تونس ـ «القدس العربي»: مدينة بنزرت لها مكانة خاصة في قلوب الوطنيين التونسيين، فهي آخر معاقل الاستعمار الفرنسي التي خاض التونسيون من أجل تحريرها ما سمي في معركة الجلاء التي سقط فيها الكثير من الشهداء والتي اندلعت بعد سنوات من استقلال تونس. وحصل خلاف بين التونسيين حول هذه المعركة التي كانت إحدى ملاحم الجيش التونسي التي تبعث على الفخر.
إذ يعتبر البعض أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قام من أجل نرجسيته بزج التونسيين بعد استقلال البلاد في معركة غير ضرورية مع الفرنسيين باعتبار أن فرنسا في رأيهم كانت ستسلم بنزرت وقاعدتها العسكرية للتونسيين، في حين يرى آخرون أنه لولا شجاعة بورقيبة ومبادرته بالهجوم على الجيوش الفرنسية بقوات مسلحة تونسية فتية وحديثة التشكيل لكان مصير بنزرت كمصير سبتة ومليلية المغربيتين اللتين ما زالتا ترزحان تحت الاحتلال، باعتبار أن فرنسا في رأي هؤلاء كانت راغبة في الاحتفاظ بمدينة بنزرت بعد أن بادرت بتوسعة مدرج الطائرات في قاعدتها الجوية.
موقع استراتيجي هام
وتقع بنزرت في أقصى شمال البلاد التونسية، وفي أقصى شمال القارة الافريقية أيضا مطلة على البحر الأبيض المتوسط وعلى مضيق صقلية الذي يفصل شرق المتوسط عن غربه. وهي محطة هامة في طريق الملاحة الدولية الذي يعبر المتوسط من خلال مضيق جبل طارق وقناة السويس رابطا بين المحيطين الأطلسي والهندي.
وفي المدينة بحيرة كبرى ترتبط بالبحر بقناة بحرية ما جعل الوصول إليها من ناحية الشرق يتم عبر جسر متحرك، يرفع حين عبور السفن الكبرى للقنال، ويعود إلى وضعه الطبيعي لتعبر فوقه السيارات والشاحنات والدراجات وكذا البشر، وذلك في غياب السفن القادمة من البحر والمتجهة صوب الميناء. ويطل هذا الجسر على واحد من أجمل المناظر التي يمكن أن تشاهدها العين المجردة إذ يمكن رؤية يابستين شمالا وجنوبا وبحرين شرقا وغربا يفصل بينها جميعا هذا الجسر.
لقد زار رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق جول فيري مدينة بنزرت سنة 1887 أي ست سنوات بعد إقرار ما تسمى «الحماية الفرنسية» على تونس، وقام بجولة بحرية في بحيرة بنزرت وانبهر بما رأى قائلا «لقد كنت محقا حين أتيت». وأضاف أن قيمة هذه البحيرة تضاهي قيمة البلاد التونسية بأسرها وأن احتلال فرنسا لتونس تم من أجل بنزرت التي جرى إنشاء قاعدة عسكرية بحرية ضخمة على ضفافها ورثها الجيش التونسي البحري لاحقا بعد جلاء الفرنسيين.
وتشبه القاعدة البحرية في بنزرت، والتي تضم أيضا قاعدة جوية، نظيرتها في الميناء البوني التاريخي في قرطاج الذي مضت قرابة الثلاثة آلاف سنة على إنشائه. فهي قاعدة داخلية خفية بعيدة عن المياه الإقليمية وأعالي البحار ويمكن حماية المنشآت والسفن والآليات العسكرية داخلها في زمن الحروب وإصابة أي هدف يقترب منها سواء للاستطلاع والرصد أو للاستهداف المباشر.
الميناء القديم
أهم معالم بنزرت هو حتما الميناء القديم والمخصص اليوم للصيد البحري، فهو ميناء على غاية من الجمال مكن البحر من الحصول على مساحة شاسعة داخل المدينة بعد أن تغلغل في أعماقها. ويجعل هذا الميناء بنزرت شبيهة بمدينة البندقية الإيطالية التي يتداخل فيها البحر باليابسة حتى صعب أو استحال الفصل بينهما في بحر متوسطي عرف كثيرا من أهم حضارات هذا الكون.
وتتجمع على ضفتي هذا الميناء الجميل مقاه ومطاعم ومبان وأسواق ومعالم أثرية هي من مكونات المدينة العتيقة لبنزرت، وأهم هذه المعالم القصبة وجامعها. وتوفر القصبة، بحجارتها التاريخية القديمة، مع زرقة البحر، مشهدا رائعا للعين جلب إليه العديد من الفنانين الذين انبهروا بجمال بنزرت وصاروا من روادها الأوفياء.
ويتمكن رواد الميناء القديم لبنزرت من تذوق أجود أنواع الأسماك وبثمن بخس، إذ يكفي فقط التجول في سوق السمك الذي تتوفر فيه أنواع لا تحصى، واقتناء كميات منه ثم أخذها للشواء بعد تنظيفها في السوق من قبل البائع أو غيره بثمن زهيد. ويقدم الشواؤون مع طبق السمك أنواعا من السلطة التونسية مثل السلطة المشوية والتسطيرة وغيرها.
تاريخ عريق
وتواجدت بنزرت منذ ما قبل التواجد الفينيقي في تونس، فسماها الفينيقيون هيبو أكرا والرومان هيبو ديارتوس ولعبت دورا بارزا في الصراع بين القرطاجيين والاغريق من أجل السيطرة على المتوسط، ولاحقا بين القرطاجيين والرومان في حربهم المريرة التي دامت قرونا. وعرفت بنزرت أيضا حكم الوندال والبيزنطيين، ثم جاء الإسلام وتداولت عليها كما سائر مدن تونس دول عديدة مثل الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والموحدين.
وعادت لبنزرت أهميتها خلال العهد الحفصي حيث باتت تونس مسرحا لصراع هيمنة جديدة على المتوسط بين الأتراك العثمانيين والاسبان الذين طردوا أعدادا كبيرة من مسلمي الأندلس الذين استوطن كثير منهم البلاد التونسية. فظهرت حول بنزرت مدن وقرى أندلسية جديدة ساهمت في تطوير الجهة مثل مدن رفراف ورأس الجبل والعالية وغار الملح وقلعة الأندلس.
وقد جلب الأندلسيون معهم عادات جديدة وكانوا يتقنون علم الزراعة وحرفا وصنائع كثيرة مما ساهم في تطوير الجهة بأسرها. فقد وجد القادمون من قرطبة وإشبيلية وبلنسية حضنا دافئا في بنزرت ومحيطها استعاضوا به عن فردوسهم المفقود وخفف بعضا من آلامهم التي تسبب فيها في الأساس فرديناند وإيزابيلا ملكا قشتالة والأراغون.
ومثل أغلب المدن الساحلية التونسية نمت بنزرت وازدهرت مع العثمانيين باعتبار اهتمامهم بالبحر للغزو والقرصنة. فزادوا من تحصينها في العهدين المرادي والحسيني وخلال الفترة التي كان يعين فيها حاكم تونس من الباب العالي مباشرة والتي سبقت حكم العائلتين المرادية والحسينية.
واحتل الفرنسيون تونس وكانت بنزرت دافعهم إلى هذا الاحتلال على حد تعبير جول فيري، فزادت التحصينات حول المدينة الأعلى في القارة الافريقية والمتاخمة للأراضي الايطالية وللأسطول السادس الأمريكي. ولم تغادر فرنسا المدينة إلا بعد خمس سنوات من استقلال تونس بعد معركة حرر فيها التونسيون أرضهم لكن بعد سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. ويذهب رؤساء تونس سنويا يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر إلى بنزرت لإحياء ذكرى عيد الجلاء وللترحم على شهداء هذه الملحمة التاريخية بمقبرة الشهداء بالمدينة الرمز.
بنزرت اليوم
أصبحت بنزرت واحدة من أكبر وأهم المدن التونسية على جميع الصعد فهي تضم أكبر وأهم ميناء تجاري في البلاد إضافة إلى مرافق سياحية وصناعية وخدماتية. وهي متنفس سكان العاصمة الرئيسي إلى جانب مدينة الحمامات إذ تستقطب شواطئها الجميلة الصخرية والرملية والنظيفة وفنادقها العائلات التونسية والجزائرية والليبية. وفي بنزرت جزر خلابة متوسطية لعل أهمها وأشهرها جزيرة جالطة التي تعتبر آخر نقطة في القارة الإفريقية من ناحية الشمال.
ويعتبرها البعض رئة تونس بالنظر إلى طبيعتها الغناء التي تضم جبالا وغابات تعتبر ثروة بكل ما للكلمة من معنى. ولعل أهم ما في بنزرت هي محمية إشكل التي تضم بحيرة إشكل وغابات وجبال هي مستقر لإحدى أنواع الجواميس البرية ولأنواع عديدة من الطيور المهاجرة وحيوانات أخرى يرتادها باستمرار طلاب المدارس في ترحالهم أثناء العطل المدرسية إضافة إلى العائلات التونسية والجزائرية والليبية.
وفي بنزرت أيضا أراض زراعية خصبة ممتدة ومترامية فهي ولاية فلاحية بامتياز تنتج الحبوب والزيتون والأشجار المثمرة. وفيها أيضا زراعة سقوية بالنظر إلى أهمية المائدة المائية في بنزرت التي تشهد تساقطات هامة من الأمطار وأحيانا الثلوج في بعض المناطق. لذلك تنتشر عيون الماء والمنابع الصافية في كل ركن من أركان ولاية بنزرت الساحرة الغناء التي تغذي العاصمة ومدنا أخرى داخل البلاد.
وفي المدينة مصانع هامة تعتبر من أعمدة الاقتصاد التونسي مثل مصنع تكرير النفط ومصنع الفولاذ والصلب في منزل بورقيبة الذي كان من مفاخر الصناعة التونسية والاقتصاد الوطني لكنه يشهد صعوبات مفتعلة من بعض المافيات في الآونة الأخيرة والهدف هو تفليسه تمهيدا لخوصصته وبيعه بأبخس الأثمان مثلما يحصل للعديد من المرافق العمومية الأخرى في عصر «الفوضى الخلاقة» الذي تعيشه تونس.
كما أنها على غاية من الأهمية من الناحية العسكرية ففيها أهم قاعدة عسكرية بحرية في البلاد وأيضا قاعدة سيدي أحمد الجوية التابعة لجيش الطيران. كما تضم ثكنة عسكرية هامة تابعة لجيش البر حتى أن البعض اعتبرها أهم ولاية في البلاد لكونها الحصن الحصين لتونس وواجهتها الأمامية في البحر الأبيض المتوسط.
فليس من باب الصدفة أن يفكر الغزاة في مهاجمتها في كل مرة تشهد البلاد حالة من الضعف والوهن على مدى تاريخها الطويل والضارب في القدم قرونا قبل ميلاد المسيح. فهي نقطة هامة في صراع القوى من أجل الهيمنة على البحر الأبيض المتوسط الذي كان خلال مختلف الحقب قلب العالم وازدادت أهميته بعد حفر قناة السويس، إذا لا يمكن التحكم في حركة الملاحة في المتوسط دون السيطرة على بنزرت أو الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع من يسيطرون عليها.
فإن كان مضيق جيل طارق وقناة السويس هما بوابتا المتوسط فإن مضيق صقلية ومدينة بنزرت تحديدا هي قلبه النابض الرابط بين الشطرين الشرقي والغربي. لذلك احتلت تونس في عصر ما من أجل بنزرت وقد تكون هي المخلص للاقتصاد التونسي وانقاذه من حالة الركود لو تم استغلال موقعها الاستراتيجي كأحسن ما يكون وهي المحطة الهامة في حركة الملاحة العالمية والتي تتوسط أيضا قارتي أوروبا وافريقيا، ومنها ومن رأس الرجاء الصالح في جنوب افريقيا يبدأ العد لاحتساب مساحة القارة السمراء باعتبارها أعلى نقطة في أقصى الشمال.
روعة قاسم
شكرا للسيدة روعة قاسم على التعريف بالمدن التونسية و تاريخها …على فكرة انا كل صيف فى بنزرت ….تحيا تونس تحيا الجمهورية
شكرا أستاذة روعة قاسم هذا أجمل مقال قرأته في حياتي.. كلماتك تقطر شعرا وتغزلا ببنزرت أجمل مناطق تونس الساحرة.
ربى يحفظ تونس واهلها من كل سوء وادم عليها الامن والامان وان شاء الله راح يكون فيه زيارة لهذه المدينة العريقة بتاريخها وحاضرها شاكرا للكاتبة على حسن توضيحها لاهم معالم هذه المدينة العريقة راجيا من الكاتبة المساهمة اكثر بترويج السياحة للمدن التونسية المبهرة بجمالها كون تونس حديقة متكاملة من المناظر الطبيعية الساحره ….. محب للجمهورية التونسية….