في الإصحاح التاسع عشر من سفر «العدد»، في العهد القديم، يكلّم الربّ موسى وهارون ويفرض الشريعة التالية: «كلّمْ بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها ولم يَعْلُ عليها نير، فتعطونها لإلعازار الكاهن فتخرج إلى خارج المحلة وتذبح قدّامه. ويأخذ إلعازار الكاهن من دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات. وتحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها. ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفا وقرمزاً ويطرحهن في وسط حريق البقرة».
هذه باتت «فريضة دهرية»، حسب نصّ التعبير الذي يرد بعدئذ في السفر ذاته؛ وطقساً ضرورياً لتطهّر الكهنة الكبار، قبيل دخولهم إلى الهيكل.
استطراداً، اكتسبت البقرة الحمراء مكانة بالغة الأهمية في الفقه التوراتي اللاحق، أو بالأحرى ذلك الفقه كما طوّرته الفرقة اليهودية المتشددة التي تعرف باسم «الحاسيديم»، بصورة خاصة. كما طوّرته أيضاً، وعلى نحو لا يقلّ تشدداً، تلك الفرق المسيحية التي تحدد علائم مفصّلة لقدوم «المخلّص» في طور المجيء الثاني؛ وهذه فرقة تؤمن أن رماد البقرة الحمراء لا غنى عنه لتطهير الموقع الذي سيقام عليه الهيكل الثاني، استعداداً لوصول المسيح المخلص.
اتكاءً على هذا كلّه، فإنّ الحاخام يسرائيل أرئيل ـ رئيس «معهد الهيكل» في القدس المحتلة، وأبرز وجوه الجيل الشاب الذي يقود تيّارات التطرّف اليهودي والإرهابي في إسرائيل هذه الأيام ـ يدعو إلى تقويض الحرم الشريف لتحقيق هدف جوهري وعقائدي وتوراتي، أسبق وأبرز، هو الهدم: من أجل إعادة بناء الهيكل الثالث الشهير، إذْ لا غنى عن فعل التقويض ذاك لكي يتمّ التشييد، خصوصاً وأنّ عدداً من الترتيبات والشروط والمقتضيات الأخرى باتت في متناول اليد؛ وفق تخرصاته وهلوساته، بالطبع.
بينها، مثلاً ، ذلك الشرط الجوهري الحاسم بدوره والذي لا يقلّ أهمية: البقرة الحمراء!
على المنوال ذاته، فإن القسّ غاي غارنر، راعي أبرشية بورترديل في ولاية جورجيا الأمريكية، يشرف منذ سنوات على تربية قطيع من الأبقار الحمراء، لكي يشحنها إلى الأراضي المقدسة في الوقت المناسب. والمزارع الأمريكي كلايد لوت قرأ عن هذا النسل من الأبقار، ثمّ اكتشف أنّ مزرعته تعجّ بها، فاتصل بمَن يهمّه الأمر من الإسرائيليين، وتعاقد معهــــم على تربيــــة وتوريد 200 من الأبقار الحمــــراء الحوامل؛ مقدّر لها أن تلد 100 ثور و100 بقرة، سوف يتشكّل منها قطيع التطهـــير الضروري.
وفي خريف 1996، تواترت في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية تقارير تتحدّث عن أعجوبة «ميلودي»، العِجْلة الحمراء التي ولدت في مستوطنة كفار حاسيديم، وأطلقت من جديد تلك النار المشتعلة في أفئدة غلاة اليهود، المنتظمين في أكثر من 20 منظمة متطرّفة إرهابية، تطمج في تهديم المسجد الأقصى لإخلاء الموقع الدقيق الذي سيقوم عليه بناء الهيكل الثالث، الذي دمّره الرومان سنة 70 قبل الميلاد. وكان ميلاد «ميلودي» بمثابة نذير لا يقبل الدحض عند هؤلاء، خاصة وأنّ «أرض الميعاد» لم تشهد ولادة بقرة حمراء منذ أكثر من ألفي سنة، وهذه العجلة سوف تكون بالضبط البقرة الحمراء العاشرة في تاريخ بني إسرائيل! (يرى الفيلسوف اليهودي القرطبي موسى بن ميمون أنه، بين عهد موسى وتدمير الهيكل الثاني، لم يعرف اليهود إلا تسع أبقار حمراء، ولهذا فإنّ ظهور العاشرة سيؤذن بتدشين الهيكل الثالث).
برزت، مع ذلك، مشكلتان سبّبتا القلق الجدّي لدى حاخامات الحاسيديم: الأولى أن ولادة العجلة المعجزة تمّت عن طريق إخصاب صناعي وباستخدام حيوانات منوية لثور أوروبي غريب، ولد وتربى ويواصل العيش في سويسرا، ولم يسبق له أن ذاق طعم الكلأ المبارك في الأرض المباركة؛ وهو بهذا المعنى ثور من الأغيار الـ»غوييم»، كما كان مناحيم بيغين سيقول مثلاً.
المشكلة الثانية أنّ بعض الشعيرات البيضاء الخفيفة أخذت تظهر على ذيل «ميلودي»، وأن رموشها بدأت حمراء قانية ولكنها أخذت تنقلب تدريجياً إلى السواد؛ الأمر الذي أخذ يهدد بانكشافها كبقرة عادية، لا بالحمراء ولا بالقرمزية. وهذا ما حصل بالفعل، إذْ حلّ سوء الطالع بـ»ميلودي» وتواصل نموّ الشعر الأبيض في ذيلها أيضاً، مما أسقطها من قداسة موقع البقرة الحمراء العاشرة، وأعادها إلى المرعى بدون إبطاء، قبيل انتقالها إلى ذبح… غير عظيم، البتة!
الخيبات تعاقبت كلما لاحت في الأفق إمكانية تخصيب بقرة حمــــراء، فاستُقبلت بأهاليل وأهازيج، ثمّ باءت بفشل ذريع؛ الأمر الذي لم يفـــــلّ، أبداً، في عزيمة أحفاد الكاهن العتيــــــق إلعازار. وهم ــ إلى جانب إعداد المتفجرات والموادّ الناسفة ضدّ فلسطين البشر والزرع والحجر والضرع ــ يتابعون، من دون كلل أو ملل، تخزين خشب الأرز، وعشبة الزوفا، ومحلول القرمز!
صبحي حديدي
لم أكن أتوقع أن عشبة الزوفا مذكورة بالتوراة ويطلق عليها أيضا الشاي البري حيث يتم غليها وشربها مثل الشاي في الأرياف في سوريا
ومن المفارقات «التاريخية» كذلك ما بين التوراة والقرآن، هي أنه يأتي الذكر الوصفي الذي يتعلق بالبقرة المعنية على النحو التالي.
ففي التوراة أولاً:
«كلّمْ بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها ولم يَعْلُ عليها نير […]» (العدد: 19).
وفي القرآن ثانيًا:
«قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ […] لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا […]» (البقرة: 69، 71).
ترى كيف تغير لون هذه البقرة من كونها «حمراء» إلى كونها «صَفْرَاء فَاقِع»، وبغض النظر عن التماثل في بنيتها بين النعت التوراتي «صحيحة لا عيب فيها» وبين النعت القرآني «مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا»؟ ذلك لأن اللون في اللغة العربية، تحديدًا، يدلُّ على التغير بعينه (يُقال: فلانٌ متلوِّن، أي متغيِّرٌ، كنايةً عن المزاج المتقلِّب)، وأن اللون «الأصفر الفاقع» يشير إلى اللون الأصفر الخالص الذي لا تشوبه شائبة، بمعنى أن كل عضو وكل جزء من هذه البقرة إنما لونه أصفرُ خالصٌ، وإلاَّ لَذُكِرَ في الآية «صَفْرَاء» واكْتُفِيَ به دون ذِكْرِ «فَاقِع».
ومن جهة أخرى، لاحظ أنه، في اللغة العربية، قد تطلق صفة «الأصفر» على اللون الأسود كذلك. فهل هذه البقرة صفراء اللون أم سوداء اللون فعلاً؟ خصوصًا وأنه قد جاء ذكر إطلاق هذه الصفة بالذات على هذا اللون بالذات في موضع آخر من القرآن: «إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ […] كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ» (المرسلات: 32، 33). وبطبيعة الحال، فإن المقصود من عبارة «جِمَالَتٌ صُفْرٌ» هنا إنما هو الجِمال أو الإبل السُّود، وليس أي لون آخر!!!
* ذلك لأن اللون: ذلك لأن التلوُّن
للبقر دور كبير في الهندوسية واليهودية , لا غرابة في تحول الكثير من اليهود الي الصهيونية , التي تهدف الي بناء وطن قومي لأقرانهم من اليهود . معبد جديد لكهنة , لبناء فكرى جديد عن الخالق والمخلوق .
كم أنت رائع أستاذ صبحي, كاتب موسوعي وأكاديمي مرموق. وأنا في الواقع دوماً أتساءل كيف تختار مواضيعك وما الحافز لاختيار موضوع ما في وقت ما كالموضوع أعلاه, ثم إن لك مقدرة رائعة على الكتابة في أي موضوع وبشكل موثق بأدلة ومراجع يحتار المرء كيف لك أن تصل إليها ساعة تشاء سيما وأنك تكتب بشكل شبه يومي إن لم يكن يومياً في هذه الجريدة الغراء. أما بالنسبة للنص فقصص بني إسرائيل دوماً مشوقة لأنها مزيج من الحقيقة والأسطورة , المقدس والمدنس, التاريخي والمعاصر ولكننا نحن العرب ندفع ثمن كل هرطقات اليهود والصهاينة واساطيرهم ودجلهم. ولكنني دوماً أتساءل لماذا بقرة؟ ما ذنب البقرة كي تحل عليها كل بركات بني إسرائيل ولعناتهم أيضاً, إنه لأمر مذهل ويحتاج إلى الكثير من التأمل.