أبصرت تجارب الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية مآلات مختلفة، لا تتطابق بالتأكيد مع النماذج التي تُدرَسُ في الجامعات، والمتعلقة بجنوب أوروبا أو بأمريكا اللاتينية أو شرق أوروبا أواخر القرن الماضي. وفيما أخفقت تجارب عربية وتحولت إلى صراع أهلي، وارتدَت الأنظمة في بعضها إلى دول قمعية أسوأ من التي كانت سائدة، استطاعت التجارب الأوروبية، عموما، أن تبني لنفسها مسارات، ضمنت الوصول إلى الخواتم المأمولة.
ولو انطلقنا من المقارنة بين التجربتين المصرية والإسبانية لألفينا أن المؤسسة العسكرية، حاولت إحباط المسار الديمقراطي هنا وهناك، من خلال حركة 3 يوليو 2013 في مصر، والمحاولة التي قام بها ضباط إسبان في 23 فبراير 1981، إذ حاصروا «الكورتيس» (البرلمان) لدى تنصيب الحكومة الجديدة. غير أن الملك الشاب خوان كارلوس عرف كيف يمتص المحاولة ويُنهيها بلباقة. هكذا شكّل وجود سلطة شرعية تتسامى فوق الجميع، في إطار ملكية دستورية منذ رحيل الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، ضمانة لمنع انزلاق الثورة إلى فوضى أو حكم عسكري، بل إن الانتصار على الإنقلابيين عبد الطريق لأول انتخابات حرة بعد بضعة أشهر، فاز بها الحزب الاشتراكي العمالي بزعامة فيليبي غونزاليس.
وعرفت البرتغال بعد سنة واحدة من نجاح «ثورة القرنفل» عام 1975، محاولة المؤسسة العسكرية احتواء الثورة ودفنها، فكان ردُ رئيس الجمهورية ماريو سواريش أن عزل رئيس الحكومة غونزالفس وطرد اليساريين الضالعين في المحاولة الانقلابية من «مجلس قيادة الثورة». أما في التجربة الانتقالية اليونانية، فلم يكن للجيش (الذي حكم البلد بين 1967 و1974) دورٌ يُذكر نظرا للوزن الكبير للكنيسة الارثوذكسية، إذ ليس هناك فصل بينها وبين الدولة، بل على العكس كانت العلاقة منظمة ومقننة، اعتمادا على الفصل الثالث من الدستور الذي يحدد نوع العلاقة بين الطرفين. من هنا يمكن القول إن غالبية التجارب في جنوب أوروبا وصلت إلى مرساة الاستقرار، وتكريس التداول السلمي بعد مخاضات عسيرة، ودموية أحيانا، لكنها توصلت إلى تثبيت قطار الديمقراطية على السكة في نهاية المطاف، فغدا طريقا لا رجعة عنها. قد يستغرق هذا المخاض ست سنوات كما في اسبانيا، أو سنتين كما في اليونان، أو عشر سنوات كما في البرتغال، لكنه يصُبُ في الأخير في خانة البناء الديمقراطي.
إرث مبارك وتراث فرانكو
هناك خطوط تقاطع بين التجارب العربية والأوروبية في الانتقال الديمقراطي، في أربعة مستويات، أولها الصراع بين القديم والجديد، مثلما تجسد في الخلاف المحتدم على إرث نظام مبارك في مصر، وموروث فرانكو في إسبانيا ودولة بن علي في تونس ومنظومة القذافي في ليبيا. ثانيا اضطُرت الثورات إلى القبول بتنازلات ومُقايضات مع قوى الماضي، أسوة بـ»سياسة التوافق» في تونس، والتعايش مع الشخصيات التي اشتغلت مع فرانكو في اسبانيا، إذ حاولت القوى التي قاومت الفرانكوية أن تصوغ مشروع قطيعة مع الماضي، يجمع الأحزاب والقوى الجمهورية، ومنها الحزب الاشتراكي العمالي والحزب الشيوعي بزعامة سانتياغو كاريللو، التي شكلت معا «التنسيقية الديمقراطية» في 26 مارس 1976. لكن الملك فرض على تلك الأحزاب أن تعترف رسميا بالملكية وبراية إسبانيا الحمراء والذهبية، كشرط للمشاركة في الانتخابات. ثالثا تكررت العناية بالمسألة الدستورية في جميع التجارب العربية والأوروبية، حتى تلك التي حافظ النظام فيها على استقراره، مثل المغرب والأردن والبحرين، لكن كل بلد تعاطى معها بطريقة مختلفة، فهناك من سن دستورا بشكل مُواز للانتخابات الرئاسية والتشريعية (اسبانيا 1974 ومصر 2012)، وهناك من انتخب مجلسا تأسيسيا لصياغة دستور جديد (البرتغال 1974 وتونس 2014). أما خط التقاطع الرابع فهو تردي الأوضاع الاقتصادية، وتأجُج الاحتجاجات الاجتماعية في مرحلة المد الثوري، على نحو زاد من تعقيد المسار السياسي وتعثُره.
وبينما استقرت السفينة في البلدان الأوروبية الثلاثة بعد انتعاش الاقتصاد، وبداية حل المعضلات الاجتماعية بشقيها، الموروث من النظام السابق، والمتولد من الثورة، تعطلت التجارب العربية بما فيها تونس، بسبب وطأة الأزمة الاقتصادية. واللافت هنا أن الانتخابات تتم في البلدان التي أبصرت انتفاضات شعبية، في مناخ ثوري غالبا، بيد أن الأحزاب التي تفوز فيها بالأغلبية هي أحزاب الوسط أو يمين الوسط، مثلما حدث في انتخابات تونس الرئاسية والبرلمانية في 2014.
في هذه المناخات الرمادية وجدت النزعات المناطقية والعرقية قنوات جديدة للتنفيس عن المكبوت في ظل الثورات، فبعدما ترسخت التجربة الديمقراطية في إسبانيا على مدى نحو عشر سنوات (1975-1985) أطلت النزعات الانفصالية والقوى الاجتماعية الراديكالية برأسها، على نحو جعل المسار لا يتخذ خطا مستقيما، وهو ما ظهر مثلا في ليبيا، وبدرجة أقل في تونس، من خلال بروز بعض الدعوات والنعرات المناطقية بُعيد الثورة، غير أن تلك الدعوات اضمحلت سريعا في تونس، لأنها لا تستند إلى مقومات حقيقية، فيما ظل مشكل علاقة المركز بإقليم الباسك قائما في إسبانيا إلى اليوم، وكذلك الاحتكاكات المستمرة بين قبائل إقليم فزان (جنوب) في ليبيا، فضلا عن الحرب العرقية في اليمن.
بين مسارين
ويمكن القول إن تجربة الانتقال التونسية ابتعدت عن مسار التحول في اسبانيا واقتربت أكثر من المسار البرتغالي، الذي اتسم منذ البدايات بفورة ثورية، لعبت فيها الأحزاب اليسارية الراديكالية دورا محوريا. ويُعزى هذا إلى أن الثورة الديمقراطية في البرتغال انطلقت من شبه انقلاب نفذه صغار الضباط في أبريل 1974، عندما اقتحمت قوات خاصة مقر فرع وكالة المخابرات الأمريكية، وكشفت عن وجود جيش سري، استعدادا لاغتيال المعارضين وزعماء حركات التحرير في إفريقيا، فاندلعت ثورة القرنفل السلمية بعد أربع سنوات من وفاة الطاغية سالازار. وفي هذا السياق أطلقت الحريات وأخلي سبيل السجناء السياسيين وألغيت الرقابة، وعاد زعيم الحزب الاشتراكي ماريو سواريش من المنفى. ومن أوجه التشابه بين تونس والبرتغال كثرة الحكومات التي تشكلت بعد الثورة، ففي عامين فقط تألفت في البرتغال ست حكومات، وضمت السادسة أبرز الأطياف السياسية، واستمرت إلى يوليو 1976. أما تونس فعرفت سبع حكومات بين 2011 و2017.
بعد انتخابات المجلس التأسيسي في البرتغال تم اعتماد دستور جديد في أبريل 1976، أعقبته انتخابات عامة في 25 من الشهر نفسه وتكوين أول حكومة دستورية. ويمكن أن نرصد هنا ديناميتين برتغاليتين شبيهتين بالديناميات التونسية على النحو التالي:
* اضطُرت الحكومة الانتقالية لاتخاذ إجراءات تقشفية بعد سنوات الفوضى، ما قلل من شعبية الاشتراكي ماريو سواريش رئيس الحكومة الانتقالية الأولى (1976-1978) وحملته على الاستقالة بعد عامين من التكليف. وما لبث الاشتراكيون أن فشلوا في انتخابات 1979 و1980. وفي تونس توالت الحكومات ولم تُوفق أي منها في لجم التدهور الاقتصادي والاجتماعي.
* كثرت المظاهرات والاحتجاجات في البرتغال، إذ استمر توقف الناس عن العمل وسيطرت الفوضى على مدى 18 شهرا، وعلى سبيل المثال اجتاح الفلاحون الذين لا يملكون أراضي زراعية في جنوب البلد، المزارع وحولوها إلى تعاونيات. أما الفلاحون الذين يملكون قطعا صغيرة في الشمال فردوا بعنف على محاولات الشيوعيين تحويل حقولهم إلى تعاونيات. وفي تونس أيضا عطلت الاعتصامات والاحتجاجات الفوضوية محركا أساسيا من محركات الاقتصاد وهو إنتاج الفوسفات والأسمدة الكيميائية المشتقة منه.
أما المسار اليوناني فأخذ من التجربتين الإسبانية والبرتغالية معا، ففي أعقاب ديكتاتورية العُقداء التي استمرت من 1967 إلى 1974 تفككت الطغمة العسكرية وانهارت، على إثر فشل اجتياحها لقبرص، فأجريت انتخابات عامة في نوفمبر 1974، تولى بعدها كونستونتان كارامنليس رئاسة الوزراء من 1974 إلى 1980 ثم صار رئيسا للدولة على مدى ولايتين (1980- 1985 ثم 1990- 1995). ويمكن القول إن ميزة الانتقال في اليونان تمثلت في العودة أولا إلى مؤسسات ما قبل الانقلاب (عهد التعددية) ثم تكريس القطيعة مع عهد الاستبداد، بسن دستور في يونيو 1975 ضمن كل الحريات المدنية وأرسى نظاما سياسيا يقوم على جمهورية برلمانية، ما قاد إلى إلغاء الملكية. إلى تلك الخصيصة الأولى، تفرد المسار اليوناني بتكريسه نظام الحزبين، وهما الديمقراطية الجديدة (محافظ) والاشتراكي (يساري) وإن تغيرت الخريطة اليوم، إذ صار سيريزا هو حزب اليسار الأول. في المُحصِلة اتبعت البلدان الأوروبية الثلاثة أنموذجا متقاربا: حكومات مؤقتة، إعادة إقرار الحريات، الترخيص للأحزاب بالعمل القانوني بما فيها الشيوعية، إطلاق حرية الصحافة، إجراء انتخابات عامة، سن دستور… وفي هذا الإطار تكرس توافق عام حول اعتماد أنموذج برلماني ليبرالي في إطار نظام جمهوري في كل من البرتغال واليونان، وملكي في اسبانيا، ما أدى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلدان الثلاثة. كما اعتُمدت أيضا إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبيرة بمساعدة الاتحاد الأوروبي، الذي انتشل تلك البلدان من الأزمات، وضخ لها أموالا طائلة، وهو ما لم يفعله مع أي بلد من الضفة الجنوبية للمتوسط، ولن يفعل. ومثلما كان يتعين على البلدان الثلاثة في كل مرة إعادة اكتشاف وتعريف الديمقراطية بأبعاد ومضامين جديدة، على العرب ألا يظلوا سجناء مفاهيم أيديولوجية يسعون لفرضها على المسار الانتقالي، بدل التقاط نقاط القوة في التجارب المماثلة ليستثمروها، واستجلاء معوقاتها لكي يتفادوها.
كاتب تونسي
رشيد خشانة