كان الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي أحيت تونس الاثنين الذكرى الخامسة عشرة لوفاته، شخصية مثيرة للجدل منذ شبابه وبدء انخراطه في الكفاح الوطني مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. وقد كانت علاقته بالإسلام – أي اجتهاداته في تأويل النص القرآني، ثم تشريعاته التي خالف بها ما استقر عليه إجماع علماء المسلمين وحكامهم – المصدر الأساسي للجدل ولاستمرار الشبهات حتى الآن. أما المؤرخ محمد الطالبي، فقد كانت حياته الأكاديمية الحافلة بالبحث والتأليف والنشر في الدوريات المختصة تتسم بالهدوء والبعد عن الأضواء. وكان من الطبيعي أن يقتصر صيته على نخبة من المثقفين والطلاب وألا يكون معروفا لدى الجمهور. ولكن المفارقة أن هذا المثقف المستقل حقا قد صار شخصية مثيرة للجدل منذ حوالي عامين أو ثلاثة، أي بعد أن ناهز التسعين من العمر! أما المفارقة الثانية، ولعلها الأغرب، فهي أن مصدر الجدل بشأن هذا الشيخ المتديّن منذ صغره هو مصدر الجدل ذاته بشأن بورقيبة «العلماني»: أي قضية العلاقة بالإسلام من منظور الاجتهاد في تأويل النص القرآني.
ونظرا إلى أن بعض الجهات سارعت، مثلما هو متوقع، إلى إهدار دم الأستاذ الطالبي، فإن من المفيد التذكير بأن قوة إيمانه بأن الإسلام دين الرحمة قد حدت به، من قديم، إلى تجنب استعمال كلمات مثل الإلحاد والكفر. حيث يقول في كتابه «عيال الله» إن كلمة الإلحاد «أصبحت اليوم في لغتنا العربية ماسة بالكرامة»، ولهذا فهو يستعيض عنها بكلمة «النفاتية» التي استوحاها من بيت شعر لأبي العلاء المعري: لقد أثبتّ لي خالقا حكيما، ولست من قوم نفاة. وبما أن كلمة «كافر مثقلة بمعان فقهية وشرعية تحكّم القتل والإعدام»، حسب قوله، فإنه يستعيض عنها في كتابه «ليطمئن قلبي» بعبارة «الانسلاخ إسلاميين» المستلهمة من الآية الكريمة «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها (…)».
ولهذا فإن من اللافت، في ضوء ما سبق، أن الطالبي لم يتردد في التساؤل عن مدى صحة استخدام كلمة «المرتدّ» عند بحث موقف بورقيبة الإشكالي من الإسلام. ذلك أنه نشر مقالين ممتازين بالفرنسية في مجلة «جون أفريك» عقب وفاة بورقيبة كان أولهما، عام ألفين، بعنوان «موت الذئب» (وهو عنوان قصيدة شهيرة للشاعر ألفرد دوفينيي كان بورقيبة يحبها ويحفظها عن ظهر قلب). أما المقال الثاني، عام 2004، فقد كان بعنوان «هل كان بورقيبة مرتدّا؟». ليس السؤال من عنديّات الطالبي، بل إنه صدى لأسئلة وشبهات طويلة الأمد بلغت ذروتها في الفتوى التي أصدرها الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عام 1974 بعد مراسلات مع الأستاذ الشاذلي القليبي، مدير الديوان الرئاسي آنذاك، بشأن خطاب مضى فيه بورقيبة إلى حد التشكيك في بعض المسائل الإيمانية.
يصوغ الطالبي القضية على طريقته، فيتساءل إن كان التاريخ سيذكر مهندس استقلال تونس باعتباره «بورقيبة المرتدّ» جاعلا منه بذلك الشريك الوحيد في هذا «الامتياز التاريخي» للامبراطور الروماني الملقب بـ»جوليانوس المرتد»؟ ويقول: لعل الزعيم التونسي لا يرى غضاضة في هذا، وهو الذي قفز على أربعة عشر قرنا من التاريخ الإسلامي ليتماهى مع الزعيم البربري يوغرطة، الذي عاش من عام 160 إلى 104 قبل الميلاد، لأنه «لم يجد في (تاريخ) الإسلام أي شخصية على مقاسه». ويشرح الطالبي أن روح العصر الذي عاشه جيل بورقيبة من المثقفين في تونس وباريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى لم يكن يساعد على التدين أو الاعتزاز بالإسلام. فيقول إن بورقيبة لم يكن يعرف من الإسلام إلا ما تعلمه في المعهد الصادقي من أساتذة كانوا جميعا ذوي تكوين زيتوني تقليدي، وإن ذلك لم يخلف ذكريات طيبة لديه ولدى معظم أبناء جيله.
وبعد التذكير بأن الثقافة الإسلامية كانت عهدئذ محل تحقير عام وممنهج لا بد أنه فعل فعله في بورقيبة الشاب، يقول الطالبي إن بورقيبة لم يخض الكفاح ضد الاستعمار باسم قيم الإسلام بل باسم قيم الثورة الفرنسية، وإنه لم يكن معجبا بالقيروان بقدر ما كان معجبا بقرطاج البونيقية. ثم يخلص إلى أن «أقل ما يمكن قوله هو أن الإسلام لم يكن يتبوأ مكانة مركزية في حياته وفي تكوينه».
بهذا الأسلوب الوصفي، الذي يضع الأمور في نصابها التاريخي والثقافي، يعالج الطالبي علاقة بورقيبة الإشكالية بالإسلام، خاتما – ويا لمسك الختام ـ بالدعاء له بالرحمة الربانية. إن ربنا واسع الرحمة والمغفرة.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
يا مالك التريكي عنوان رائع وطرح رائع، وأسمح له أعيد صياغته تحت عنوان وإضافة “اشكالية المثقف والسياسي في دولة “الحداثة” مع الإسلام والقانون”، وأضيف من وجهة نظري دولة “الحداثة” قامت على أنقاض دولة الأندلس الأموية، والتي فيها محاكم التفتيش للنخب الحاكمة من خلال السامري (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) عملت على فرض ثقافة الـ أنا الكاثوليكية على اليهودي والمسلم وحتى البروتستاني وبقية الطوائف المسيحية.
حكمة العرب لخصت حالة المثقف والسياسي لثقافة الـ أنا في دولة “الحداثة” بقول “معاهم معاهم…عليهم عليهم” هذا الوضع فضحته وقامت بتعريته العولمة وأدواتها التقنية عندما قام منتظر الزيدي وفي بث حي مباشر برمي حذاءه على ممثلي النظام البيروقراطي لنظام الأمم المتحدة الفاسد، في وادي الرافدين مهد الحضارات الإنسانية في رمزية عجيبة غريبة في 17/12/2008
حيث أنني لاحظت اشكالية المسلم مع ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة” هو مفهوم إن ضربتك النخب الحاكمة على الخد الأيمن يجب أن تعطها الخد الأيسر وقبل ذلك عليك أن تسامحها كما هو حال الثقافة الكاثوليكية، ومن هنا كان المسلم سبب الاشكاليات في دولة “الحداثة” في كل أرجاء المعمورة، حيث أن تكون عبدا ذليلا للنظام البيروقراطي يمكن قبوله عندما تتكفل بمصاريفك، ولكن كيف يمكن قبول استعبادك واذلالك عندما تكون الدولة مفلسة ولا تستطيع دفع حتى راتبك الشهري فكيف الحال عندما تكون أنت من يصرف عليها من خلال دفعك للضرائب؟! كما هو حال اليونان وما تعانيه من شبح الإفلاس بعد انهيار نظام الديون الربوي للمصارف والبنوك بعد عام 2008 بالرغم من كونها عضو في الاتحاد الأوربي ولديها صناعة وزراعة وتجارة وفوق ذلك سياحة تفوق في دخلها أكبر الدول السياحية دخلا على مستوى العالم.
لغة أي مجتمع تمثل خلاصة حكمة أهله، وكلّما زاد عمر مجتمع زادت حكمته، فلذلك تجد أن لغة حضارة الصين ولغة حضارة ما بين وادي الرافدين ووادي النيل تنتمي إلى عائلة لغات الاستقراء والاستنباط، في حين اللاتينية وبقية اللغات الآرية والأوربية تنتمي إلى لغات التأويل. حيث من وجهة نظري أن تقول عن الأبيض أنّه أسود، ومن ثم تصدر فتواك على الأسود، هذا لن يجعل اللون الأبيض أصبح أسودا، ولا أصبح لفتواك أي شيء من المصداقيّة أو له علاقة بالواقع، فعملية الخلط بين اللونين من خلال مفهوم الصراع بين الأضداد الفلسفي سينتج لون جديد لا هو اسود ولا أبيض بل هو أحد درجات الرمادي، ولكن هناك ملايين الألوان غير هذا اللون في ألوان الطيف الشمسي.
وحكمة العرب قالت “ناقل الكفر ليس بكافر” وأنا أضفت عليها “ولكنه بالتأكيد مثقف ببغائي، ومُسبّب للفتن”
أنا لاحظت أنَّ اشكالية ثقافة الـ أنا في طريقة فهم كل شيء حولها، هو في عدم اعترافها بوجود إلاّ الـ أنا، والتي تؤدي إلى عدم رؤية كامل الصورة، فلذلك الانطباع الذي سيخرج به لن يكون له علاقة بالواقع، بل هو دعاية للكيان الصهيوني على حساب أمريكا مع الأسف كما حصل مع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يكُرّر أنّه مواطن “للصهيونية”، فمثلا لو كانت أمريكا بلد الحريات من الذي قتل مارتن لوثر كينغ ومالكوم أكس وحتى الرئيس كيندي وأخوه الذي كان في منصب المدعي العام، وهل القضاء حقّق العدالة في قضاياهم؟ على سبيل المثال لا الحصر، ولماذا احتفل السود بطريقة عاطفية جدا في موضوع وصول باراك أوباما إلى رئاسة الجمهورية؟ وهناك الكثير من التيارات التي تعاني من مشاكل حقيقية في أمريكا وفرنسا والتي لا تعتبرها النخب الحاكمة في الدولة من ضمن ثقافة الـ أنا، ولذلك تحاربها كما حاربت محاكم التفتيش في اسبانيا مع المسلمين واليهود وكل من لا يتبع ثقافة الـ أنا الكاثوليكية، والتي الثورة الفرنسية اقتبست أدواتها من أجل فرض ثقافة الـ أنا للنخب الحاكمة على الشعب في الدولة الحديثة تحت مسمى “الحداثة”، في كل الدول الأعضاء في نظام الأمم المتحدة البيروقراطي بداية من الكيان الصهيوني.
الله قال لنا أنّه لا يعلم بالنيّات إلاّ الله، مشكلة أهل علم الكلام/الفلسفة هي لا تعمل وفق مفهوم تعرف نيّة أو مقصد الإنسان فقط، ومن هذه الزاوية تدخل لتوزيع صكوك الجنّة أو النار في المواضيع، بل وتعرف حتى مقصد ونيّة الله، في تعارض واضح لا لبس فيه مع تعاليم الإسلام، فأي عقل في مثل هذا الإيمان أصلا؟ فأن كنت تُريد دخول جنّة الله يجب أن تلتزم بقوانين الله، فقد قالت حكمة العرب “القانون لا يحمي المغفلين”.
ما رأيكم دام فضلكم؟
بورقيبة له كل الفضل في بناء الإنسان، وهو لا يختلف عن بن خلدون.