بين النقد والنقض

حجم الخط
3

ظاهرة ما يسمى التحاسد بين الأدباء والكتّاب أو عداوة الصنف لم تكن حكرا على ثقافتنا العربية، رغم أن هناك حالات أفرط فيها البعض في النيل من زملائهم، كما في النقائض، أو بما واجه الشاعر أبو تمام من نقد يصل حدّ النقض لمحاولاته في التجديد، حين اتهم بالغموض وبقول ما لا يفهم، واستقصاء هذه الظاهرة في التراث يتطلب حيزا آخر لكثرة الأمثلة وتكرارها، لهذا نتوقف عند أمثلة معاصرة، منها رأي طه حسين بروايات وقصص البير كامو، فقد قال في لقاء متلفز أجرته الإعلامية ليلى رستم بمشاركة عدد من أشهر الأدباء في ذلك الوقت منهم، عبد الرحمن بدوي ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، إن قصص كامو تعبر عن إفلاس فكري وفني، وإنه لم يفهم ما قرأه منها باستثناء رواية «الغريب». وكان طه حسين نفسه هدفا لنقد راديكالي من هذا الطراز لعباس العقاد، لأنه قال في الحوار ذاته إنه لم يفهم عبقريات العقاد خصوصا «عبقرية عمر».
وتكرر الموقف على نحو أشد راديكالية بين العقاد وسلامة موسى، فقد أطلق العقاد على سلامة وصفا نعفّ عن ذكره، أما سلامة فقد قال إن العقاد يحسبه الشعراء على النقاد والعلماء، ويحسبه العلماء على الشعراء، رغم أن العقاد أصدر عشرة دواوين. وأذكر أن الشاعر العراقي كاظم جواد كتب مقالة عن عبد الوهاب البياتي في مجلة «الآداب» انتهى منها إلى الحكم على البياتي بأنه لولا الواوات اللعينة لما كتب شعرا، وكان يقصد تكرار حرف الواو في قصائد البياتي المنظومة على البحر الكامل. وكتبت نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» عن محمد الماغوط بأن ما يكتبه ليس شعرا، لكن جبرا إبراهيم جبرا الذي كان قد اتخذ موقفا راديكاليا من الشاعرين الجواهري ونزار قباني، وكانت مقالاته عنهما بمثابة اعتذار، رغم أن البياتي ظل متمسكا بموقفه عن جبرا، وهو اعتباره ناقدا ومترجما فقط، وليس شاعرا على الإطلاق، ولكي لا توحي هذه الأمثلة بأن العرب وحدهم من مارسوا مثل هذا الإعدام الرمزي، لا بد أن نتذكر ما كتبه تولستوي عن شكسبير، فرغم الإجماع في مختلف الثقافات حول أهمية شكسبير كان تولستوي راديكاليا حتى النقض، وأنكر على شكسبير ما كتب عنه وما ناله من مكانة في تاريخ الأدب. وهذا ما تكرر في أمريكا اللاتينية حين اجتذبت الانظار إلى ما أطلق عليه النقاد الرواية السحرية، فقد أنكر كل من بورخيس وأستورياس قيمة ماركيز، وكان رأي أستورياس أنه عديم الموهبة، وليس روائيا جديرا بالقراءة، وهذا ما كتبه جان بول سارتر عن خصمه الأيديولوجي فرانسوا مورياك، فقد كتب عنه مقالة انتهت إلى عبارة شديدة التوتر واقرب إلى النقض من النقد، هي أن مورياك ليس مبدعا، لكن في المقابل هناك كتّاب أنصفوا زملاءهم أحياء وموتى، واعترفوا لهم بالفضل ومنهم، أهرنبورغ صاحب رواية «ذوبان الجليد» الذي قال عن همنغواي أنه المبدع الأعظم في عصره، وإنه كان يقرأه كما لو أنه يتعاطى علاجا شافيا ضد الكآبة والاغتراب، وحين توفي ابنه قال أهرنبورغ إن آخر ما قرأه هو رواية و»داعا للسلاح» لهمنغواي في ليلة شديدة البرودة وكان يتدفأ به وهو يقاوم قشعريرة الروح.
وما كتبه هنري ميلر عن رامبو في كتابه «زمن القتلة» بلغ حدّ الافراط في العشق والتماهي، قال مثلا إنه لو قرأ رامبو في صباه لما كتب حرفا واحدا، وأضاف أنه كان مستعدا لأن تقطع إحدى يديه من الكتف مقابل أن يكون صاحب فصل في «الجحيم» لرامبو، وتكرر ما يشبه هذا الثناء في مراسلات ميلر ولورنس داريل.
وحن نحلل هذه الظاهرة ذات الوجهين قد نتوصل إلى استقراء سيكولوجي للمبدعين عندما يكتبون عن بعضهم، لأن منهم من تضخمت لديه الذات حتى تسرطنت وأصبح بالفعل نرسيس الذي افتتن بصورته على سطح الماء، وحين حاول الإمساك بها غرق، بعكس مبدعين آخرين لم يكن الآخر بالنسبة إليهم جحيما أو خصما بالضرورة، فاحتضنوا الأقل شأنا ورعوه كما فعل إزرا باوند، الذي قال عنه همنغواي بأن من احتضنهم باضوا كالأفاعي في جيوب معطفه.
وهناك مثال ذو دلالة تتجاوز ذلك كله، هو ما كتبه ماثيسين الماركسي عن أليوت الكاثوليكي، وهو بعكس ما كتبه سارتر عن مورياك، يقول ماثيسين رغم اختلافي الفكري مع شاعر يعلن بأنه ملكي في السياسة وكاثوليكي في الدين وكلاسيكي في الأدب، إلا إنه من أهم الشعراء عبر العصور، وبذلك عبّر ماثيسين عن مناقبية تصل حد الفروسية، ولم يجد في الكتابة عن خصم أيديولوجي فرصة للثأر أو العقاب النقدي وقد تكون الجوائز، خصوصا نوبل وما يقاربها، أحد الأسباب التي ضاعفت من التحاسد بين الأدباء، كما حدث ليوسف إدريس عندما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل، وما رواه الناقد جابر عصفور مؤخرا حول تلك الواقعة يؤكد صحتها، فقد شعر إدريس بأن الجائزة من استحقاقه وقد سلبت منه لأسباب سياسية، أو أي أسباب أخرى.
المبدعون ليسوا حلاقين أو خياطين أو نجارين يتنافسون على الزبائن وحين ينالون من بعضهم لأسباب لا صلة لها بالثقافة فذلك أمر آخر يحتاج إلى محلل نفسي وليس إلى ناقد.

كاتب أردني

بين النقد والنقض

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mohamed Obey; Tunisisa:

    الأستاذ المفكّر و الأديب خيري منصور أعتبره مبدعا متفرّدا في عوالم الكتابة. ما ورد في نصّه هذا هو موضوع يكتسي أهمّية قصوى لأنّه يسلّط الضّوء على النّواقص الّتي يتّسم بها بعض المبدعين ذائعي الصّيت في مجال الإبداع الأدبيّ. على كلّ أعتبر هده النّواقص (الحسد و الغيرة) دليلا على أنّ النّضج الفكري و المعرفيّ يضلّ منقوصا لدى هاته الفئة من النّاس_ الشّيء يعني أنّ الرّفعة الأخلاقيّة ليست بالضّرورة من مكوّنات الشّخصيّة المبدعة…بالمناسبة أعتبر الكاتب خيري منصور من المبدعين المقنعين. أنتظر نصوصه بفارغ الصّبر.

  2. يقول جبار ياسين . فرنسا:

    المعاضضة بين الأدباء العرب حالة قديمة ، قبل جرير والفرزدق . مازالت الى اليوم تتطور بطرق ” حداثية ” اتاحها الفاكس والأنترنيت والمقاهي . يبدو لي ان الظاهرة تكاد تكون نادرة في الغرب وما وراء المحيط . وهي ان وجدت اتخذت شكل سجالات في كتب ، كل يشرح وجهة نظره بأحالات أدبية وفلسفية الخ . في عالمنا العربي المشرقي هي ” منازلات كبرى ” او معارك جهادية فيها شيء من ام المعارك تتطاير فيها الكؤوس وتطيح الفناجين وتلغي الآخر تماما رامية سهام حقد دفين منذ عهد قابيل .صراعات عشائر ، الثأر فيها قيمة عليا كالغزو والكرم الأبطحي .لم يلغ سارتر صديقه القديم كامو في نقده اللاذع له واتهامه بالبرجزة . كامو المتواضع يوم زيارة سفير السويد له ليعلمه بفوزه بنوبل وبحضور الصحفيين والراديو الفرنسي صرح ان اندريه مالرو يستحق الجائزة اكثر منه . في احتفالية عالمية حول الفيلسوف ادغار موران نهض عالم الأجتماع المهم الن تورين ليقول له امام الملأ: انت الأفضل في جيلنا كله ونغبطك على هذه السيرة النادرة لفيلسوف .اكتشفت بعد سنوات الخصومة الشخصية بين الشاعر الن جوفروا وبرنار نويل رغم اني كنت التقي الأثنين وأسأل عن اخبار الآخر عند الآخر وكان الجواب يأتي في غاية الصداقة . بينما يحدث ، وانا البعيد نسبيا عن الأجواء الأدبية العربية ، ان اسأل صديقا عن أحوال صديق آخر فما اسمع الا شتائما وانتحالات وسرقات أدبية ، كل ما يثير الغثيان .البياتي كان فولكلورا امام الجيل اللاحق من الأدباء ، على الأقل نميمته كانت مضحكة . قبل سنين اهدى شاعر عراقي ديوانه الصغير الى مظفر النواب . في الديوان الثاني كان التصدير كالتالي: لا الى مظفر النواب ؟؟؟؟ في ليال كاريبية سألت جابرييل ماركيز عن رأيه في فارغاس ليوسا . قال لي انه من اهم كتاب العالم اليوم . بعدها بعام حصل ليوسا على نوبله التي انتظرها لسنوات طويلة . في مكسيكو سألت السؤال نفسه لليوسا مقلوبا . قال ان ماركيز اهم كاتب على الأطلاق ومائة عام من العزلة جوهرة . الخصومة بين الأثنين معروفة منذ السبعينات حينما ضرب ليوسا ماركيز لكمة ادمته . لكن ليوسا كان قد كتب كتابا عن ماركير عنوانه ” قاتل الأله ” لم يتخلى عنه بعد تلك الحادثة وظل يمدح صديقه الكاتب العظيم .في محيطنا ، من مصر الى الشام والعراق يتصرف كتابنا تصرف النباتات الوحشية . نبات يغطي نبات ، بحثا عن نور الشمس . العليق من ينتصر؟

  3. يقول S.S.Abdullah:

    بين النقد والنقض، عنوان جميل وذكي، يوضح على أرض الواقع مفهوم الثنائيات في الفكر الفلسفي، ولكنّي أختلف مع كل ما ورد تحت العنوان، لأنني أظن بعد عام 1945 في أجواء العولمة وبعد عام 1991 ظهور أدواتها التقنية، التي أدخلت الآلة كأداة تواصل واتصال بين الـ أنا والـ آخر فظهر معنى جديد للتدوين، أثبتت من خلاله أنّ الإنسان ليس آلة أو حيوان، أنا لاحظت هناك فرق جوهري بين الفكر وبين اللغة كمنطلق في التقييم، في الأول (الفكر) يكون أساسه ثقافة الـ أنا التي لا تعترف بوجود ثقافة سوى ثقافة الـ أنا، بينما في الثاني (اللغة) يكون أساسه ثقافة الـ نحن للأسرة الإنسانية التي تشمل ثقافة الـ أنا (الرجل) وثقافة الـ آخر (المرأة)، نحن كعرب ومسلمين تغلب علينا الثقافة الأوربية لدولة الحداثة (النظام الربوي والتأمين لرفع المسؤولية عن الموظف)، والتي أوصلتنا ثقافة الـ أنا أولا ومن بعدي الطوفان إلى الحرب العالمية الأولى والثانية والتي لتجاوز إشكالياتها ولإنعاش الاقتصاد ظهرت العولمة من أمريكا عام 1945، والتي عملت على إظهار كل مساوئ مفاهيم دولة الحداثة (بشقيها الرأسمالي والشيوعي)، فأفلست الطرفين عام 1987 وتدخل غرينسبان في إيجاد حل لهما، من خلال مفهوم السندات السيادية على أسس سوق الأسهم التقليدية، أمريكا كان هناك من يدعم عملتها الورقية (البترودولار)، بينما الاتحاد السوفيتي لم يكن هناك أي منتج اقتصادي يدعم عملتها الورقية (الروبل) والتي أدت إلى انهيار ممثل النظام الشيوعي عام 1991، ولمنع انهيار الاقتصاد، اضطرت أمريكا للمرة الثانية الكشف عن أسرارها في موضوع الشابكة/الإنترنت، البنك الدولي خسر المليارات التي كان قد أقرضها للاتحاد السوفييتي قبل انهياره، ففرض بعد ذلك مفهوم الشفافية (المصداقية المهنية) واللامركزية (الحكومة الإليكترونية) والحاضنة للوصول إلى الحوكمة الرشيدة، كي يستطيع معرفة ملامح أي دولة هل هي متجهة نحو أن تكون دولة فاشلة فتنهار، قبل غيره، فيستطيع إنقاذ ما يمكنه إنقاذه من الديون التي أقرضها لهذه الدولة أو تلك، ولكن في عام 2008 إنهار حتى النظام الربوي والتأمين عليه، بسبب الفساد الذي نخر كل نظام الأمم المتحدة، والتي جعلت منتظر الزيدي يقوم بتدوين لغة الحذاء على ممثلي الموظف الفاسد في النظام، وفي بث حي مباشر أمام أحدث أدوات العولمة وأدواتها التقنية، لذلك نحن في حاجة إلى نظام جديد بدل نظام اقتصاد الفرد (أنا)

إشترك في قائمتنا البريدية