وصلت أمي بالأمس. طلبت مني ألا آتي لأقلّها من المطار، واتصلت بإحدى شركات التاكسي عبر الإنترنت وحجزت توصيلة. لم أنتبه لهذه التفصيلة ودلالتها إلا عندما رأيت ماما ببنطلونها و»شنطة» الظهر الخفيفة والإيشارب الأحمر. المرّة الأخيرة التي رأيتها فيها قبل ثلاثة عشر شهراً، كانت ترتدي ملابسها المعتادة، ثوبا أسود تحت عباءة سوداء مطرّزة الصدر بحبّات خرز ملوّنة.
في اليوم الأول طلبت وجبات من مطعم قريب لأنها «مهلوكة» من الرحلة الطويلة. في اليوم الثاني وبعد أن ارتاحت تماماً أصرّت أن تطهو أكلة لا أذكر اسمها، تعلّمتها من جارة مكسيكية، تقول إنها صديقتها المقرّبة. بعدها أخرجت أمي أكياس الهدايا؛ ثروة كاملة بعثت بها أختي إليّ، محافظ وعطورا وملابس إكس إكس إكس إل تناسب قياسي وثلاثة أزواج من الأحذية. في اليوم الثالث أردت أن أعزمها على مشويّات، إلا أنها رفضت، لأن وراءها مشوار. ستقابل بعض الأشخاص من طرف زوج أختي، وغيرهم ممن ستحتاج إليهم في مشروعها. في البداية لم أهتم بكلمة مشروع تلك، وظننت أن ماما ستخيط بعض التريكو والمفارش كما كانت تفعل هنا لتؤنس نفسها. عندما رجعت من مشوارها، وأثناء تناولنا العشاء، فتحت الحاجّة موضوع المشروع، قالت:
– مش أمّك خلاص هتبقى «بيزنس وومن».
انحشرت الكلمة في أذني وأنا أسمعها من الحاجّة خلال شرحها لمشروعها المرتقب. مطعم للأكل المصري والعربي في كاليفورنيا، طعمية وفول وكشري وحواوشي وملوخيّة بالأرانب وشاورما ومناقيش وكبيبة وفتّوش ومقلوبة وحريرة وطاجين وكبسة وبرياني وهريس وثريد.. تقول الحاجّة: «انت ما تعرفش فيه عرب قد إيه في إل إيه». تقول أيضاً: «والأمريكان كمان.. دا القرنبيط جنّنهم». وتؤكّد: «المطاعم أكتر مشروع يكسّب هناك».
آآه يامّة.. ماذا فعلت بكِ الأيام؟
أستحضر منظر بنطلونها الجينز الواسع، والكروكس الرمادي ذي البطانة الفسفورية في قدميها، وقبل كل ذلك حجابها الأحمر. لا أعرف كيف أعلّق على المشروع الذي تستفيض ماما في شرح تفاصيله: موقعه، تكلفته المعقولة، أرباحه المضمونة، مورّدي الخامات ونسبة الضرائب، والمفاجأة التي أذهلتني، المتمثّلة في الاسم (أم عُمر فور أورينتال فوود).
تقول ماما إنها تعتزم أن تتولّى الإشراف على المطبخ بنفسها، مستعينةً بمجموعة من الشابّات العربيات صديقات بطّة، من سوريا ولبنان والمغرب واليمن، ومرتكزةً على خبراتها في المطابخ الشامية والخليجية والمصرية. إذ رافقت أبي لسنوات أثناء عمله في الإمارات، وهناك تعلّمت الكثير عن المطبخ الخليجي، في مدينة العين، وبالتحديد في حارة السوريين في حي الجيمي، وأتاح لها نطاق الجيرة السوري ذاك فرصة كبيرة أيضاً لتتقن بعض الأطباق الشامية. عدا عن خبرتها الأساسية في المطبخ المصري. المطابخ الثلاثة اجتمعت منذ سنوات في كرشي. وها هم يعاودون الاجتماع مرة أخرى في (أم عُمر فور أورينتال فوود) الذي صار هاجساً أساسياً لأمّي ستظل تكلّمني عنه طيلة فترة تواجدها، وحتى ترجع إلى أمريكا. تقول: «الأوراق هتكون باسم بطّة»، تقول أيضاً: «وإن شاء الله عن طريق المطعم هاخد الإقامة». وتختتم: «إيه رأيك بقا؟».
رأيي؟
ليس لديّ أي رأي يا أمي، أنا متفاجئ فقط، متفاجئ قليلاً. لكن لا تقلقي ستزول توتّراتي سريعاً. أنا مرن، مرن جداً والحياة في هذا البلد علّمتني أن أواكب الأحداث وأتفاعل معها بليونة ونعومة وانسيابية. ثم أي أحمق هذا الذي سيتضايق عندما ترفع أمّه الستينية اسمه عالياً على الجانب الآخر من المحيط في بلاد العم سام عن طريق الكسكسي والكبسة والتبّولة؟ رأيي يا ماما إن عيارك فلت.. تماماً.
أتجاهل الأفكار التي تطن في رأسي وأرد:
– هايل طبعاً. إنتِ عظيمة يا حاجّة والله
تبتسم أمي، وتنفحني مائة دولار. أقول لها إن معي فلوس، فتقول: افتح حساب في البنك. أقول: فتحته قبل أيام. تقول: إعمل حساب دولاري. أبتسم وأذكّرها بمقولة جدّي الله يرحمه: «الدولار عملة أهل الجنة». فتلوي بوزها وتستغفر الله ثم تترحم عليه. تدخل إلى غرفتها، وتعود ومعها آي باد لم أتوقّع أبداً أن أراه بين يديها. تشغّله ثم تريني ستة تصميمات مختلفة للوغو المطعم، كلّها تحت شعار واحد (سندلّل كرشك We will pamper you tummy ). أقول لها ضاحكاً: «يا دين النبي». تقول: «حلوة ؟». أقول: «أوي. واضح إنك عارفة إنك صانعة كروش من الطراز الأول».
وفي قرارة نفسي أتساءل: ياترى هتجيلي السنة الجاية وانتِ عاملة إزاي يا حاجّة جينيفر؟
٭ روائي مصري
أحمد مجدي همام
جميلة