«بلاد الرشوة أوطاني»

حجم الخط
8

تعتبر الرشوة أحد أعمدة الاقتصاد في المجتمعات البشرية، خصوصا المتخلفة، وبغيابها قد تنهار أنظمة وتمّحي من الوجود، وقد يسبب اختفاء الرشوات أو محاولة حجبها عن «مُستحقيها»، أو محاسبة كل من يتلقاها، إلى قلاقل داخلية، خصوصا في الدول الضعيفة.
تصوروا منع الرشوات عن عشرات ملايين الموظفين في الوطن العربي وأفريقيا وباكستان وأفغانستان، والكثير من دول العالم الثالث. فما الذي سيحصل. أول ضربة ستكون ارتفاع معدلات البطالة، المرتفعة أصلا بشكل كارثي، ثم أن هؤلاء الموظفين أنفسهم قد يثورون على أوضاعهم، لأن ما يسكتهم ويكبح جماحهم هو الرشوات الصغيرة التي تغطي شيئا من العجز في إدارة الاقتصاد المنزلي.
الرشوة قد تؤدي بالموظف في موقع متقدم إلى بناء بيت، وعملية البناء توفر فرص عمل كثيرة للبنّاء والبلاط والقصّار والدهان والنجار والسمكري والجنائني والحداد، ولولا الرشوة، لما عمل كل هؤلاء، ستحدث بطالة مرعبة، ويجد الملايين أنفسهم بلا مأوى وتخرب البلاد، ولهذا فالعجب كل العجب ممن ثاروا ويثورون ضد ما يسمونه الفساد، خصوصا في وطننا العربي الغالي الذي يعتبر الفساد قطعة من روحه وأنفاسه. تأثير الرشوة غير مقتصر على البيت وملحقاته، فالموظف المرتشي المتوسط سيخرج إلى المطعم هو وعائلته، ويطلب بلا تردد الوجبات التي يشتهيها، هكذا فهو يوفر فرص عمل للطهاة ولبائعي الفحم ومربيي الحلال والدواجن والخضار وتجار المشروبات وعمال النظافة والنادلين ولمصنع الورق والمستوردين لكل احتياجات المطاعم من المسواك إلى الثلاجة، وسيدفع إكرامية بسخاء. وإذا اقتنى سيارة فهذه حلقة تتسع لعمال الصيانة والميكانيكيات والترخيص الذي يجلب معه رشوات أخرى وأخرى تنعش الاقتصاد أكثر وأكثر.
سيتمكن المرتشي من اقتناء غيارات كثيرة من الملابس الداخلية والخارجية له ولأبناء أسرته والألعاب والكماليات، وكل هذا سوق عمل واستيراد ووصول بواخر عبر قناة السويس ودخل إضافي لمصر قلب العروبة، وحينئذ ممكن أن نصبّح على فلسطين بثلاثة شواكل أسوة بالأخوة المصريين الذين يصبحون على مصر بخمسة جنيهات، ونترك لأخينا السوري الخيار بأن يصبّح أو لا يصبّح على النظام بخمسين ليرة.
وهكذا كلما كانت الرشوة أكثر في البلد، كانت دائرة العمل أكثر استقرارا وفعالية، حتى أنه في كثير من الدول في وطننا الغالي لا يمكن أن تقضي حاجتك بدون الرشوة التي يسميها البعض (هدية) جهلا منه، أو إكرامية أو حلوان، أو سُكرة، أو ملبسة، أو فنجان قهوة. لحسة إصبع، بلة ريق، عربون صداقة، أو تحية شكر وعرفان، وليس رشوة، لا سمح الله، ولهذا من المستغرب عدم وجود وزارة ووزير للرشوة، خصوصا في بلدان الوطن العربي، التي باتت من الدول المصدّرة للرشوات والفساد بأشكاله الكثيرة، فالرشوات تشغّل نصف دورة الاقتصاد، إن لم يكن أكثر، وزارة للرشوة تعني إدارة الفساد بشكل ناجع بدلا من الحرث في أوهام محاربته. إن محاولة محاربة الفساد مثلها كمثل محاولة انتزاع المرض الخبيث بالقوة من جسد المريض، الأمر الذي يؤدي إلى نزيف حاد ثم إلى الوفاة.
يجب تنظيم عمليات الرشوة، وفصل أو معاقبة الموظفين الذين يرفضونها بحجة شرف المهنة أو الكرامة الشخصية وإلخ من الخزعبلات، لأن في هذا نفاقا ومزايدة على الموظفين الذين يأخذونها، ثم إن السؤال والشكوك والتحقيقات يجب أن تحوم بالذات حول من لا يتقبل الرشوة. كيف دبّرت أمورك بدونها. كيف تعيش من راتبك التعيس. من أين لك هذه القناعة وما هو سبب ابتسامتك، كيف وكيف وكيف؟
في بلاد الرشوة أوطاني، إذا أردت محاربة موظف فما عليك سوى أن تبث دعاية بأنه شريف ويده نظيفة ولا يتلقى الرشوة، وأنه قد يشتكيك للسلطة إذا حاولت رشوته. حينئذ سيعيش من راتبه المحدود وتخرّب بيته. أحد الموظفين من الأشقاء في الضفة الغربية كتب لي في رسالة رثاء ذاتي على الفيبسوك «لا أعرف من هو ابن الحرام الذي يبث دعاية بأنني لا أتلقى رشوة. لقد خرّبوا بيتي بهذه الدعاية».
تحكي قصة عن أحد ولاة الشام في زمن الدولة العثمانية، أن وجهاء من المدن السورية تشاوروا لتقديم شكوى ضده إلى الباب العالي في استنبول، وعلم الوالي بما هم ذاهبون إليه، قبل سفرهم بليلة واحدة دعاهم الوالي إلى قصره وسألهم عن سبب نيتهم السفر إلى استنبول. فقالوا إنهم ينوون شمة الهواء، فقال لهم «أعرف أنكم ذاهبون لتقديم شكوى إلى الباب العالي ضدي، وهو سوف يقتنع بكلامكم ويعزلني، ولكن ماذا ستستفيدون. أنا وضعت هدفا لي أن أملأ هذه الجرّة ذهبا خلال ولايتي (وأطلعهم على الجرة)، وقد أشرفت الجرة على الامتلاء، فلا تحضروا الآن غيري للولاية مع جرة فارغة ليبدأ بملئها من جديد. فاقتنعوا بكلامه وعدلوا عن السفر إلى استنبول على أمل أن تمتلئ جرته سريعا ويكف شره وشرهه عنهم.
مشكلة شعوبنا ليست مع رشوات صغار الموظفين الغلابى الذين يذوقون الأمرين لإعالة أسرهم، والذين يتعرضون للنقد في الكتابات والمسلسلات والسينما، المشكلة ليست في علاج أعراض المرض، بل في المرض نفسه، وحسب مؤشر الفساد العالمي فإن الزعماء والرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء وأعضاء البرلمانات وكبار المسؤولين وذوي العلاقات مع المسؤولين، هم الأكثر فسادا وهم الداء والبلاء، ولكن المشكلة أن في الدول التي تحترم نفسها هناك من يحاسب ويعتقل ويحبس كبار المسؤولين إذا فسدوا، بينما في «بلاد الرشوة أوطاني» لا يتشاطرون إلا على صغار الموظفين، أما انتخابات البرلمان الأسدي التي تجري اليوم الإربعاء فهي بلا شك سوف تسفر عن طاقم جديد من الفاسدين السابقين واللاحقين، وحسبهم فسادا قبولهم دخول انتخابات بأمر رئيس مزّق البلاد وشتت العباد ونشر فيها الخراب والفساد.

سهيل كيوان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    دفعت رشوة بأحد المطارات حتى تسهل عملية ختم الفيزا على جواز السفر بناء على نصيحة رفقاء السفر حتى لا أبقى بالمطار لساعات طوال بسبب التأكد من صحة جواز السفر وصحة البرقية أو دعوة الزيارة فأنبني ضميري
    بعد الصلاة سألت إمام المسجد عن ما فعلته من رشوة فقال :
    لو دفعت رشوة لأخذ حقك فلا شيئ عليك
    نزلت هذه الكلمات بردا وسلاما على قلبي
    فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، أنه قال : « لعنة الله على الراشي والمرتشي » وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول منى*الجزائر*.:

    عاد أحد الشباب المهاجرين الى الديار….وجاء بشوق وحب للوطن الغالي..استثمر الشاب الطيب اموالا طائلة في مشاريع “شاف منها النجوم في عز الظهر”من هات الوثيقة الفلانية وجيب الوثيقة العلانية ومرمطوه مررررمطة ….وقال لي انه كل حركة في الادارة يطلب منه “الوسيط”عمولة..
    المهم الشاب لم يقطع اقامته في بلاد الغرب وظل مقيم هناك وينزل مرة على مرة للدزاير….قالي وانا “يعني هو”في تلك البلاد ذهبت لإحدىالادارات لاستخراج وثيقة ما..قال لي وكنت لسه راجع من كم يوم من الوطن الحبيب…قال لما خرج الموظف من مكتبو ونادى على اسمي ورحب بي وقالي وثيقتك ستجهز قريبا …قال انتابتي شعور بالريبة من الموظف فكرتو يريد “رشوة”…لأنها ترسسخت لدي فكرة أن الاستقبال الحار ووو يعني دفع “رشوة”ونسيت انه في هذه البلاد الموظف يقوم بوواجبوا بدون حتى سلام عليكم…
    شكرا استاذ سهيل كيوان على مقالك لنهار اليوم…
    تحية للقراء الأكارم الذين سيعلقون…

  3. يقول Samaher:

    بوركت الكاتب سهيل كما في كل مقالاتك دوووما تأتينا بالمقال الزاخر بالواقع المأساوي الذي نعتاشه ولا دين له ولا ضمير يأويه..
    هذا الداء الخبيث المدعى الرشوى الذي يستعصى استئصاله موجود للأسف في كل مكان ولا يمكننا إثباته ولا يمكننا نفيه ..ولكنه في اوطاننا العربيه اشبه بالاله ..فهو فوق الأخلاق والقوانين والدساتير ..يكفرون به حينما يدّعون بأنه سخرية القدر وفي الحقيقه هذا ليس قدر بل سبابا جماعيا وسفاله جماعيه وعار على كل ذي جاه ومنصب في هذه الاوطان ان لم يلتصق به هذا الخبث ..سخر الله منهم ..والله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون..
    وحقيقة جنة الارض اوطاني بلاد الخيرات اوطاني فيها النفط
    والفوسفات فيها بحار الذهب وثروات مائية ومناجم يبرح فيها الالم ولا يسكن فيها جوع ..لكنها تُوزع بشكل غير عادل، وتُستغل بشكل غير قانوني ..للأسف هذه الجنه التي تعروا فيها ابناء وطننا وجاعوا وشقيوا..قد تركوها عنوة لمترفيها يسرحوا ويمرحوا فيها.واسعه وعريضه.

  4. يقول خليل ابورزق:

    الخير في و في امتي الى يوم الدين.
    اعرف اناسا قضوا ردحا طويلا في العمل العام لم يتقاضوا اي رشوة و لم يدفعوا اي رشوة و فتح الله عليهم و نقلهم من القاع الى القمة

  5. يقول طاهر الفلسطيني المانيا:

    اكثر دول العالم المتقدمة الحضارية الديموقراطية تطبق الدين الاسلام بعدالته ونزاهته! والثروة عندهم مُوَزّعة بالحق قدر الإمكان، لهذا السبب لاتجد عندهم مواطن جعان او عريان او خائن للمجتمع او الوطن وكل هذه الصفات وغيرها من الصفات المحمودة، هي من شِيَم الدين الإسلامي، لقد سمعت قصة من احد معارفي الأثرياء، حيث انه كان مدعواً الى حفلة زواج بكل ما بها من رقص وغناء وأكل وشرب، وهنا في الشرب كما قال لي وقعت المشكله لقد شرب كأسين من الخمر كان احدهم زائد عن حده، ولكنه لم يكن مخموراً حسب وصفه، وعند ذهابه الى البيت اوقفته دورية الشرطة الالمانية في الطريق فشموا منه رائحة الخمر، فوجدوا بعد قياس كمية الخمر في نَفَسِه قد تعدى قليلا الحد المسموح به، ولهذا السبب سحبوا منه رخصة القيادة لمدة شهر كامل وغرامه مالية سيُعين قيمتها القاضي، وكان في جيبه خمسة الاف يوروا التي عرضها على شرطي المرور وزميله ان هم تخلوا عن سحب الرخصة وتركه يذهب مشياً على الاقدام الى بيته حيث انه اصبح قريباً منه ، وبحكم وضعه كصاحب اعمال، يكون من الصعب عليه التخلي عنها، فكان جواب الشرطي له بانه لن يستجيب لطلبه ولكنه سوف يتغاضى عن الشكوى عليه بعرض الرشوه له وتركوه يمشي الى بيته مشياً. فما رأيكم لو كان هذا حصل في احدى الدول العربية؟.

  6. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    لا يأخي , الرشوة مرض لئيم ولاتستثني منه الموظف البسيط, بالرشوة يتقدم أمامك شخص يقضي مايشتهي من أغراض وأنت تنظر للمنكر اللئيم ولاحيلة بيدك. بالرشوة تكون مظلوما فيلفق لك ذاك الموظف البسيط قول مالم تقله وفعل مالم تفعله فتصبح أنت الظالم, بالرشوة يشافى دافعها وأنت قد تموت وراء جدران المشافي, بالرشوة تكون أنت الناجح الموفق في امتحانك ومباراة توظيفك فيباع رقم سجلك فترسب.
    الرشوة داء عقيم, هل تعلم بأن مناطق الحراسة تباع وتشترى , المرتشي الصغير يشتري مكانا جيدا يسترزق منه أكثر بإرشائه رئيسه المرتشي الأكبر الذي يمنحه المكان.
    أما مسألة دوران الإقتصاد بأموال الرشوة فهي فكرة للأسف خاطئة , كم من الملايير تحرم منها خزائن الدولة عندما تدفع الشركات حتى الصغرى منها رشى كي تعفى منها, في بلاد عربية قدروها على الأقل بعشرين مليار من عملة البلد. إن أبيح التعامل بالرشوة فما المانع من رفع الإجرام عن المخدرات التي قد تحرك الإقتصادات بصفة أكبر وأقوى؟ فكرة خاطئة للأسف.
    محاربة الرشوة ضرورة وليست اختيار.

  7. يقول Passerby:

    سبحان الله, كل ما حذرنا الله ورسوله منه موجود برسوخ في مجتمعاتنا الإسلامية وكل ما رغبنا به يطبق على استحياء, اللهم لا تجعلنا ممن قال فيهم الله جلى وعلا:
    “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ”. صدق الله العظيم.

    اللهم لا تصرفنا عن آياتك, اللهم آمين.

  8. يقول سعد:

    تحليل خاطئ 1000/100 كأنك تشجع الرشوة. الرشوة يا أخي حرام حرام فهي سبب التخلف

إشترك في قائمتنا البريدية