بوب ديلان وجائزة نوبل.. تجاوز المتوقع نحو عالم تعبيري متحول

حجم الخط
1

شكل حصول الشّاعر وكاتب الأغاني بوب ديلان على جائزة نوبل هذا العام مفاجأة للوسط الثقافي في العالم، غير أنه اتخذ في الثقافة العربية مظهراً آخر، إذ بدت معظم الأصوات مستهجنة لهذا الخيار، إذ لم تستسغ العقلية أو الذاكرة العربية هذا التحول الذي طال نهج القائمين على الجائزة، الذين استجابوا حقيقة لمفردات العصر من حيث أهمية تجاوز المنظور الذي لا يرى الثقافة إلا عبر تمظهرها الأدبي أو النخبوي.
ومع أن الثقافة العربية كما المثقفين العرب، خاصة المشتغلين في التحليل الثقافي يدركون أن الثقافة هي في المقام الأول ظاهر وممارسة اجتماعية تحتفي بكافة النماذج، ولاسيما ذات التأثيرات الشعبية، بل إنها تعد هذا النوع من الإنتاج نموذجاً مفضلاً لتطبيق الممارسة النقدية الثقافية التي تنحاز للتمثيلات أو القيم التي تخترق المنظورات الهرمية للمجتمع، والثقافة، بل إنها ربما تفتعل خطاباً نقدياً للسخرية من النماذج المتعالية في الثقافة أو الأدب.
في تعليق لجنة جائزة نوبل على منح بوب ديلان نقرأ مسوغات الاختيار، حيث جاء «منحت جائزة نوبل لبوب ديلان لأنه خلق تعابير شعرية جديدة ضمن تقاليد الغناء الأمريكية». كما ذكر أيضاً بأنه «شاعر عظيم ضمن التقليد الشعري للناطقين بالإنكليزية». يتضح من هذا التعليق أن ثمة تجسيداً لتقييم فني في الدرجة الأولى يسوغ هذا الاختيار، غير أن اكتناه هذه العبارات بما تختزنه من دلالات يحيلنا إلى أنها تتصل بمنتج ثقافي شائع كمسوغ لمنح الجائزة، ونعني الكتابة الشعرية الخاصة بالأغاني، أو التي تتخذ من منصات الغناء أداة للتأثير، وهذا يعني أن ثمة تأثيراً واضحاً لهذا النوع من الكتابة في ثقافة أمست لا تعترف كثيراً بالحدود، علاوة على أنها ترى أن الفنون والآداب لم تعد تحتفي بالتخصيص، أو التوصيف النوعي الأجناسي النخبوي، فهي تنظر للأثر الذي أحدثته – على سبيل المثال- كلمات بوب ديلان، وتنظر لأدائه الفني الذي استطاع أن يضيف تقاليد شعرية جديدة في الغناء، ما يعني أن ثمة تكويناً جديداً لمدرسة ابتكرها بوب ديلان استطاعت أن تشق طريقها في المشهد الغنائي الأمريكي، ولعل التعبير الأخير، يعني أن هنالك نموذجا لخصوصية محلية تتصل بالثقافة الأمريكية التي لا يمكن أن نتجاهل حجمها، وبهذا فإن لجنة الجائزة استجابت لأثر هذا الحضور الغنائي في اللغة الإنكليزية، أو الثقافة الأنكلوسكسونية، ولكنها في الآن اتجهت إلى الثقافة الأمريكية باختلاف مظاهرها، وتنوع مصادرها، كون هذه الثقافة لا تعنى بالمرجعيات العرقية والدينية كما تدعي في خطابها.
لا شك في أن بوب ديلان مارس موقفاً في تعبيراته الغنائية كما تجلت في مواقفه من الحروب، والدفاع عن المهمشين والمضطهدين، وهذا ما يعني أن بوب ديلان ليس مجرد كاتب أغان، إنما هو شاعر انحاز لمنهج تعبيري، رأى فيه قدرة على التأثير. وبهذا فقد كرس ديلان موهبته بالكتابة في مجال الأغاني لصالح قضايا محورية مهمة في الثقافة الأمريكية، التي تبدو هي الأخرى نموذجاً لكسر الحدود والقوالب، ورفض المتعاليات والنماذج الهرمية للثقافة. فالقيمة هنا تناط بالأثر، والنموذج الفني، بالإضافة إلى شيوع مفردات إنسانية تعبر عن بعض القضايا الهامة. وهكذا نستنج بأن العالم الآخر يبدو في نسق من التفكير والتوجه لفهم الأدب والفنون يختلف كلية عن فهمنا الخاص الذي ما زال يخضع لجملة من التصورات والتعريفات الحديّة أو المتوارثة، ما يعني بأن هنالك أسئلة تتعلق بهذا القصور في فهم الثقافة، كما الفنون، أو التعبير عامة، ولكن بمعزل عن التخصصات المعرفية التي باتت من مخلفات الماضي.
لقد كان فوز بوب ديلان بجائزة نوبل استجابة طبيعية لإيقاع الزمن الذي بات يغادر الحصون النخبوية لثقافات شعوب لم تعد قادرة على الصمود ما لم تتخلص من سيطرة إرثها الماضوي القائم على معايير بائدة من الفهم الكلاسيكي، أو بعبارة أخرى الفهم القديم للأدب أو الفن… أو الثقافة، ولاسيما ما قبل الثورة التقنية، أو العالم الرقمي الافتراضي حيث لم تعد كافة الحدود والاشتراطات التي تزخر بها معاجم الكتب والتعريفات الاصطلاحية للأدب أو الثقافة ذات جدوى، أو صالحة كونها تنتمي إلى عالم آخر لا يمت بصلة لما يمكن أن تفرزه حركة التاريخ التي تتجه إلى جهة لا معلومة، وبهذا فقد فقدت شرعيتها، ولكن هذا لا يعني نفيها، ولكن ينبغي ألا يمارس أعلامها إقصاء نماذج من التعبير الجديد. إن التثمين الجديد للعالم القائم على الموسيقى والكلمة في تقاطعهما معاً، يعني أن مدى التأثير الذي أحدثته موسيقى بوب ديلان، وكلماته قد تجاوز في حدودهما قوة الخطاب الأدبي الذي يعاني من جملة الانكسارات لا على المستوى العربي فحسب، وإنما على المستوى العالمي أيضا، ومع أن ثمة علامات استفهام كبيرة حول مقولة موت الأدب، ولكن هذا لا يمنع من طرح طرق تفكير، وبدائل أخرى لتعديل هذا النسق من التعبير، فهنالك اعتقاد بأن الأدب ينبغي أن يعيد إنتاج ذاته من خلال البحث عن منصات أو أنماط أخرى جديدة، وبوجه خاص من التشكيلات الفنية، والأنساق، كما أيضا الموضوعات التي ينبغي أن نسعى للولوج لها بعيداً عن المألوف أو السائد.
لاريب أن منح ديلان جائزة نوبل – على الرغم من الانتقادات التي يمكن أن نصادق على بعض منها- من حيث معيارية المنح، ومقدار ما يطرأ من المنظور السياسي على توجهات اللجنة، ولكننا مع ذلك لا يمكن أن ننكر الأثر الذي كان لبوب ديلان في صوغ الوعي الجديد للثقافة، وهذا لا يقتصر على فئة محدودة من البشر كبعض المثقفين والمتعلمين، وقراء الأدب ممن انتظروا اسماً أدبياً لامعاً أو رصيناً، إنما هذا يشمل قطاعات هائلة من المتلقين نظرا لجماهيرية الموسيقى وشعبيتها، لقد اختارت الجائزة أن تكون شائعة النهج، وقريبة من الناس.
إن القضايا التي ناضل من أجلها بوب ديلان عبر الموسيقى والكلمات، والفن عامة مما لا يمكن أن نتجاوزه، ولاسيما موقفه من الحروب وويلاتها. فبوب ديلان ليس مجرد فنان، أو كاتب أغان فحسب إنما هو وعي قائم بذاته، ولكن لا يمكن أن يفهم إلا في سياق الغرب الذي لا يرتهن لقيم زمانية أو مكانية، أو حتى لتحديدات المنهجيات والأكاديميات، فهو يتبع الحياة بتكوينها، وإعادة تشكيلها، والذي يكفل لها أن تبقى في حدود التأثير، وعدم الانكفاء، مع الحرص على تجسيد وعي جمالي، وهنا نقع على أحد أهم مبادئ الفهم العربي للثقافة التي ترى أن الخطاب والتعبير الشعبي، يحتفي بالقدر الأقل من الجمالي، ولكن هذا نشأ لعدم تكريس تنظير حقيقي للجمالي، علاوة على وجود ممارسة نقدية متطورة. وهنا تتضح لنا أهم إشكاليات الثقافات التي تسعى إلى الإبقاء على نماذج من المتعاليات الفنية بوصف من أنتجوا هذا النمط… لن يسمحوا بتجاوز التقعيد المنهجي الذي وضعوه في تعريف الفنون والآداب، ولهذا فأن أي محاولات لهتك هذه المنظومة من التعبيرات والمفاهيم سوف يجابه بالرفض، كما الإقصاء، ونتيجة لهذا يبقى الأدب في حالة من الجمود، فضلاً عن اللغة الخشبية المنعزلة عن الحياة، وحيوية الواقع، بالتجاور مع تقدم نماذج رديئة من الكتابة أو الغناء أو الثقافة عامة.
لا شك أن إطلالة على بعض النماذج لسيطرة النخب والمؤسسة على الثقافة سوف يجعلنا نفهم أسباب قصور الثقافة العربية عن الوصول إلى العالمية، مع جملة أخرى من الأسباب، ولعل أهمها يتصل بقتل المستقبل لصالح الماضي، والمواهب لصالح تحيزات، ومحاصصة اجتماعية أو سياسية، ومن ذلك على سبيل المثال ما نشاهده من مفارقات حيث يُقصى شاعر موهوب من مسابقة شعرية محلية، كما يتجاهل إعلامياً، ويرفض نشر ديوانه لكونه لا يستجيب لذائقة مجموعة من سدنة الثقافة، ومؤسساتها، أو لمعياريتها العرقية، أو الطائفية، أو القبلية، أو السياسية. وهذا ينسحب على كثير من المطربين الذين لم يظهروا لولا برامج المواهب الإقليمية التي سمحت بتميزهم ونجوميتهم، على الرغم من أنهم رفضوا، وتم تجاهلهم في منصات بلدانهم، وبرامجها للموهوبين، وهذا ينتج بفضل القائمين على صنع السياسة الثقافية والفنية في العالم العربي، فمعظمهم يرغبون في الإبقاء على فهمهم المتخيل للثقافة.
إننا بحاجة إدراك بأن عدم القدرة على المفاجأة، والتزام المتأمل، والمتوقع، كما السعي للاستجابة للنموذج الرسمي لتحولات الثقافة هو أحد أبرز أسباب تراجع الثقافة العربية، وعدم قدرتها على أن تجد لها موطئ قدم في المشهد الثقافي العالمي، إذ ما زلنا نتعامل مع الثقافة بمنطق الدولة، والبوليس، والعشيرة، وما يجوز وما لا يجوز… فثمة تراتبية في الثقافة ينبغي عدم تجاوزها، كما ثمة آباء وأسلاف، كما تقاليد للكتابة، ودعايات بأننا في هذا العالم نتعرض لاستلاب مخزوننا الثقافي، ولهذا يجب أن نتحول إلى جنود للدفاع عن تعريفات الأوائل للشعر، والوزن، والقافية، وصلاحية قصيدة النثر، ومشروعيتها، لا أن ننشغل بالتعبير عن همومنا، في عالم بات يمزج الثقافة بروح العصر المتسارع من قيم رقمية، وافتراضية، ومدى من الحرية… كون هذه العناصر هي مفتاح التلقي الجديد.
إن فوز بوب ديلان مع تقدير الإتاحة لكافة الخيارات في فهم نوايا اللجنة، وقيمها المسيسة، لا بد أنه لم يكن سوى إشارات إلى اتجاهات جديدة بأن الثقافة، والأدب، والفنون ليست سوى ممارسة لا تستجيب لحدية التاريخ، فضلاً عن قيمه ذات الطابع الماضوي، بل إنها تتجه نحو المستقبل الذي لا نمتلكه، إنما هو نتاج العصر الذي نعيشه، وللأجيال الأخرى، وأي محاولة للإبقاء على فهم محدود لن ينتج معه سوى إعادة تكرار للقوالب القديمة، وعدم التقدم في تكريس أنماط تعبيرية جديدة تستجيب لإيقاع هذا الزمن. فما الممارسة النقدية الثقافية إلا أداة لرصد هذا التحول من الأجناسية الخاصة بالممارسة الخطابية، بالإضافة إلى كونها فعلا ثقافيا يتخلل الإنسان، وعالمه، وبهذا فإن ثمة دعوة للتوقف عن محاولة التعلق بأوهام النخب، ومؤسساتها الثقافية التي تبدو متأخرة جداً عن فهم تحولات الثقافة، ولعل هذا يضعنا أمام علامات استفهام عن السياسة الثقافة الفنية في عالمنا، كما أنه يشير إلى رؤية ارتجاعية نكوصية للثقافة يمكن أن تؤدي بنا إلى المزيد من التلاشي والضياع، كما الغياب عن المشهد الثقافي العالمي.

بوب ديلان وجائزة نوبل.. تجاوز المتوقع نحو عالم تعبيري متحول

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول balli_mohamed:

    وراء هد االتقرير الفني اضع بعض السطور وبلغة الفن لاالوجه الأخر فاالمنبر متميز عن المنابر الأخرى ومع كامل الأحترام لها فاالمنبر مثله مثل المنابر يدخل السوق الفني الأدبي لاسوق الخضر والفواكه فيختار ماشاء بعقلية فنية ودكاء فني عال من حق الشعر ان يفتخر جوائز متنوعة تسبح في فضاءه الواسع فاالموسيقى هي روحه ينطق بها يمشي بها فالقب بساحر العظيم فاالشاعر لايسمى شاعرا اد ا لم تكن النغمات الموسيقية بين كلماته فاالنغمة شيء لابد منه .
    يعتبر اسم ألفريد نوبل أحد أشهر الأسماء في العالم، كما تُعَدُّ الجائزة المعروفة باسمه من أقدم الجوائز العالمية وأكثرها شهرة وأكبرها قيمة؛ سواء من حيث قيمتها المادية، أو من حيث قيمتها الأدبية والمعنوية.

إشترك في قائمتنا البريدية