■ دوما هناك سؤال مثار قوامه: لماذا الحرص على دراسة أشكال الخطابات الشعبية المختلفة؟ وتتمثل الإجابة في أن دراسة مثل هذه الخطابات ونصوصها لا تعني الانصراف عن دراسة خطابات وأدب النخبة على اختلاف أشكاله وأنواعه وبلاغاته، وإنما يعني مضي الدراسة النقدية البلاغية في آفاق واسعة، تتجاوز أدبيات النخبة، إلى كل ما تنتجه قرائح العقول والألسنة في كل شرائح المجتمع، بهدف التعرف على آدابهم الشفاهية المعبرة عن ذائقتهم الجمالية ونفسياتهم وأفكارهم، كذلك الوقوف على رؤى أبناء المجتمع وتفاعلهم مع القضايا العامة، وما يدور في رقعة الأوطان من أمور سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية ، لتكون المحصلة في النهاية الوقوف على مظاهر التعبير الفني وأشكاله، والنظر إلى أدب الجماهير بوصفه مرايا نتعرف من خلالها على النفسية الجمعية، بكل أبعادها الثقافية والفكرية. وصرنا الآن في حاجة إلى التبحر في مثل هذه الدراسات، لأنها تمثل مؤشرات ـ بجانب دراسات أخرى – على معرفة نفسيات الشعوب.
فمن أبرز الإشكاليات التي أُخِذَت على تحليل الخطاب الإبداعي أنه توجه بشكل مباشر إلى المقاربة الوصفية لما يحويه الخطاب الإبداعي على مستوى الجماليات والطروحات فيما يسمى نحو ( أجرومية ) الخطاب، وأعطى القليل من الاهتمام إلى ما يمكن أن نطلق عليه (أجرومية) المجتمع»، فكانت المحصلة: الاهتمام بالبعد التوصيفي لمحتويات الخطاب، وتواري التساؤلات الخاصة بكيفيات إنتاج الخطاب وتوزيعه واستهلاكه وسياقاته، وما يمكن أن يفعله في لحظة تاريخية معينة من تأثير، وأغرق نقد الخطاب في تحليل المفاهيم، فصار أقرب للنقد الإيديولوجي على حساب التحليل الوصفي / الكيفي، مما أدى في النهاية إلى فجوة / فجوات بين النقد ودراسة خطابات بعينها، تنتجها النخبة والأدباء والكتّاب المرتبطون بهم أو غير المرتبطين، مع إهمال في المقابل للخطابات المختلفة التي تنتجها العامة أو الأشخاص غير النخبويين والبسطاء ومن هم على شاكلتهم. وقد تم تجسير هذه الفجوة من خلال ما يعرف بالتحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis عبر مقاربة جامعة ما بين التحليل الوصفي التفصيلي للتجليات اللغوية والنصية للخطاب، وتحليل الحجج وأساليب البرهنة ونقد علاقات السلطة التي تعبر عنها وتنتجها أو تقاومها وتؤسس بديلا لها.
فيمكن الجزم بأن الدراسات البلاغية المعاصرة، وعبر تبنيها لاستراتيجيات عديدة في تحليل النصوص والخطابات ؛ قد توسعت ونظرت إلى أشكال البلاغات التي ينتجها الجمهور، والتي تشمل مختلف الخطابات العامة صوتية ومرئية ومكتوبة، بجانب الشفاهيات اليومية الممثلة في النكات والطرائف والتعليقات، وما يتم نشره في وسائل التواصل الاجتماعي Social Media، لنجد أنفسنا أمام كم هائل من الخطابات، التي يتعين الوقوف أمامها بالتحليل والتفسير ورصد أبرز معالمها وجمالياتها، وهذا أحد نواتج انفتاح التحليل النقدي للخطاب، الذي استهدف شرائح واسعة من المجتمع، بهدف الوقوف على تفاعلاتها المختلفة مع القضايا المثارة، ولمعرفة اتجاهات تفكيرها ومشاعرها. وعلى صعيد الدراسات البلاغية فإن تحليل بلاغة الجماهير هو أحد أوجه اكتشاف جماليات جديدة، تتجاوز الجماليات في النصوص الأدبية التقليدية حيث تمثل مختلف أنماط التعبيرات الرمزية (القولية والمرسومة والحركية) سبلا مهمة في فهم طبيعة المخزون الثقافي الجمعي، بل فهم الجماعة والمجتمع نفسه، فهي أشبه بالمرايا العاكسة لنفسية الشعوب، لما تحمله من قيم ومعتقدات وتوجهات وإشارات. كما تكشف من جهة أخرى – بطرق مباشرة أو غير مباشرة – عن جوانب خفية للمجتمع، سواء كانت في شكل أفكار أو تطلعات أو رغبات مكبوتة أو مواقف متبناة، لأنها تمتلك قدرا كبيرا من التلقائية في صياغتها وتكاد تكون أقرب إلى التعبير الفطري عن توجهات الناس، نظرا لارتباطها بالواقع الاجتماعي والمعيش اليومي. ولنا أن نتخيل كم الأنماط التعبيرية المنتجة بشكل يومي في أي مجتمع، لنعرف حجم التحدي الذي يواجه الباحثين لرصد اتجاهات تلك الأنماط، ومتابعتها.
أيضا، فإن تلك منهجية تحليل الخطاب للفنون القولية الجماهيرية لابد أن تكون مختلفة في نظرتها وأدواتها وإجراءاتها فهناك اختلاف كبير بين ما تنتجه اللغة المحكية / العامية، وما نجده في اللغة المكتوبة الرسمية . فلدى المتكلم تشكيلة كاملة من المؤثرات مصدرها نبرة الصوت وكذلك ملامح الوجه وأشكال الوقفة والحركات، فيستطيع المتكلم دائما تجاوز آثار الكلمات، آخذا في حسبانه الموقف والسياق وطبيعة المستمعين له خاصة أنه يستطيع أن يرى المتكلم وينوّع من مؤثراته الصوتية والحركية كي يحقق الغاية المرادة، مدركا كيفية وقوع الأداء في ذات المتلقي، وهل ما يقصده ملائم للموقف والعمر والنفسية والعقل أم لا.
وهناك فنون قولية وحركية وبصرية تحتاج إلى أشخاص ذوي ملكات خاصة في إنتاجها وتسويقها، فإلقاء النكات والطرائف مثلا يحتاج مهارة وشخصية ضاحكة وقدرة على التمثيل والتأثير، لا تتوافر للكثيرين، وهذا يصدق أيضا على الأغاني الشعبية، ورواة السير الشعبية، والأشكال التمثيلية الشعبية وغيرها ؛ لنصل في النهاية إلى أن هناك إبداعات جماهيرية تُؤدَّى بشكل عفوي ارتجالي من جانب منشئيها، وهناك بلاشك بارعون فيها، وهناك إبداعات جماهيرية أيضا قد يكون فيها ارتجال أو إعداد مسبق، ولكنها في النهاية تحتاج إلى ميزات خاصة في من يقدمها. وفي جميع الأحوال، فإن دارس الخطاب الجماهيري يضع كل ما سبق في حسبانه كي يخرج بتصور مكتمل عن النص ومنشئه وسياقاته ورسائله.
أيضا، فإن بلاغة الجماهير المنطوقة لها سمات خاصة، تفوق الرسمي والمدون، وتتمثل أبرز هذه السمات في أنها نصوص مجهولة المؤلف في أحايين كثيرة، أو جماعية التأليف في أحايين أخرى، وفي جميع الأحوال، فإنها نصوص غير ثابتة، يتم تغييرها بالزيادة والحذف، حسب السياقات الملقاة فيها، وبعض النصوص يتم إعادة إنتاجها وتكون مأخوذة عن شفاهيات قديمة، وقد رأينا أمثالا شعبية وأغاني ونكات وطرائف قيلت في حقب تاريخية سابقة، وتم استحضارها في مواقف جديدة، بنصها أو بتغييرات فيها.
٭ أكاديمي مصري
مصطفى عطية جمعة
بلاغة الجمهور بلاغة تستميلنا عاطفيا أكثر مما تقنعنا عقليا لأنها أنتجت في سياق أو ظرفية ما تلعب على عواطف الشعب(الفقر،البطالة التشرد،الفساد،الهجرة…) . البلاغة رحبة وشساعتها أكبر من حصرها في جمهور لا يحكمه سياق ولا مقام تواصلي مضبوط، حتى وإن وجد فإنه يكون موجه بأيادي خفية ترشده نحو هدف معين يخدم مصالح اجندة معينة . تقبل مروري استاذي