تَفَتُّقٍ للحكومة البريطانية عن أي مدخل لإثبات جدارتها في لعب دور التابع ذي الانضباط الحديدي، قررت تقليد قرار الحكومة الأمريكية في منع المسافرين جواً من معظم الحواضر العربية والتركية، من حمل أي من الأجهزة الإلكترونية التي تتجاوز أبعادها أكثر من 16 × 9 × 1.5 سم، ما يعني كل الحواسيب المحمولة، والحواسيب اللوحية بأشكالها المختلفة، معهم إلى قمرة المسافرين، واشتراط حزمها في الأمتعة المشحونة مع الناقل الجوي، استناداً إلى مزاعم إدارة ترامب «باحتمال قيام مجموعات إرهابية بمحاولة تهريب مواد متفجرة في تلك الأجهزة الإلكترونية».
ولابد من التطرق إلى مفصلين نوعيين، الأول منها يتعلق بأن كل الأجهزة التي يشترط القرار الترامبي حزمها ضمن حقائب المسافر المعدة للشحن، تعمل ببطاريات قابلة لإعادة الشحن مصنوعة من مادة الليثيوم، وهي نفسها البطاريات التي حظرت منظمة الطيران المدني الدولية ( ICAO ) التابعة للأمم المتحدة تحميلها بشكل كامل في حيز الشحن في أي من الطائرات المدنية، ابتداءً من أبريل 2016، لعلة اعتبار تلك البطاريات «تشكل خطر حريق حقيقي» عند تعرضها لانخفاض في مستوى الضغط الجوي، يؤدي إلى تفتقات صِغَرِيَّةٍ بين الحواجز الداخلية في البطارية التي تفصل جزئيات معدن الليثيوم فيها عن الأوساط الشاردية الأخرى في البطارية، ما يؤدي إلى فعل دارة مقصورة (Short Circuit) ينتج شرارة قد تؤدي لاحتراق البطارية نفسها، وهو ما قد يؤدي إلى حريق شامل في حيز شحن الأمتعة، ومنها إلى كل الطائرة.
والمفصل الثاني يتعلق بحقيقة أن نموذج تصنيع تلك البطاريات يقتضي أن تكون خفيفة الوزن، ما يقتضي بشكل طبيعي تواضع سماكة الجدر الخارجية لتلك البطاريات، والحواجز الداخلية فيها، ما يؤهبها بشكل طبيعي للتأذي جراء الصدمات التي تحدث بشكل عفوي أثناء تحميل الحقائب إلى حيز الشحن في الطائرة، والتي قد تؤدي إلى شروخ صغيرة في هيكل البطارية الخارجي أو الداخلي لا تحتاج إلا لانخفاض الضغط الجوي خلال عملية الطيران، لكي تلتهب وفق الآلية الكهروكيميائية السالفة الذكر، وهي الآلية التي حصل بنتيجتها 14 حادث حريق في طائرات مدنية مملوكة من شركات أمريكية، بحسب هيئة سلامة النقل الوطني الأمريكية، أشهرها الحرائق الثلاثة المنفصلة في الأعوام 2013 و2014 في ثلاث طائرات من طراز بوينغ 787 دريملانير في بوسطن ولندن وفي الأجواء اليابانية، التي استدعت توقف أسطول بوينغ من ذلك الطراز على المستوى العالمي لأشهر طويلة. وهي الحقيقة المثبتة علمياً، التي قادت الوكالة الدولية التابعة للأمم المتحدة المسؤولة عن تحديد معايير سلامة الطيران المدني على المستوى العالمي، لتخصيص استثناء نوعي وحيد يرتبط بحظر شحن بطاريات الليثيوم المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية على متن الطائرات المدنية والتجارية، ويشترط أن يتم حملها حصراً من قبل المسافر معه إلى متن الطائرة قمرة المسافرين، التي يحول نظام تعديل الضغط الجوي في قمرة المسافرين من هبوط الضغط الجوي بشكل مفاجئ فيها، وما ينتج عنه من تفتقات صِغَرِيَّةٍ في هياكلها الخارجية والداخلية معاً، ويقيها من مخاطر الصدمات العنيفة خلال عملية التحميل المشار إليها آنفاً.
ويحق لأي متابع عادي بقدرات عقلية متوسطة التَفَكُّر بجدوى تلك الإجراءات الاحترازية الأمنية غير المفسرة بريطانياً وأمريكاً، والتي في جوهرها إقرار بعجز تقنيات الكشف والمسح بالأشعة السينية والمغناطيسية التي تقوم بها كل مطارات المعمورة، وفق معايير عالمية غير قابلة للتغاير، وهي الإجراءات التي إذا سلمنا جدلاً بصحتها لغرض تفكيكها منطقياً، فإنّها سوف تشترط من أي مسافر من أي من الحواضر العربية إلى لندن مثلاً وضع حاسوبه الشخصي أو اللوحي في حقائب الشحن، التزاماً بتعليمات الحكومة البريطانية، دون أن يحتاج مسافر آخر من مطار العاصمة نفسها، وفي رحلة داخلية إلى مطار آخر في الدولة العربية نفسها، أو إلى أي دولة أخرى غير الولايات المتحدة أو بريطانيا من القيام بالشيء نفسه، وهو ما يمكّن ذلك الأخير من أخذ الحاسوبين الشخصي واللوحي العائدين للمسافر الأول معه في حقيبته إلى فسحة الترانزيت، ومن ثم إعطاؤهما باليد للأول ليأخذهما معه إلى متن ركبه الطائر الذي وجهته العاصمة لندن، بعد أن تجاوز كلا المسافرين حواجز التفتيش التي يفترض القرار الأمريكي البريطاني عجزها البنيوي الكلياني عن الكشف عن المتفجرات المهربة في الأجهزة الالكترونية المحظورة، لتكتمل المؤامرة ودون تعقيد كبير، وهو ما يشي وفق منهج سقراط الاستقرائي، الذي مرّت عليه ألفيتان أو أكثر القائل بأنه: «يكفي مثال واحد مخالف لجوهر نظرية ما لدحضها»، ببطلان السبب المنطقي المبرر للحظر إن كان فعلاً هناك سبب منطقي من خلفه.
تحتاج الحكومات الأمريكية والبريطانية إلى ما يبرر سلوكها الوحشي تجاه العرب والمسلمين، والتجييش المستمر ضدهما، لحرف أنظار شعوبهم المقهورة عن حقيقة تحول تلك الحكومات إلى قائم بمهمات تصريف أعمال الشركات الكبرى العابرة للقارات، التي لم تعد معنية بدفع أي ضرائب في الولايات المتحدة وبريطانيا، وانتقال أعباء التمويل الحكومي إلى كاهل طبقاتها العاملة، التي تئن تحت وطأة ديونها المتكاثرة، إلى درجة تقارب المستوى الذي وصلت إليه قبل الانحسار الاقتصادي العظيم عام 2008 في نذير شؤم مبين لما هو قاب قوسين أو أدنى من كارثة اقتصادية كونية مهولة. ولا أفضل لتلك الحكومتين من اختلاق نبوءة سياسية ترامبية تحقق نفسها حينما تنفجر طائرة مقبلة من إحدى الحواضر العربية أو الإسلامية بسبب إلزام مسافريها بحزم أجهزتهم الإلكترونية وبطارياتها في أمتعتهم المعدة للشحن، ليأتي بعدها دور وكالات المخابرات الأمريكية والبريطانية في البحث في قوائم المسافرين في تلك الطائرة المنكوبة لإيجاد اسم عربي أو مسلم ليصير مسؤولاً عن الحادث الإرهابي الذي أدى إلى انفجارها، وإن لم يوجد فلا ضير من اختلاقه، كما كانت الحال في اتهام وليد الشهري بالاشتراك في عملية اختطاف الطائرات المستخدمة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو لا يزال يعيش بين أهله حياً يرزق.
وقد يستقيم لمراقب عربي حصيف أدمن اجتراع الحزن العربي المقيم، النظر إلى تلكم الحكاية بأنها ليست سوى فصل جديد في لعبة العم سام وشركاه في صناعة الإرهاب والإرهابيين عنوانها: « بطاريات الإرهاب» التي لا تنتظر فقط سوى أوان تفجرها.
كاتب سوري
د. مصعب قاسم عزاوي
جميل