بيروت: هزيمة بنكهة الانتصار

حجم الخط
8

لا يستطيع تحالف الطبقة السياسة إعلان انتصاره في الانتخابات البلدية في بيروت رغم أنه انتصر، كما لا يستطيع التحالف المدني العلماني الديموقراطي الذي جسّدته لائحة «بيروت مدينتي» اعلان هزيمته رغم أنه هُزم، فالهزيمة والنصر لهما في بيروت معنى آخر. المنتصر الذي نجح في بناء تحالف هجين جمع الطبقة السياسية والمافيوية كلها، هُزم أخلاقياً وسياسياً. أما المهزوم، الذي شكّل حركة اعتراض شبابية وشعبية لا سابق لها، فقد انتصر أخلاقياً، وبنى لنفسه أرضية سياسية صلبة، وأثبت أن قوى التغيير بدأت تتحول إلى قوة شعبية، وأن الحراك الشبابي، الذي أعلن أن رائحة السلطة الفاسدة هي نفسها رائحة النفايات، يتحوّل اليوم إلى قوة سياسية وأخلاقية، تمتلك أفق المستقبل.
العملية الانتخابية تستحق أكثر من وقفة تحليلية، لكن قبل أي تحليل يجب توجيه التحية إلى التفاني والعمل الدؤوب الذي قام به شابات وشباب «بيروت مدينتي» وللروح التي بثوها في شوارع بيروت بقمصانهم البيضاء وقلوبهم البيضاء وارادتهم بأن يكونوا القابلة التي تستولد الفرح والحب والأمل. شابات وشباب الحملة الذين انتصروا للحرية والمساواة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية هم الخميرة التي تبنى عليها الأوطان. انهم نقيض الطبقة السياسية التي تتعفن في فسادها وطائفيتها وعدم قدرتها على تحمّل المسؤولية واستسلامها للغباء والعجز.
أريد التوقف عند ثلاث ملاحظات:
أثبتت «بيروت مدينتي» أن برنامج العمل والرؤية الواضحة والقدرة على بناء لائحة تضم مروحة سياسية عريضة ممن يجمعهم هدف الخدمة العامة، هي أساس العمل الديموقراطي. لقد خاضت اللائحة معركة سياسية ضد الطبقة الحاكمة بجرأة وحكمة. وقفت في مواجهتها لائحة من ديناصورات السياسة والاحزاب المتهالكة. ليس غريباً أن يكون مدير «سوليدير» رئيس لائحتهم كلهم. كلهم اجتمعوا اليوم مثلما سبق لهم وان اجتمعوا على سحق الحراك الشبابي ضد اغراق البلاد في النفايات. «كلن يعني كلن» من الحريري إلى بري وجنبلاط وعون والقوات والجماعة الاسلامية والفرعون ومطرانية بيروت الاورثوذوكسية وإلى آخره… كلهم اجتمعوا ضد أصحاب القمصان البيضاء كي يقولوا لنا أن علينا أن نيأس ونرضى بالذل والمهانة. لكن الأرقام جاءت لتثبت أن «بيروت مدينتي» كانت رقماً صعباً، وأن مصادرة التمثيل الشعبي لم تعد سهلة، وأن الركوب على ظهور الناس بحجج طائفية واهية لم يعد مقبولاً.
برز الخلل واضحاً في القانون الانتخابي، فمن دون النسبية سوف تبقى الديموقراطية ناقصة ومستباحة وخاضعة لأمراء الطوائف والمال. ومن دون هيئة مستقلة للانتخابات سوف تبقى العملية رهينة السلطة الفاسدة، ومن دون وضع سقف للانفاق الانتخابي سوف تبقى اليد العليا للمتمولين واللصوص.
الملاحظة الثالثة هي الأكثر أهمية لأنها تكشف فضيحة النظام السياسي الطائفي. يبدأ السؤال من كيفية نجاح كل الطبقة الحاكمة التي تهددنا أطرافها يومياً بالحرب الأهلية، والتي قادت تناقضاتها إلى شل المؤسسات ومنع انتخاب رئيس للجمهورية، في التوحد ضمن لائحة واحدة؟ (يجب ألا يخدعنا استنكاف «حزب الله» عن المشاركة في اللائحة البلدية، لأنه آثر عدم احراج الحريري، لكنه جزء من التحالف وقد عبّر عن ذلك في انتخاب المخاتير).
صحيح كيف توحّد هؤلاء، ومن أين جاءت العصا السحرية التي ألفت بين قلوب الأعداء؟ هل كل هذا الصراع السياسي مجرد مسرحية، أم هناك قطبة مخفية؟
يجب أن نقرأ هذه الوحدة المستجدة في إطار فهمنا لمعنى الطائفية السياسية التي تحكم لبنان وتتحكم به. فالطوائف كقوى سياسية هي نتاج واقع معقد يشكّل التحالف مع/ أو العمالة لطرف أقليمي أو دولي مفتاحها. لذا يبدو الصراع في لبنان بين طائفتين كبريين تنعمان بالدعم الخارجي: السنّية السياسية عبر علاقتها/ارتباطها بالمحور السعودي والشيعية السياسية عبر علاقتها/ارتباطها بالمحور الايراني. المحوران في صراع دموي شامل في المنطقة، لذا لا تجرؤ القوى المتحكمة بالطائفتين على انجاز تسوية داخلية تنقذ النظام من الانهيار. هذا هو سبب الشلل السياسي العام الذي عطّل عمل جميع مؤسسات الدولة.
وإذا كان الأسياد الإقليميون معنيين بالسياسات الكبرى التي يلخصها موقع لبنان في الصراع الاقليمي، فإنهم غير معنيين بالتفاصيل الصغيرة. فالانتخابات البلدية في عرفهم مسألة تفصيلية لا تقدم ولا تؤخر، ويُسمح فيها بقدر من الاستقلالية. هذا سمح للطبقة الحاكمة بأن تلتف حول الحريرية وسوليدر من أجل متابعة استباحتها المشتركة لبيروت، وهنا أيضاً نلاحظ سياسة براغماتية دفعت الجميع إلى عدم خوض معركة خاسرة أمام الحريري والسنّية السياسية وتشكيل لائحة الديناصورات.
المرض اللبناني هو الطائفية السياسية، لأنه يمنع تشكيل وطن، ويجعله رهينة لقوتين غاشمتين هما القوى الاقليمية والمافيات المحلية. فيبقى لبنان ساحة للصراعات الاقليمية المدمرة من جهة ورهينة لأمراء الطوائف والحرب والمال من جهة ثانية.
هذه الملاحظات الثلاث يجب أن تكون على جدول أي نقاش جدي لعمل مستقبلي يتابع مسيرة العمل والنضال من أجل حرية الوطن، وتحرر المواطن.
اليوم يجب أن نهنيء هذه الكوكبة الرائعة من الشابات والشبان الذين أضاؤوا عتمة المدينة ببياضهم ونقائهم وعملهم الكبير. لقد نجحوا ونجحنا معهم.
والمعركة مستمرة، فالانتخابات البلدية لم تكن سوى محطة في طريق طويل وشائك، لكنه الطريق الوحيد لإخراج لبنان من نفايات طبقته السياسية المتهالكة.

بيروت: هزيمة بنكهة الانتصار

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    متى ما إنتهت الطائفية بلبنان يبدأ التوجه الوطني لخدمة الوطن والمواطن
    المشوار بعد طويل يا أستاذ إلياس
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول رياض- المانيا:

    هناك محاولة من الانظمة العربية لالغاء عنصر الشباب وشطبه عن الساحة السياسية والخدمية في البلاد لانهم محرك التغيير في اي مجتمع لهذا يراد لهم ان يغرقوا في الفساد والاهتمام في توافه الامور. لبنان فعلا بلد العجائب فكل شيء فيه فعلا غير. تحية طيبة استاذ الياس.

  3. يقول عبد الكريم ايطاليا:

    لبنان ليست مريضة بالطائفية ،لبنان مريضة بالطبقية فئة تجري في عروقها دماء زرقاء ورتث السيادة و الثروة و السلطة كابر عن كابر و ما تبقى اتباع و اشياع منقسمين بين هذا السيد و ذاك و عندما يتخاصم الاسياد يتقاتل الاشياع في الطرقات انتصارا لاسيادهم،و ما تبقى من اللبنانيين بقوا رهائن بايدي هؤلاء و هؤلاء ليس لهم صوت ينطق باسمهم و ياسوا من لبنان فمن هاجر هاجر و من بقي اعتزل في بيته حتى ان من ذهب لتصويت في بيروت لم يتجاوز عُشْْر الناخبين المسجلين ،كان الله في عون لبنان فلم يتعافى بعد من الحرب الأهلية و طالت فترة نقاهته لعل الله يجعل له مخرجا عما قريب…

  4. يقول أبو جمال:

    الصراع داخل المجتمع في جوهره صراع من أجل التحكم في الثروة (وسائل الإنتاج و التوزيع) لكنه يتميز على مستوى الشعارات المرفوعة بالتضليل من خلال إعطائه صبغة شعبوية أو طائفية (دينية ، مذهبية ، عرقية ، لغوية ، إقليمية…)
    و عندما تنكشف اللعبة تتحالف القوى المتصارعة لحماية امتيازاتها و مواقعها .

  5. يقول مراقب.المانيا:

    بيروت أشبه بنيويورك صغيرة.فيها كل التناقضات والألوان .كذلك التحالفات.انا ابن بيروت .انتقل بين احيائها .كما انتقل من بلد لآخر .لكن هنا سر رونقهاوسحرها.وأهل بيروت.برأيي المتواضع هي مرآة الشرق.تعكس حالته.أليس بالشرق المتناقض مع نفسه ايضا.حمى الله مدننا العربية كلها.

  6. يقول أحمد بيه / المانيا:

    فعاد بنو إسرائيل أيضًا وبكوا وقالوا: من يطعمنا لحمًا؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا، والقثاء والبطيخ والكرّاث والبصل والثوم …. سفر العدد

    جرت العادة في مصر القديمة ان لا يجلس على عرشها أكثر من فرعون واحد في نفس الوقت.. أما في لبنان فيكاد ان يكون لكل حارة فرعونها الذي وفي مقابل البطيخ والبصل والثوم وأكل السمك مجاناً يستعبد أهلها فكرياً , باسم الدين تارة وبالأعراف والعادات الاجتماعية تارة أُخرى.

  7. يقول منى*الجزائر*:

    المهم والأهم ان قادة الحراك من شابات وشباب لا يعترفون بالإنتماء الطائفي…وفهموا معنى أن تعيش في وطن مزقته الطائفية ورهنت حاضره خدمة لأجندات القوى الإقليمية واصحاب النفوذ المالي في الداخل…فقرروا بناء الوطن من جديد وعلى أرضية متينة صحيحة تضمن لهم الاستمرار والتوسع..حتى يدخل كل الشعب اللبناني تحت مظلة الوطن للجميع…
    بناء الثقة مع الشعب هو حجر الزاوية في الممارسة السياسية…عليهم تكثيف عملهم ونشاطهم السياسي كي تتسع شعبيتهم..ويكتسحوا البرلمان ويؤسسوا للبنان مزدهر لأنه يستحق…
    كل التقدير للكبير الاديب الياس خوري..

  8. يقول Angry Lebanese:

    Wonderful piece. Thank you for reporting on this so beautifully and succinctly

إشترك في قائمتنا البريدية