بين «الأعرابية» و«العربية»

حجم الخط
7

جاء في تعليل تسمية العرب بهذا الاسم أنهم سكان «العَرْباء»، وهي الأرض الواضحة التي لا شجر فيها يحجب الرؤية، وهي البادية (التي تبدو للعين ولا يُحجب فيها النظر)، والتي نُسب إليها سكانها من البدو. واقتضت أطوار البداوة أن يحمل البدوي «خيمته/وطنه» على ظهره ويسافر به متتبعاً مساقط الأمطار ومرابع البقاع.
لكن الأعراب بعد ذلك، مرت قبائل منهم بمرحلة الاستقرار، وأسسوا القرى/ المدن فأصبحوا عرباً، فيما ظلت قبائل أخرى في «مرحلة البادية»، فظلوا أعراباً، ومن هنا جاء الانحياز في القرآن لصالح العرب ضد الأعراب، الذي يعني الانحياز لقيم التمدن والاستقرار وإقامة الحضارات، ضد قيم البداوة والتنقل ونصب الخيام. ولا يزال المستويان الحضاريان يعملان كخطين متوازيين ومرحلتين متقاطعتين في مسيرة العرب عبر التاريخ، إذ يتأرجحون بين مرحلتي: «الأعرابية»، و»العربية»، أو «أعرابية الخيمة/القبيلة» و»عربية الوطن/الشعب»، كما يحدث أن يمتد طور الخيمة بالتوازي مع طور الوطن، في المراحل التاريخية المختلفة، ويحدث أن يتداخل الطوران، وتختبئ الخيمة تحت «ثيمة» الوطن، كما يختبئ البدوي خلف ربطة عنق «بوليستر» الأنيقة، مع استمرار أثر المرحلتين في رحلة العرب الشاقة، نحو تحقيق أحلامهم كشعوب تسكن أوطاناً، لا قبائل تسكن خياماً.
واليوم لدينا اثنتان وعشرون دولة عربية، موزعة على مساحة جغرافية بين قارتين، يتداخل فيها على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي الطوران الحضاريان، بحيث تنفتح دلالة الرقم 22 على كل من القبيلة والشعب، أو «مشيخة القبيلة» و»سلطة الشعب»، إذ يحسب العمر الحضاري للشعوب بعصورها المعرفية والعقلية، لا بالمدى الزمني القائم على تراكم السنوات والقرون. وهنا يطرح السؤال التالي على المستويات المذكورة أعلاه: هل نحن إزاء 22 دولة عربية أم أمام 22 قبيلة عربية؟
بالطبع يبدو هذا السؤال الإشكالي اليوم موجعاً، مستفزاً وضاغطاً على اللاوعي العربي في القرن الواحد والعشرين، من دون أن يمكننا نفي مشروعية طرحه.
عندما نرى على شاشات التلفزة الأساليب الوحشية في القتل التي تمارسها الجماعات الطائفية والإرهابية في سوريا والعراق واليمن وليبيا، نشك في أن تلك الجماعات على مستوى النضج العقلي والعاطفي، وعلى مستوى المعطيات الثقافية والفكرية، نشك في أنها غادرت طور «الأعرابية» إلى طور «العربية»، خاصة ونحن نرى أن هناك حنيناً لدى هذه الجماعات إلى استدعاء «أيام العرب»، التي كانوا يحزون فيها رؤوسهم بالسيوف، كما تُحز اليوم الرؤوس بالمقاصل والمناشير، على يد «أبو درع، وأبو حديد».
إن وجود أمثال قيس الخزعلي – مثلاً- الذي قال إنه وعصابته هم «أولياء دم الحسين»، وإنهم سيقاتلون قتلة الحسين في الموصل، كما قاتلوهم في الفلوجة، وفي تكريت وفي ديالى، لأن «هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد»، حسب قوله، وجود هذا «المعم المتملشن» يعد ثيمة انتماء لطور «الأعرابية» فينا، في زمن تتراجع فيه «العربية»، ومثل الخزعلي الكثير من الذين يفجرون بيوت الخصوم في تقليد ينتمي إلى عصر «القبيلة/الخيمة، لا الشعب/الوطن، ناهيك عن كتائب قاطعي الرؤوس والأطراف الخارجين من مفاهيم البوادي والخيام، بمفهوميهما السالبين.
لا عيب بالطبع في «الخيمة» كمأوى للبدوي في طور حضاري معين، ولكن العيب في «الوطن» الذي أصبح بمساحة خيمة، ولا عيب في «القبيلة» السارحة وراء إبلها، تتبع مساقط الغيث، في فيافي بلاد العرب أمس واليوم، ولكن العيب في «الشعب» الذي يرتد إلى مفاهيم القبيلة في مقارباته السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، فيما هو يعيش مكانياً خارج البادية، وزمانياً بعيداً عن «أيام العرب».
كيف غادر العرب الخيمة جسدياً، ولم يغادروها عقلياً وعاطفياً؟ وكيف دخل العربي عصر «الآيفون»، فيما هو يعبئ جهازه بثقافة أبي ليلى المهلهل وجساس؟ أليس هذا السؤال الآخر مستفزاً، ضاغطاً وموغلا في دلالاته ووجعه؟
إن الحديث عن «الأعرابية» و»العربية» لا ينحصر في الجماعات الطائفية والإرهابية، ولكنه يتعداها إلى «النخب العربية»، هذه النخب التي لا تزال في «طور القبيلة»، ولا نعني القبيلة بمستواها في «مكة أو الطائف، أو جنوب الجزيرة» حيث القبيلة التاجرة والقبيلة المزارعة والقبيلة الحرفية عند قريش وثقيف وقبائل اليمن القديم، ولكن هذه النخب تجاوزت مستويات قبائل قريش وثقيف واليمن القديم، إلى مستويات «أعرابية» مذهلة عند «غفار ودوس»، وهذا يجسد توغل فكرة الماضوية في الزمان، و»الأعرابية» في الفكر لدى نخب تتحدث إلى جمهورها، من خلال شاشات موغلة في «حداثتها وتقانتها»، وهذه هي الإشكالية المعرفية والوجدانية والحضارية التي تعاني منها هذه النخب، التي افتتحت قبل أيام «حفلة زار» كبيرة أعملت فيها كل حيلها السحرية لشق الصف العربي اليوم، ذلك الصف الذي يبدو أقرب إلى معسكرين «أعرابيين» لعبس وذبيان يتقاتلان في بادية نجد، منه إلى فريقين «عربيين» من الكوفة والبصرة يتحاوران في قصر هارون الرشيد.
نحن اليوم للأسف الشديد في مقارباتنا السياسية أقرب ما نكون إلى تقاليد القبيلة منا إلى سياسة الدولة. خلافاتنا السياسية هي صورة «منقحة ومزيدة» من خلافات بكر وتغلب حول «ناقة البسوس»، التي ظلت مدسوسة بين صفوفنا قروناً طويلة، وهي في كل قرن تغير لونها وجلدها ودرجة رغائها فقط.
«ناقة الفتنة» هذه التي اندست سابقاً في «مرعى كليب» لتؤسس لحرب الأربعين عاما بين بكر وتغلب، هي الناقة ذاتها التي تندس اليوم في «مواقع وكالات الأنباء»، وتتسلل إلى شاشات التلفزيون، لتشعل نار الفتة في النسيج السياسي والاجتماعي في الخليج العربي ومصر والشام واليمن. والغريب أنه لا «ناقة البسوس» تغير جوهرها، ولا قبائل «ربيعة ومضر» غيرت مناهجها في مقاربة القضايا والإشكاليات، رغم أن الزمان يقف شيخاً جليلاً على «مضارب العرب» يلقي على مسامعهم المواعظ والحكايات والأخبار.
نعود لنقول إن «الأعرابية» و»العربية» هما حالتان شعوريتان، تجربتان روحيتان، مظهران اجتماعيان، وطوران حضاريان يتوازيان حيناً، ويتقاطعان أحياناً أخرى في تركيبة الشخصية العربية الحديثة والمعاصرة. يتجلى ذلك في القصيدة الشعرية، في اللوحة الجدارية، في طرائق التفكير، ومناهج النقد، في لغة الحوار التلفزيوني، في أدوات العمل السياسي، في محركات الفعل الثوري، في سبل إدارة المؤسسات والبنى البيروقراطية المختلفة، وفي النظر للعلاقات الدولية وآليات العمل الدبلوماسي.
وفي هذه الحالة يصعب لدى المتابع التمييز بين النخب العربية بتوجهاتها المختلفة من إسلامية أو قومية أو يسارية أو ليبرالية. إذا يظهر جلياً أن هذه النخب رغم الفروق الشكلية في ما بينها، ما هي إلا تنويعات متفاوتة على مقام واحد، ولا تعدو كونها تجليات لـ»مرحلة الأعرابية» في مسيرة العرب الحضارية الطويلة، حيث تأخذ فكرة «الثأر» طابعاً سياسياً لا يختلف كثيراً عن «ثأر المهلهل» لأخيه كليب على خلفية قبلية خالصة. وإذا كان الفارق بين النخب الإسلامية والعلمانية العربية يظهر جلياً بين هذه النخب على مستوى الخطاب، فإن هذا الفارق يذوب تماماً على مستوى الواقع والممارسات، بل إن الخطابين يتحدان أحياناً في المضامين والانفعالات، إذ لا فرق بين «إسلامي متطرف» يدعو إلى «قتال العلمانيين» بمفهومه، و»علماني متطرف» يدعو إلى «سحق الإسلاميين» من وجهة نظره. العقلية واحدة، وطرائق التفكير والأداء متطابقة، والفوارق مجرد فوارق في درجات اللون. وبما أن التربة الثقافية التي نبتت عليها الأنظمة والمعارضات العربية منقولة من «البادية»، فإن الفروقات بين تلك الأنظمة ومعارضاتها تكاد تنعدم جهة الممارسات، التي تتكئ على تراث يمتد من غبار معارك «داحس والغبراء» إلى ضجيج معارك «النخب العربية» على شاشات القنوات، وفي برامجها «الحوارية» بشكل خاص.
خلاصة القول: نحن لم نغادر القرون الغابرة في عمرنا الحضاري، ولم نخرج من الخيمة في بعدنا الوطني. وخلاصة القول أيضا: ليس المطلوب أن نحرق خيمتنا لكي ننتمي أكثر إلى العصر، بل المطلوب أن تظل الخيمة في «البادية»، نرجع إليها كلما أردنا أن نمارس هواياتنا في العودة إلى الماضي للانطلاق إلى المستقبل، والخروج من تقاليد الخيمة/القبيلة للدخول في ثقافة الوطن/ الشعب، ومنها إلى آفاق «الأمة» بمعناها الحضاري الواسع.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

بين «الأعرابية» و«العربية»

د. محمد جميح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو بغداد:

    قلم رشيق وفكر مشرق وانتماء عروبي عميق.. لمقال مليئ بالصدق متطلع نحو المستقبل رغم اكفهرار النسيج العربي الممزق ، واللامنتمي واللامعقول ، بل المهلهل كخيمة بلا أوتاد ولا عمود . بارك الله بك أيها الرجل اليماني الأصيل .. فلا بد لليل ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر .

  2. يقول صوت من مراكش:

    و نعم الخلاصة التي انهيت بها مقالك الرائع

    شخصيا لا يمكنني الا البصمة عليها بالعشرة

    و تحياتي

  3. يقول محسن عون/تونس:

    نعم البسط و نعم الخلاصة ونعم العمق و نعم الدّراسة و أيَ شعر و أيّ كياسة . طامح جامح كعادتك. سلمتَ و سلم القلم. شكرا

  4. يقول اليمانى المملكه المتحده:

    الحقيقه انى كنت قد ضعت فى متاهات ومنحدرات المقال وكدت ان اقف فى القراه فى الربع الاخير. ولكن بعون الله واصلت وعند بلوغى الخلاصه فى 12 سطر الاخيره تبين لى كل شى وفهمت مضمون المقال تماما. حماك الله وبارك الله فيك كاتبنا العزيز

  5. يقول عصام حمادي:

    ماشاءالله عليك يا محمد جميح والكيس فطن في كثير من أجزاء المقال ويحتوي على أكثر من معنى ماشاءالله عليك وحفظ الله الشعب اليمني من الأمراض والجوع وشدة المعاناة الله يخارج أبناء اليمن ويخلصوا من كابوسهم

  6. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان رائع ومحاور للتحليل والقراءة رائعة، ولكن أظن فاتك إضافة بين دولة الحداثة لثقافة الـ أنا أولا وبين العولمة التي تمثل ثقافة الـ نحن للأسرة الإنسانية، ولماذا الإسلام حرّم الربا بينما حلّل التجارة، خصوصا وأن كليهما هدفه الربح؟ فما الفرق بين ربح الربا (ثقافة الـ أنا) وبين ربح التجارة (ثقافة الـ نحن)، أنا أظن الفرق بين الربحين هو إنتاج الاقتصاد، فبدون الاقتصاد لن يمكن بناء الأسرة أو الشركة وبالتالي الدولة.

    أنا لاحظت كذلك أن مفهوم الحب في ثقافة الـ أنا يجب أن يكون على حساب كره ثقافة الـ آخر.
    بينما مفهوم الحب في ثقافة الـ نحن لا يتم بدون وجود ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر داخل الأسرة.

    رمضان شهر الإصلاح، من المنطقي والموضوعي وبالتالي لا يتعارض مع العلم هو أن مفهوم الحب داخل الأسرة، يجهله من لم يعرف معنى الأسرة، هناك فرق بين الحب خارج أطار الأسرة عن الحب داخل إطار الأسرة تلخصه كلمة المسؤولية من قبل ثقافة الـ أنا تجاه ثقافة الـ آخر في وجوده أو عدم وجوده، إشكالية دولنا عندما اعتمدت عقلية البدو في مفهوم من تعرف ديته أقتله لو وقف في طريقك، فكيف يمكن أن يكون هناك حب أو رغبة في الارتباط في هذه الدولة أو الشركة أو الأسرة؟!

    لأن مفهوم الوظيفة داخل الأسرة يختلف تماما عن مفهوم الوظيفة في الشركة أو الدولة، فوظيفة الأسرة لا يوجد لها ثمن مرتبط بزمن لإنجازه، بينما لا يمكن قبول وظيفة الشركة أو الدولة بدون ثمن لإنجاز اي أمر في وقته،

    شبح الإفلاس الذي يطارد مؤسساتنا في دولة الحداثة، سببه أن راتب الوظيفة ليس له علاقة بكمية الإنتاج، ومن هنا لا يمكن التحكم في تكاليف الإنتاج داخل الدولة، كي تستطيع المنافسة في أجواء العولمة، لتغطية مصاريف الأسرة كي تعيش بكرامة، ومن هذه الزاوية بدأت الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول في نظام الأمم المتحدة، فيما يطلق عليه هجرة العقول إلى دول مجلس التعاون في الخليج العربي التي وجدت حل لمسألة كيفية المحافظة على الإنتاج بشكل جيد مع وجود إشكالية العند والدلع بسبب الاختلاط من خلال قانون الكفالة والإقامة،

    ولكن اعتماد الرقم الوطني والحكومة الإليكترونية أصبحت الآلة (الروبوت) تنافس الإنسان على الوظيفة في الحكومة الإلكترونية، ولذلك أخطأت دول مجلس التعاون في الخليج العربي بسياسة تطفيش المقيم والزائر بزيادة تكاليف الزيارة والإقامة لأنها ستدمر الاقتصاد فيها

  7. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

    كالعادة ، وضع للأصبع على الجرح و للنقاط على الحروف !

    شرح توضيحي للعلة التي تعاني منها شعوب و دول المنطقة!

    لخصها نبي هذه الأمة (ص) في حديث قال فيه : من بدا فقد جفا !

    و كان الصحابة (رضوان الله عليهم) يعدون الرجوع الى البادية بعد الهجرة ، نوعاً من الردة !

    و لذلك هناك موقف شهير ، حين دخل الصحابي سلمة بن الأكوع على الحجاج بن يوسف الثقفي، قادماً من اقامته مع البدو في البادية ، بادره الحجاج، وهو من هو، بالقول ، آرتددت على عقبيك ؟! (اي ان الحجاج اعتبر سلمة بن الاكوع ، و كأنه نكص و ارتد لأقامته هناك في البادية !) ، سلمة لم يستهجن و لم ينزعج من كلام الحجاج ، و اعتبر ان اعتراضه و استهجانه مبررين ، فبرر وفسر و أوضح قائلاً : لا ، و لكن رسول الله صلى الله عليه وسلًم ، اذن لي في االبدو ! (اي ان اقامته في البادية و عودته للعيش مع الاعراب ، انما كان محض رخصة و لهدف ما ، ربما تعليم بعض البدو والاعراب دين الله بأمر و رخصة من النبي (ص) ).
    .
    كلما ابتعد الناس عندنا عن مفهوم الدين الحق ، كلما عادوا اعراباً و ارتددوا على اعقابهم ناكصين ، قبائل و افراداً تمزق بعضها بعضاً

    و لله الأمر من قبل و من بعد .

إشترك في قائمتنا البريدية