نسمع، من حين لآخر، ونقرأ، كلاماً في الظلّ، عن «الانهيار المديد»، الذي وصلت إليه الجامعة في الجزائر. البعض يتحدّث عن ضعف المناهج، وآخرون يُشيرون بالإصبع إلى الأساتذة، إلى ضعفهم وعدم كفاءتهم، والجميع يتّفق على أن الضّحية الأسمى هم خريجو هذه الجامعة، هم أشبه بطبخة غير مُكتملة النّضج، مع ذلك، كلّ عام، يُكمل هؤلاء الخريجون – الضّحايا دورة التّحولات الطّبيعية، ويصِرون ـ بدورهم – أساتذة، يدرّسون ويقذفون من قاعاتهم ومدرجاتهم ضحايا جُدد، الحلقة باتت تتكرّر، ومشاكل الجامعة الدّاخلية اتّسعت، وصارت رائحة «الحريق» تُشمّ، في كلّ مكان. في دراسة له، نشرها، قبل أيّام، لا يلوك الباحث هواري تواتي(مدير الدّراسات في مدرسة العلوم الاجتماعية بباريس) الكلام، بل يستخدم لغة واضحة ومُباشرة: «الجامعة الجزائرية وصلت درجة التّعفن». والسّبب: «عدم الكفاءة، الفساد، المحسوبية، المُحاباة، التعسّف، الجهوية، اللا أخلاقية، التّمييز الجنسي، وقائمة الانحرافات تبقى طويلة» يُضيف الباحث نفسه.
في السّنوات الأولى لوصوله إلى الحكم، اتّخذ الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة من الرقم «مليون» رقماً سحرياً له، رقم الحظّ، وراح يردّده في أكثر من مكان، ويُبشّر الشّعب بإنجازات قادمة: توفير مليون سكن جديد، مليون منصب شغل، والوصول إلى رقم مليون طالب. في مجالي السّكن والشّغل، لم يتحقّق الشّيء الكثير، لكنه أوفى بوعده بخصوص الجامعة، أوصلها إلى رقم مليون طالب وأكثر، وهي اليوم تكتظ بقرابة مليون ونصف مليون طالب جامعي، هو رقم «ضخم» في بلد تعداده السّكاني لا يتجاوز 40 مليون نسمة. من مُقارنة بسيطة، سنجد أن عدد الطّلاب، في البلد، كان يتصاعد، تاريخياً، بشكل منتظم وهادئ، إلى غاية، بداية الألفية الجديدة، حيث حصلت طفرة مفاجئة. حصل ما يُشبه «تسونامي طلابي»، لم يخطّط له. عند استقلال البلد(1962)، لم يكن عدد الطّلاب يتجاوز 2750 طالباً، تضاعف عددهم بمعدل 500% في ظرف نصف قرن. هذه الطّفرة الديمغرافية، والتّزايد، غير الطّبيعي، لعدد الطّلبة، يستوجب – منطقياً – تزايداً في أعداد الأساتذة والمؤطّرين، لقد ارتفع عددهم من حوالي 1800 أستاذ، في أوائل السّبعينيات، من القرن الماضي، إلى قرابة 45 ألف أستاذ اليوم. غداة الاستقلال، لم تكن توجد سوى جامعة واحدة، مع ملحقتين اثنتين لها، واليوم، تتوفّر البلاد على قرابة مئة مؤسسة جامعية، هذا الواقع يبدو إيجابياً، من المُعاينة السّطحية، ومن نظرة سريعة، قد يقول أحدهم إن الجزائر تمكّنت من توفير تعليم عالٍ للمجتمع، لكن الحقيقة غير ذلك، فالحكومة تشهر – في كلّ مرةّ، خصوصا مع كلّ استحقاقات انتخابية – ورقة الأرقام، وتتجاهل – عمداً – النّتائج السّلبية، التي أورثتها للجيل الجديد، من طلبة الجامعات، فارتفاع عدد الطّلبة، ومعه رقم المؤسسات، ألزم الإدارة توظيف عدد كبير من الأساتذة، ومهمّ هنا استخدام كلمة: توظيف، لأن الجامعة الجزائرية لم تخلق تقاليد لها، ولا ثقافة أكاديمية تميّزها، وبات من السّهل على الكثيرين، تجاوز أطوارها الثّلاثة، ودخول مسابقات التّوظيف، والنّجاح فيها – نظراً لحاجة الجامعة إلى مؤطّرين – دون أن تكون لهم الكفاءة الكافية، وهذا ما سينعكس على التّعليم وعلى مستوى الطّلبة، الذين باتت تهمّهم الشّهادة، لا التّحصيل ولا البحث العلمي. حين كان الرّئيس بوتفليقة يبشّر برفع أعداد الطّلبة، إلى مليون طالب، في وقت قيّاسي، كان – فقط – يؤكد فرضية، أغمضنا أعيننا عنها، وهي أن التّعليم العالي، صار قضية سياسية لا علمية، بات في يد السّلطة، لا في يد أهله وأصحابه، فالجزائر هي واحدة من الدّول القليلة في العالم، حيث أن عمداء الكليات والجامعات، لا يتمّ تعيينهم من طرف «المنظومة الجامعية»، بل يصلون إلى مناصبهم العليا بحسابات سياسية، مع ذلك لا أحد يحتجّ على هذا التّدخل في الشّأن الجامعي، كما لو أن الجميع متواطئ مع ما يحدث، بالتّالي، فإن السّقوط الحرّ للجامعة هو مسؤولية الجامعيين أنفسهم، الذين لا يفوّتون فرصة للاحتجاجات والإضراب، لرفع رواتبهم (التي تعتبر الأضعف في المنطقة العربية)، لكنهم أبداً لا يحتجّون إزاء تقليص صلاحياتهم، وتدخّل السّياسة في عملهم اليومي. حين كانت السّلطة تفكّر في تنصيع صورتها، والظّهور في عباءة «البطولة»، أمام الشّعب، برفع أعداد الطّلبة، في الجامعة، وبالتالي رفع معدلات النّجاح في البكالوريا(الثّانوية العامة) ـ التي انتقلت من حدود 20 في المائة إلى قرابة 50 في المائة ـ كانت البلاد تمرّ، قبل عشرين سنة، بانتعاش مالي، بفضل ارتفاع أسعار المحروقات، في السّوق الدّولية، ولكن بمجرد تراجع سعر البرميل، تراجع الإنفاق الحكومي على التّعليم العالي، وظهرت النّتائج العكسية لسياسة الارتجال، التي تبنّتها السّلطة. لقد استثمرت الدّولة المليارات في الجامعات، في تشييد أسوار وقاعات وحيطان ومبانٍ وساحات، لكن هذه الاستثمارات، لم تتحوّل – لحدّ السّاعة – إلى أرباح، فالجامعة ما تزال خارج الدّعامات الاقتصادية، هي فضاء اجتماعي بامتياز، لا أكثر. تكتّل فيه طبقات اجتماعية، مختلفة، لكنها ليست فضاءً منتجاً، والمشروع، الذي تُراهن عليه الحكومة، هو كيفية إصلاح الجامعة، وتحويلها إلى فضاء منتج. هو رهان ـ بحسب هواري تواتي ـ فاشل، فكلّ مشروع لإصلاح الجامعة لن يأتي بنتيجة، لأنه ببساطة متأخّر، وقد فات اوان تعديل ما اعوجّ. «ليس من الممكن الإصلاح وليس من الممكن التّوقف عن توظيف بكثافة وسرعة أساتذة رديئي التّكوين كطلبتهم. كلّ سياسة تُنتهج لا يمكنها في أحسن الأحوال القضاء نهائيًا على هذه الظّاهرة التّي بقدر فوضويتها الشّاملة الضّخمة بقدر ضررها على أمن المجتمع والدّولة» يُضيف. فالجامعة بلغت حافّة الانفجار. ترتيب الجامعة الجزائرية، في التّصنيفات الدّولية، تحوّل، مع الوقت، إلى نكتة، فالجميع يعلم أن الجامعات المحلية، تدور حول نفسها، لا تُنافس سوى بعضها بعضاً، وأوّل جامعة، في الجزائر (سواء جامعة سيدي بلعباس أو جامعة العلوم والتّكنولوجيا هواري بومدين)، تتقهقر في التّصنيفات الدّولية، إلى أسفل المراتب بعد الألفين. هذا السّقوط المُقلق للجامعة في الجزائر يبدو أنه لا يُزعج أحداً، لا موظّفي السّلطة، ولا نواب الشّعب في المجالس النيابية، فهو محصلة طبيعية لسياسات الجهة الحاكمة وأي نقد للوضع من الممكن أن ينظر إليه كنقد «للسّياسة الرّشيدة»، التي ما تزال، منذ حوالي العقدين، تجرّ البلاد إلى الخلف.
كاتب من الجزائر
سعيد خطيبي
مقال يكتب بماء ذهب..
حبذا لو يقرأه كل طالب واستاذ جامعي…
فعلا انها المأساة والقصة المبكية كما باقي قصص الجزائر……
اشكرك جزيلا استاذ سعد على هذا المقال
هي مشكلة التعليم العالي في اغلب بلداننا اذا استثنينا دول الخليج التي تمتاز بالثروة وقلة عدد المواطننين,ولكن المشكلة الاهم في رايي هو اقبال الطلبة للتعليم العالي رغم معرفتهم بان مردوده المادي ليس كافيا مستقبلا لتامين متطلبات عائلة صغيرة او في بعض الاحيان لا يمكن ان يوفر ايجار السكن وبالتالي يجب توجيه الشباب الى المهن الاخرى والاهتمام بالثقافة العامة وجعل ثقافة المجتمع تحترم كل المهن التي يمارسها الناس وليس احترام الشخص لشهادته الجامعية.وبذلك نققلل من عدد طلاب الجامعة والاساتذه مما يوفر للدولة مبالغ مالية تحسن بها مستوى الطالب والاستاذ