بين التجربة الإلكترونية والرقمية

حجم الخط
0

بعد مُضي سنوات مهمة في ممارسة التفكير والقراءة والكتابة عبر الوسيط التكنولوجي في التجربة العربية، وبعد أن أصبح التواصل مع وسائط هذا الزمن حاجة يومية، وممارسة اجتماعية وثقافية وسياسية، وبعد أن تحول الوسيط إلى سلوك اجتماعي، أثر في العلاقات الاجتماعية، وفي القضايا السياسية، وأصبح صوتا لمن ليس له صوت في مؤسسة سياسية أو ثقافية، أو في منبر إعلامي أو تربوي، وبدأت مظاهر التأثير تتجلى خاصة على المستوى السياسي، من خلال تفاعل ما يمكن تسميته بالمجتمع الفيسبوكي الذي بات يتفاعل مع الأحداث والقضايا، والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بسرعة، ويتخذ مواقف وقرارات، ويُعبر عن رؤى وتصورات قبل أن تتفاعل الأحزاب السياسية، التي بدأت تعرف تدريجيا شيئا من التراجع، أمام الإيقاع السريع للمجتمع الفيسبوكي، الذي ورَط المؤسسات السياسية والثقافية، حين غيَر موقعها، وجعلها لاحقة وتابعة، أمام هذه المتغيرات في موقع الوسائط التكنولوجية في حياة المجتمعات العربية، فقد بات من المُفيد مُساءلة التجربة العربية وعلاقتها بالزمن التكنولوجي، من خلال وقفة التساؤل حول طبيعة التعامل مع هذه الوسائط ، وإلى أي حد تشرَبت التجربة العربية التكنولوجيا باعتبارها ثقافة تنتج تصورات ورؤى، وليس مجرد وسائط حاملة للفكر والمعرفة والكتابة.
ولعل من بين القضايا التي نقترح التفكير فيها، مسألة علاقة الأدب العربي بهذه الوسائط، أو أكثر تحديدا علاقة الأدب العربي بالزمن التكنولوجي، وهل استفاد من ثقافة هذا الزمن؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن تجربة تكنولوجية للأدب العربي؟ وهل أنتجت التجربة كتابة وقراءة مفاهيم جديدة للممارسة الأدبية؟، وهل غيَرت التكنولوجيا مفاهيم الكتابة والأدب والقراءة والتلقي؟ وهل قامت مؤسسات ثقافية عربية من عينة المؤسسات المسؤولة عن الكتابة والأدب العربيين، بدراسات تحليلية لهذه العلاقة؟ وهل تتابع تجليات الأدب العربي بمختلف تعبيراته في الوسيط التكنولوجي؟ وهل لديها مشروع للتفكير في تحولات الأدب وتلقيه بناء على موقع الوسائط التكنولوجية في حياة الكُتاب والقراء؟ ثم هل دور النشر لديها وعي بنسبة القراءة مع ثقافة الزمن التكنولوجي؟ هل لديها انشغال بهذا المستوى من العلاقة؟ وهل أنجزت إحصائيات مُقارنة بين عدد القراءات على الوسيط الورقي ثم الوسيط التكنولوجي؟ وهل تهتم بمتابعة وضعية الأدب والكتابة عبر الوسيط التكنولوجي؟ هل لديها استراتيجيات للكتاب الإلكتروني؟ وهل تستعد تقنيا وتكنولوجيا لدخول زمن الكتاب/الأدب الرقمي؟ يدخل اقتراح هذه الأسئلة في إطار التفكير في وضعية الثقافة التكنولوجية في التجربة العربية، وتأمل طبيعة الوعي بتصريف هذه الثقافة.
بالنظر إلى طبيعة تجليات علاقة الأدب العربي بالوسائط التكنولوجية، نُسجل حضورا للبعد الإلكتروني أكثر من الرقمي في مستوى تفعيل علاقة الكتابة/الأدب مع الزمن التكنولوجي، بناء على التمييز المفهومي بين الكتابة الإلكترونية والكتابة الرقمية، كما تم تحديدها في النظريات التي تهتم بكل ما هو ترابطي وتفاعلي ورقمي وإلكتروني، التي تجعل النص الإلكتروني تجليا إلكترونيا للنص الورقي، الذي تتم إعادة نشره إلكترونيا، مما يساعد على نشره على أوسع نطاق، ووصوله إلى عدد كبير من القراء عبر مفتاح البحث، وتقنية التحميل.
وهو وضع يسمح بالتعرف على عدد القراء الافتراضيين، وعدد القراء المُتفاعلين الذين يتركون تعليقات أو ملاحظات حول قراءتهم للنص.
وهذا المستوى من التجلي الإلكتروني للكتاب/النص الأدبي أو الفكري يقدم عدة مؤشرات لمؤلف النص، ودار النشر، وللجهات المعنية بسؤال القراءة، من خلال تتبع عمليات التحميل، ومتابعة نوعية التعليقات، وبناء على ذلك يمكن للشركاء في صناعة الكتاب، تأليفا ونشرا وتلقيا اتخاذ تدابير منهجية من أجل تطوير عملية تسويق الكتاب.
لقد حققت عملية تحويل الكتاب الورقي إلى الإلكتروني في التجربة العربية تجربة مهمة، لكوننا بتنا نلتقي بنصوص كثيرة على مواقع النت، التي يسهل الدخول إليها، وتحميلها، وقراءتها إما على الشاشة، أو إعادة طبعها على الورق، ما يجعل النص الورقي يمر من عمليتين اثنتين حتى يعود من جديد إلى الورقي، لكن بعد أن يكون قد مر بالوسيط التكنولوجي، وتم تحميله، باختيار من القارئ، وبإرادة منه.
غير أننا ما زلنا في التجربة العربية نكتفي بعملية إلكترونية النص الورقي، من دون استثمار نتائج هذه العملية، والاستفادة منها في أفق تطوير ثقافة القراءة، ولعل الأمر بات يحتاج إلى مؤسسات ذات رؤية جديدة، ليست لها علاقة بالمؤسسات التقليدية، من أجل الوعي بثقافة التكنولوجيا ودورها في الأدب والكتابة والمعرفة.
أما الشق الثاني من علاقة الأدب بالوسائط التكنولوجية، والمتمثل في ما يصطلح عليه بالنص الرقمي، الذي يأتي مُفارقا للإلكتروني، من حيث كونه لا يتحقق إلا باستعمال لغة البرمجة المعلوماتية التي أصبحت لغة جوهرية في بناء النص، إلى جانب مكونات الملتيميديا، مع الحضور الأساسي والوظيفي لمُكون الرابط باعتباره تقنية أساسية تدفع بالنص/الكتابة نحو التحقق الرقمي، الذي يربط بين معلومتين، وينتج عن هذا الارتباط المعنى، كما يحدد ذلك الناقد الترابطي فنيفار بوش، ويجعل القارئ ينتقل من موقع التلقي، إلى موقع التأليف والكتابة، عبر تفعيل الرابط تبعا لاختياراته ورغباته ومزاجه وثقافته، فإن التجربة العربية ما تزال تخطو ببطء في هذا المجال، وإن كانت البداية مُشجعة مع ظهور نصوص رقمية، وإن كانت قليلة جدا، فإنها سمحت للتجربة العربية بالانخراط في ثقافة هذا الأدب، وتجريب التعبير من خلاله، مثلما وجدنا مع تجربة الكاتب الأردني محمد سناجلة، والكاتب المغربي محمد اشويكة، والشاعر العراقي مشتاق عباس معن، وهي تجربة رقمية أدبية ساهمت في إنتاج حالة ثقافية عربية، تهتم بثقافة الأدب الرقمي، تجلت في مجموعة من المحاولات لفهم هذا الأدب، ثم تطورت إلى وضعيات تنظيرية له، عبر ظهور كتب نقدية ذات بعد علمي مثلما وجدنا مع كتابات كل من سعيد يقطين، وفاطمة البريكي، ومحمد أسليم وغيرهم.
غير أن تراجعا ملحوظا لحق بتجربة إنتاج النص الرقمي، إذ لم نعد نلتقي بنصوص جديدة، تُطور المحاولات الأولى، وتُدعم تجربة الأدب الرقمي في التجربة العربية. وهنا نطرح سؤالا عن سبب هذا التراجع، وهل له علاقة بتأخر نضج الشروط المُلائمة لهذا التجلي الأدبي.
غير أن متغيرا جديدا ظهر في مستوى الوعي بالثقافة الرقمية، عبر انخراط بعض الجامعات العربية في الموضوع، من خلال دخول الأدب الرقمي في الدرس الأكاديمي، واهتمام البحث العلمي بأسئلة الأدب الرقمي في الأبحاث والأطاريح.
إن انتقال الاهتمام بهذا الأدب من المشهد الثقافي إلى المشهد العلمي عبر الجامعة والبحث العلمي، له دلالات عديدة، من أهمها أولا الوعي بضرورة تحصين علاقة الأدب بالوسائط التكنولوجية عبر العلم ومنهجية البحث العلمي، ولعل ذلك من شأنه أن يُحقق لهذه المعرفة الأدبية تمثلا موضوعيا ومنهجيا، من أجل حُسن الاستعمال، كما حدث مع أدب الطفل، والأدب النسائي، ومختلف القضايا المعرفية والفكرية التي يُشكل ظهورها لُبسا في الفهم والتعامل، والتي يُساهم الدرس الجامعي في الاقتراب منها من خلال التحديد المفهومي، والبعد الفلسفي، وتحليل الخطاب، ثم ثانيا تكوين جيل من الباحثين في موضوع ينتمي إلى زمنهم وحياتهم وممارستهم اليومية، وذلك في سبيل تمكينهم من السلوك الإنتاجي والوظيفي للثقافة التكنولوجية.
يطرح هذا الرهان الجديد تحديا كبيرا أمام التعليم الجامعي، وما قبل الجامعي من أجل ضمان تكوين تقني – علمي بالموضوع، وقبل ذلك تكوين فلسفي ومعرفي بثقافة التكنولوجيا وعلاقتها بالأدب والكتابة.
إن الانخراط الوظيفي في الزمن التكنولوجي عربيا، يمر عبر التعليم، والبحث العلمي، والتفكير الفلسفي، ويهيئ المناخ السياسي والاجتماعي الذي يسمح بتكوين الفرد المُؤهل لثقافة الاختيار والتدبير والتصرف بمسؤولية في الزمن التكنولوجي.

روائية وناقدة مغربية

زهور كرام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية