عندما اندلعت ثورات وحراكات الربيع العربي منذ أربع سنوات كتب الكثيرون، وكنت واحدا منهم، بأن شباب الأمة العربية بدأوا بصنع التاريخ. خلال بضعة أسابيع، وبإبداع بهر العالم، نقلوا الوطن العربي في معظمه من حالة الخوف التاريخي إلى حالة المواجهة الشجاعة، ومن حالة الإذعان والزبونية التي دشنها الملك العضوض الأموي إلى حالة الرأس المرفوع، ومن حالة المجتمع السلبي النائم إلى حالة الحيوية والمراقبة والمحاسبة والرفض. وكانت شعارات تلك الحراكات تلخيصاَ عفويا لشعارات الديمقراطية ممثلة في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وهي شعارات أشــــارت بصوت عال إلى ضرورة إحداث تغييرات جذرية في حياة مجتمعات العرب وشعوبها. وكان واضحا أننا كنا أمام مواجهة حتمـــية بين أنظمة استبداد وظلم وبين شعوب غاضبة يقودها شباب كسر حاجز الخوف والتردد.
ومنذ البداية كان يجب أن يكون واضحا في أذهان قادة تلك الحراكات التاريخية، أن التغييرات الكبرى لن تأتي إلاُ عن طريق أحد المسارين التاليين: الثورة الشاملة السريعة، المماثلة لبعض الثورات العالمية الناجحة، أو النضال السياسي التراكمي التدريجي الكفوء. وكلا الطريقين لهما شروطهما ومتطلباتهما الموضوعية، المرتبطة بساحات الواقع التي تختلف في محدودياتها وإمكانياتها.
فالثورة، مثلا، ستتعثر أو حتى تفشل إذا كان المجتمع منقسما على نفسه بصورة جذرية، لأسباب طائفية أو عرقية أو ثقافية، حول رؤى ومنطلقات الثورة، أو إذا كان الجيش الوطني غير متعاطف مع الثورة وغير محايد، بل منغمس في السياسة الفاسدة إلى أذنيه، أو إذا كان المحيط الإقليمي والدولي مضادا لقيام الثورة، من خلال استعمال ماله أو جيوشه أو استخباراته أو أزلامه، الذين اشتراهم في الداخل، أو إلخ … من الظروف الموضوعية التي تجعل من نجاح الثورة أمرا صعبا وقريبا من المستحيل، لأنه يستدعي الكثير من التضحيات العبثية والدموع والضحايا الأبرياء، وحرق الأخضر واليابس وتدمير ما بنته القرون من التاريخ. عند ذاك تنتهي الثورة إلى النتيجة العبثية في المقولة الطبية الشهيرة: «لقد كانت العملية ناجحة ولكن المريض مات».
عندما لا تكون الثورة ممكنة من قبل رافعي رايتها، لأسباب موضوعية في الواقع، فإن الحياة السياسية لا تتوقف، والطريق إلى التغيير يبقى سالكا وضروريا، عن طريق ولوج المسار الثاني: النضال السياسي السلمي العنيد اليومي في شتى الميادين وعلى كل المستويات، من أجل تحقيق انتصارات جزئية فرعية، تتراكم عبر الزمن يؤازر بعضها بعضا من أجل الوصول إلى التغييرات الكبرى المنشودة في المستقبل المنظور. هنا نحن أمام تنشيط ما وصفه المفكر المغربي عبدالله العروي بالعقل الجزئي الملائم لحقل السياسة، المختلف عن العقل الكلي الصالح لساحات مثل، الدين والإيديولوجيا والفنون. إنه عقل واقعي يستعمل كل إمكانيات الواقع، سواء المتوفرة أو المخلوقة بالإبداع والنضال، من أجل تغيير الواقع. ومن المؤكد أنه ليس العقل المغفل الذي ذكره المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز في قوله بأن» أسوأ شيء أن يناضل المرء عن قضية عادلة بعقل مغفل».
هذا العقل الجزئي سيخطط وسيبرمج وسيفعل من أجل تحقيق إنجازات متراكمة تقرب من الانتقال إلى الديمقراطية مثل، النضال ضد الفساد والتمييز والقبضة الأمنية الظالمة، ومثل انتزاع الحقوق الكاملة للمرأة، وإرغام الدولة على القيام بالتزاماتها في حقول التعليم والصحة والإسكان والعمل، ووجود الأحزاب السياسية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني بصورة مستقلة عن تدخلات السلطة، والمحاربة الشرسة لأي أحكام قضائية جائرة بحق ممارسي السياسة، أي النضال من أجل الانتقال إلى الديمقراطية وأيضا من أجل الحقوق المعيشية الأخرى.
إذا أصبح النضال من أجل تلك القضايا، وغيرها كثيرة، نضالا يوميا في كل ساحات المجتمع من دون استثناء، بدءا بالإعلام، مرورا بالمظاهرات والاعتصامات السلمية أو حتى العصيان المدني، وانتهاء بساحة بالغة الأهمية، هي ملك للمجتمع وللشعوب ويجب ألا تترك للانتهازيين والمرتشين، نعني بها ساحة السلطة التشريعية، حتى لو كانت فيها نواقص تحتاج هي الاخرى للنضال من أجل تصحيحها، إذا مورس مثل هكذا نضال فان النجاح في أي جزء منه وعلى أي مستوى، سيصبُ في الاقتراب من الأهداف الثورية للحراكات، بمعنى انها أهداف تغييرية حقيقية وجذرية تخدم المواطنين، خصوصا الفقراء والمهمشين منهم.
جدلية العمل الثوري والعمل السياسي الضاغط التدريجي، والتنقُل بين ساحتيهما وممارستيهما هي جدلية بالغة التعقيد وتحتاج إلى فكر سياسي ناضج من جهة، وإلى قيادات سياسية غير مراهقة من جهة أخرى. ونحن هنا بالطبع لا نتكلم عن جدلية سياسية ميكيافيلية انتهازية، وإنما عن الإبداع في ممارسة السياسة النظيفة الشريفة الكفوءة والفاعلة والقادرة على الوصول إلى نتائج ونهايات معقولة.
شباب الربــــيع العربي سيصـــلون، عاجلا أو آجلا، إلى تحقيق أهدافهم الإنسانية العادلة، شريطة أن لا يقعوا في فخ أو غواية ممارسات تقلب واقع حراكهم التــــاريخي، وهــو في محنته الحالية، الصاعدة الهابطة، إما إلى يأس وانسحاب وإما إلى ممارسات سياسية عابثة بسبب أسطرة الواقع والعيش في أحلام متخيلة. في كلتا الحالتين لن يتحرك واقع أمتهم العربية قيد أنملة.
٭ كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو