بنو اسرائيل أول من فجر شرارة الانقلاب العسكري في التاريخ المدون، استنادا إلى تفسير الإصحاح السادس عشر من «سفر الملوك الأول»، فرئيس المركبات «زمري» انقلب على الملك «إيلة بن بعشا» في «ترصة» عام 876 قبل الميلاد، مستوليا على الحكم لسبعة أيام قبل أن ينتحر حرقا بعد تفويض الإسرائيليين لرئيس الجيش «عمري» للإطاحة به والتورط بحرب أهلية انتهت بتنصيبه ملكا، وبهذا تكون لهذه الجالية حقوق الملكية التاريخية للانقلابات القصصية، التي تسبق مرحلة التوثيق بالبث الحي والمباشر بقرون خلت.
الانقلاب خسيس وغادر، إن لم يكن بمباركة شعبية، كما حدث في مصر قبل أن يكتشف الشعب طامة البركة، وعادة ما تفوح منه رائحة الدسيسة والخيانة والدمار، وهو ما يرتبط أخلاقيا بمن استهلوا به التاريخ ليطوروا أدواته فينقلبوا على الذاكرة والجغرافيا والأرض والسماء والآلهة والأنبياء والحقيقة، ولم يكن ينقصهم سوى ختم اللعنة «الفيسبوك»، الذي دشنوا به عصر الثرثرة المجانية ليشرحوا الأدمغة ويسبروا النفوس ويهدروا الطاقات ما بين الفكين والألسنة والتكبيس والتنفيس، الذي يتعاطى الانقلاب بالحقن الذاتي كوباء أفيوني، فهل بعد هذا يكون التطبيع لعبة أم حنكة سياسية، كما تنقله «بي بي سي» العربية أم أنه صك غفران بصلاحية منتهية؟!
يلدريم والمهاميز الذهبية
قبل سنتين وتحديدا في مارس/آذار 2014 بثت الحكومة التركية إعلانا وطنيا على الفضائيات المحلية والـ «يوتيوب» حصد ملايين المشاهدات في مدة لا تتجاوز الثلاث دقائق تصور اقتحام رجل مجهول لسارية العلم، وقطع حبل الرافعة لتنكيسه، مما يحدو الجماهير للتهافت نحوه من كل حدب وصوب وتسلق السارية لرفعه عاليا في مشهد قيامة مبهر ينتهي بصورة أردوغان جنبا إلى جنب مع النجمة والهلال، ومن شاهد رسالته المصورة على الـ «فيستايم» فجر السبت المنصرم وهو يحث الشعب التركي على الاحتشاد في الميادين والشوارع يدرك الرصيد الشعبي الهائل لهذا السلطان المعاصر، الذي هز العالم بثباته وراء كلمة الشعب العليا، التي لا يُعلى عليها، فهل كان الإعلان بمثابة نبوءة أم تهيئة أم أنه تدريب رمزي على الحكاية؟
«الاندبندنت» البريطانية اعتبرت الانقلاب هدية لأردوغان، واستبشرت بإحكام قبضته للانتقام من أعدائه والقوى الموازية، بعد معركة «المهاميز الذهبية» – إن جازت لي المقارنة – التي انتصر فيها الشعب على العسكر ليرد الاعتبار إلى مشاة «الفلمنك»، الذين أطاحوا بخيالة فرنسا عام 1302، وقطعوا مهاميزهم بالسواطير وعلقوها في الكنائس والمعابد كتذكار يليق بالنصر أكثر بكثير من دموع «يلدريم» في مؤتمره الصحافي وقد غاب عن خاطره المثل التركي القائل: «من يُسقط نفسه لا يبكي»!
غادة عويس ورائحة دم غولدا مائير
الصدمة في الفضاء العربي أربكت المحررين الإعلاميين والأداء بشكل عام بقدر انقسام المعسكر الإعلامي وتخبطه بين الحسابات والمصالح والعلاقات السياسية المتأرجحة، ليبدو المشهد متخلخلا يفتقر إلى توازن الرؤية ووضوح الانطباع واللهاث خلف تصريح رسمي من البيت الأبيض تأخر كثيرا عن موعد الزحف الشعبي، الذي سبقه إلى ساحة ميدان «تقسيم» في اسطنبول كأن أوباما كان ينتظر انتهاء المهمة ليطوي الصفحة الأردوغانية قبل مراسم الوداع الأخير في ساحة «لافاييت» في واشنطن، وقد أكدت هذا صحيفة «التلغراف» لما نشرت التصريحات والبيانات الأوروبية – الأمريكية، التي تستنكر الانتقام واختراق حقوق الإنسان بعد فشل الانتظار حتى ليبدو حالها (كمن تردد بين مسجدين فعاد بلا صلاة)، وهو ما تعجبت منه غادة عويس وهي تهزأ من شعاراتهم العوراء كأني بها تكاد تحاججهم بالاستشهاد بالمقولة التركية: «ألف رجل مسلح لا يستطيعون تجريد رجل عار»، والحمد لله أنها لم تستشهد به!
عندما زارت غولدا مائير مواقع في طابا، (صفنت صفنة) طويلة (بقت بعدها البحصة): «أشم رائحة يثرب وخيبر»، هكذا تبدأ أحلام الغزاة والمتآمرين: بالرائحة – حاسة الوحوش الأقوى – حين تستبد بهم نشوة الافتراس ويتنشقون عبق الدماء قبل سفكها، لا يعلمون أن الدوائر تدور على العطار «بياع السم» قبل الطباخ «ذائق السم»، وأن تاريخ السم أثبت تقنيته كأداة قتل قبل أن يكون مستخلصا طبيا للعلاج، وأن الشعوذات السياسية لا بد أن ينقلب دهاؤها على أصحابها من أصحاب الدم الأزرق وقبعات الريش أو «الكيباه»، الذين يستخدمون الطرابيش والعمائم لتحريك الرؤوس باتجاه الخوازيق أو الفوانيس!
فيديو المعارضة
الجريمة لم تعد عمياء – رغم أنها كذلك – بل جاحظة تنظر إلى عين الكاميرا بعيون ناتئة كعيون الذباب، تنتقم من الملائكة حين تعجز عن تدليل الشياطين، وتتسلى بقطع رؤوس الأطفال حين تمل من ممارسة رياضة المعارضة الفاشلة: نطح رأس الأسد، في حفل تتويج جمجماتي لمجموعة المعارضة المسماة «نور الدين الزنكي» في «حندرات عين التل» شرق حلب، حيث قطعت رأس طفل فلسطيني هو «عبد الله عيسى» ادعت أنه يقاتل مع القوات الموالية للرئيس الأسد ضمن «لواء القدس»، فأين أين الرحمة يا الله؟!
الكاميرا فضاحة، والجريمة إباحية ضمن المفهوم المزدوج للإباحة، الذي يشمل الجنس والعنف معا، لأن الجريمة المصورة تمنح قدرا من المتعة التلصصية والحسية لإثارة الغرائز إما الشهوانية أو التحريضية للمشاهد، وفي الحالتين تعبر عن انحراف أخلاقي وسلوكي نابع من خلل ذهني خطير، يكرس لتيمة ثقافية مستحدثة لا تعتمد على الأداء التمثيلي أو الخيالي بل الفعل الحقيقي المباشر مما يعني أن الإبهار فطرة الثوار… سحقا!
سينما الجريمة
كان هذا النوع من الأفلام سريا في أمريكا وأوروبا منتصف القرن الفائت، وقد تستغرب لما تعرف أنه بدأ من هوليوود كصناعة سينمائية مات معها سرها مذبوحا وغامضا فوق سطوح أحد الأبنية بعد أن نشر ميكائيل فايندلاي مشروعه السينمائي في الأرجنتين لمجموعة من الثوار القتلة، مستندا إلى أساليب «الهيبيز» الجرائمية في الستينيات، كما عرضت «الجزيرة الوثائقية»، سبق ذلك الفيلم الإيطالي «عام لعين» الذي صور التهام الأسد للضحية مباشرة ومشاهد لآكلي لحوم البشر وتقطيع القرود وسلخ السلاحف، لينتشر تعبير «الشيطان الجميل»، الذي برر به المخرجون وحشية البطل الفتاك في الفيلم، وهو ما أثار «دافيد سنيل» لكتابة رواية بوليسية لافتة وغريبة أسماها: «نقتل أم نُصور؟»، فإن كان دافع القتل هو الصورة فهذا يعني أن الطفل الفلسطيني ذباح قاتله وليس العكس!
تقرير صلاح سرميني في برنامجه «متابعات» لأفلام الجرائم الحقيقية المباشرة أمام الكاميرا، كان مثيرا في ختامه، كما في عرضه، عندما ربط تاريخ الجريمة السينمائية بالبث الحي المباشر لإعدام صدام على الهواء ولحفلات قطع الرؤوس والتهام الأكباد بعد عصر الياسمين المسموم … ويلاه!
هكذا إذن يبرر الغرب نزعته «الترامبية»، متذرعا بشيوع «الهيبيز الداعشي والعربي» بعد حفلات الدم أمام الشاشات والكاميرات، فهل تلوم الفخاخ أم تلوم المجانين والحمقى، أم تلوم الذين تسري في عروقهم دماء آلهة الخراب ويحرُم على الملائكة عصيانهم؟! أَلا إنهم أبناء طغاتهم… ألا إنهم لعنة اللعنات و فواحش الدهور … فهل أكتفي أم أزيد؟!
أيها المشاهد لا أكتب إليك لكي تفهم أو أفهم، إنما لكي نتأمل معا استعصاء الفهم في زمن بلا مفهومية… وأراهن دائما على إحساسك قبل عقلك لأنني أكتب إليك بعقل جنوني وكظيم أحاسيسي وهنا مربط اللغة… وسلامتكم.
كاتبة فلسطينية تقيم في لندن
لينا أبو بكر
فهمت ألان عدم فهمي واوفق السيده الكاتبه ، بأن هذا هو زمان بلا مفهوميه ، واصبح ليس من ألضروري أن نفهم , أو بالاحرى أفضل لنا أن لا نفهم . شكرا للكاتبه …
لا حول ولا قوة الا بالله
” الانقلاب خسيس وغادر، إن لم يكن بمباركة شعبية، كما حدث في مصر قبل أن يكتشف الشعب
كل ما قرأت للنساء فى هاته الجريدة كل ما زاد اقتناعى بأن العالم كان يكون أفضل لو حكم من طرفهن.
اشكر ابن الجاحظ على تعليقه ومتفق معه مع اني لا احب المديح لان من واجب الصحفي او الكاتب ان يمتعنا ويزودنا في المعلومه وان يجعلنا نحلق معه في عالم الابداع لكن يجب ان نهمس. للكاتبه ،،ابدعت،،،وشكرا لك والشكر ايضا للسيد سهيل كيوان
لقد استطعتُ يا لينا ان استقبل كل الضوء الصادر عنكِ , وافك رموز ما استعصيَ من موارد الابهام !!
ان مجسات احساسي تجبِرُ خلايا عقلي بامتصاص هيولة الحدث؟!.
ومضات فكرك يا لينا , اضاءت كل مساحات العتمة المتجذرة في متاهات ذاتنا, و..استطعنا ربما ؟ ان ندرك مكامن الجنون المدفونة في مسالك هذا الفكر النّيّر,
داومي الكتابة يا بنت ابو بكر بهذا العقل الجنوني , وبجنونية هذا العقل , لان الجنون بداية الاهتداء الى مسارات الفهم والادراك والمنطق والسلام .
وكأن الطفل الفلسطيني قتل لأنه من فلسطين وكان نائماً في حجر أمه فسقط عليه برميل متفجر أوصاروخ فراغي
وكأنه لم يُذبح وهو يذبح ويقتل كم طفل بريء ذبح هذا المجرم حتى أوقعه الله بيد العدالة ليقتص منه
كفاكم نفاقاً يامن صنفتم أنفسكم أنصاراً للثورة ماحدث أمرطيبعي في ظروف الحرب أما ماهو غير طبيعي هو الذج بهؤلاء الأطفال من مجرمين قذرين في حروب لاناقة لهم فيها ولا جمل
مقالة مميزة يااستاذة لينا.. مزيدا من الابداع
“كلمة شعب عليا التي لا يعلى عليها”، كلام جميل …يمكن لأي محلل سياسي أو متتبع أن يقارن بين حالتين هما في غاية الأهمية لفهم العلاقة بين صناديق الإقتراع و الإنقلاب العسكري….بين عطر الورود والياسمين من جهة وذبح السكاكين وسفك الدماء من جهة أخرى، أردوغان الإخواني التركي ومرسي الإخواني المصري هما في نفس المرتبة والوضع السياسي، كلاهما تم انتخابهما من خلال صناديق الاقتراع، تعبيرا عن إرادة الشعب، بفارق 52 بالمائة لصالح كل منهما، مما يعكس انقسام الشارعين المصري والتركي بين مشروعين مجتمعيين، لماذا نجح الانقلاب في مصر ضد ألإخواني مرسي وفشل نظيره في تركيا؟
الانقلاب العسكري مرفوض أخلاقيا، بما يشكله من تهديد للأمن وضرب للديمقراطية والتعبير الحر عن الإرادة الشعبية عرض الحائط.
لماذا يشكل الإخوان المسلمون خطرا على الديمقراطية؟ لو اكتفى السيد أردوغان بوضعه الداخلي التركي، واحترم حرية الرأي والتعبير، ولم يقم بإغلاق المحطات التلفزيونية ولا الجرائد لمعارضيه، ولا الزج بمنتقديه في السجون، لو لم يستدعي الجهاديين ويفتح لهم الحدود ويقدم لهم الدعم اللوجستي ليعيثوا فسادا في سوريا، وترسل مخابراته العسكرية الأسلحة والمعدات لقتل وتشريد الشعب السوري لنصرة مشروعه الإخواني من خلال جماعات “جبهة النصرة” و “أحرار الشام” وقبلها “الدولة الإسلامية”…، لو لم يتدخل أردوغان في الشأن الليبي وقام بمساندة “الإخوان المسلمين” في ليبيا ….بالسلاح والمال…والأمثلة كثيرة …لكان العالم بأسره يصفق لتجربة أردوغان واعتبر أن تجربته الديمقراطية كإسلامي نموذجا يحتذى به في العالمين العربي والإسلامي،
لقد فوت الجيش والشعب التركيان فرصة ذهبية عندما خرجت الجماهير تندد بمخطط أردوغان في منتزه أو حديقة جيزي ، أو ما يعرف ب « Gesy Park » من عام 2013، وتم قمع الاحتجاجات الشعبية بالقوة القاهرة، كان على أنصار فتح الله جولين وأنصار اليسار والليبراليين وورثة مصطفى كمال رص الصفوف واستباق الأحداث
تحية للكاتبة المتألقة لينا أبو بكر
أذكرك بوعد قطعته بأن تكتبي مقالا عن إعلام المقاولة الذي يسمي نفسه مقاولة
وأعتقد أن الفرحة بإنقلاب تركيا من قبل إعلام المقاولة سوف تجدين فيها زادا لمقالك المقبل إن شاء الله