منذ أمد لم نطلع على تجربة متكاملة، جامعة وشاملة، تشمل جيلاً بكل ما يمتلكه من جماليات ومؤثرات وتجارب وصفات فنية وإبداعية، حول حقل شعري يختص بجيل، فنحن بأمَسّ الحاجة والفضول والشغف والتوق للتطلع إلى تجارب شعرية معاصرة وحديثة، لبلاد جميلة وكبيرة مثل هنغاريا، لها ولع فني معروف بالفنون عامة، سينما ومسرح وفن تشكيلي وموسيقى، وكذلك على الصعيد الأدبي كالنقد والرواية والأبحاث الفكرية والفلسفية والشعرية الكثيرة والمتعددة، ولها أيضاً ولعها الفني والثقافي والجمالي المعهود بالشعر. فنحن نعرف بعض الشعراء، مثل يوجيف أتيلا الذي ترجم كثيراً إلى العربية، ربما يعود ذلك إلى تراجيديا حياة أتيلا التي شابها التمزّق والتوحد والعزلة، مما دفع به إلى إنهاء حياته الدراماتيكية برمي نفسه تحت عجلات قطار، وهو في أوج تألقه ونشاطه الشعري. وثمة ساندور بتوفي ويانوش آراني وآندريه آدي، وهم شعراء قرأناهم مجموعين في سلسلة «بنغوين» الشعرية الشهيرة، ولكنهم لم يترجموا إلى العربية على حد علمي واطلاعي .
الجديد في هذه المختارات التي ترجمها إلى العربية الدكتور علاء عبد الهادي، هو نقلها مباشرة عن الهنغارية، بطريقة شفافة، ورشيقة رافقتها السلاسة اللغوية والتعبيرية والبنيوية، أعني بنية وتشكيل الجملة اللفظية ومعمار القصيدة وهيكلتها عربياً، مما قرَّبت كثيراً تلك التقنيات الترجمية، من جماليات النص الشعري الهنغاري، ووصوله إلى القارئ العربي من دون عوائق فنية .
السمة الجديدة الثانية التي قدمها المترجم عبد الهادي، هي انتخابه لشعراء ظهروا في حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وهو بذلك يتخطى المتعارف عليه من تقديم شعراء ينتمون لحقب بعيدة تاريخياً كأتيلا وبتوفي وساندور وغيرهم من عمالقة الشعر الهنغاري، الذين أصبحوا في عداد المؤسسين والرواد لتاريخ الشعر المجري، ولذا وجدنا هؤلاء الشعراء المنتخبين بعناية ودقة شعريتين وفنيتين، هم الأقرب إلينا جمالياً وتكنيكياً، من ناحية زوايا التناول للموضوع الشعري الحديث، ومن نواحي التصوير في التقاط الصورة البارعة في تأكيد اللحظة المعاصرة واليومية لعالمنا الحديث، وأخرى في طرح التكاوين الشعرية والمبتكرات والاكتشافات والمهارات التي تختص بالحرفنة الجمالية، وذلك عبر الأساليب الجديدة للحداثة، والسبل التي انفتح عليها الشعر الأوروبي كالشعر المجاور لهنغاريا، وأقربه إليه هو الشعر التشيكي والسلافي كالشعراء الصرب وشعراء البوسنة والهرسك، وكذلك انفتاحه على الشعر الألماني والبولندي المتميز بنماذجه الشعرية المتقدمة والجديرة بالانتباه .
ومثل أي فن عام، تعرض الشعر في العهود الستالينية التي تحكمت بمفاصل البلد إلى الاضطهاد والمطاردة والاعتقال، وحتى النفي والنبذ في وسائل الإعلام الموالية للسلطات حينذاك، فحورب الشعراء بضراوة وعنف وقسوة، نتيجة آرائهم ونتيجة طروحات معاني قصائدهم التي اتسمت بنزعة التحريض والاحتجاج والرفض لكل تابو يعوق المسيرة الفنية والجمالية التي انتهجتها الدعاية الثقافية لسلطات ما كانت تسمى حينذاك بالبلدان الاشتراكية .
من هنا ظهور نزعة التجريب والتطوير والتأثر بالشعر الأوروبي وخاصة الفرنسي والإنكليزي، ومن ثم الأمريكي، إذ تساوق معه وتزامن مع هذا التحول الجديد في المفاهيم الشعرية، ظهور الحركات النقدية النظرية، تلك التي ساندت ودعمت هذا التجريب الشعري، بكل ما تملكه من أدوات واتجاهات وأنواع نظرية دعمت وساندت كل جديد شعري، يبشر بطرائق حداثوية، نابعة من قدرتها على التخطي والتجاوز، وتقديم نصوص نوعية تتزاوج فيها الأنواع وتتناغم بطريقة حرة، غير مقيدة أو خاضعة لقانون ما، أو نظرية تحد من قيمتها التعبيرية الجديدة والمعاصرة.
تبدأ المختارات بشاعر ينتمي إلى جيل الستينيات، ولكن حضوره الكبير تأكد في السبعينيات، وهو من الشعراء المهاجرين والمنفيين، عاش في إيطاليا ومن ثم هجرها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إنه الشاعر إلمر هورفات، نال جوائز شعرية عديدة، من أبرزها جائزة روبرت غرافت وجائزة يوجيف أتيلا وأندريه آدي، أصدر عدة دواوين شعرية، من أهمها «وجه لأيام الاسبوع» و «مفكرة زنجي أبيض» و«مرآة الوهم « ومن أجواء شعره المتميز بالصبغة الميثولوجية نختار مقطعاً من قصيدة «أوروفيوس يبعث من جديد»، وهو هنا يتناول الأسطورة الإغريقية على طريقته الشعرية:
« شيءٌ ما موعود يحترق،
كذا مأوى الأموات،
ذاك الذي في النار احترق
أجنحة العنقاء كذلك».
في المنافي البعيدة، يبدو أن الأساطير الخيالية والواقعية تظهر لتتجسَّد في قصائد ملآى بالحنين واستذكار المكان الأول، كما تبدى ذلك في قصيدة «شاعر مجري في أمريكا يفكر في وطنه» أو التعويض بالميثولوجيا ورموزها الإغريقية، عن البعد والنأي وحالات الاغتراب المصاحبة لهما، إنها اسطورة تستدعى لتعالج زمناً ما، ووضعاً معيناً، وموقفاً إنسانياً، وهي أسطورة استعملها ومال إليها الكثير من الشعراء العرب لتجسيدها في قصائد وإشارات دلالية كالسياب وأدونيس والبياتي، على سبيل المثال لا الحصر، وفي محل آخر يلجأ الشاعر إلى ما يتركه المنفى من أثر على حياته الشخصية أو العامة. ففي قصيدة «موت في نيويورك»، وهي تذكر بقصيدة لوركا الشهيرة أو ديوانه «شاعر في نيويورك» تلك القصيدة التي يهجو فيها لوركا العالم الجديد والقاسي، هنا الشاعر هورفات يجسِّد مشهد امرأة شريدة وفقيرة في هذه القصيدة :
«عاشت في السنترال بارك
في قلب المدينة بالذات،
كانت كلُّ نفائسها
في حقيبة يد ….
وسادة الليل
وأعباء النهار،
هنا قتلها أربعة من السود المراهقين
من أجل متعهم .
الجميع قويٌّ وقاس هنا،
قد أكذب لو قلت
لا يوجد شيءٌ هنا،
سوى شرٍّ يستعرُ» .
هنا الشاعر بطبيعة الحال، يعكس معاناته ومعاناة الآخرين، في بلاد ناطحات السحاب التي يعيش بعض المهاجرين فيها، بحثاً عن الحرية! والقصيدة هي أيضاً عن امرأة مهاجرة مثله من المجر إلى أمريكا .
الشاعر الثاني المختار هو آلادور لوسلوفي، وهو إضافة إلى كونه شاعراً وحاصد جوائز عالمية، هو أيضاً روائي ومترجم وقصاص، وقد صدرت له كتب عديدة في هذه المجالات جميعها .
يقول في إحدى قصائده المعنونة بـ «تحيا الأكاديمية»:
«عذَّب أحدهم غاليلو،
يحلُمُ ….
هذا الحشد
آلاف الأقدام تدمدم،
التلاميذ يفيضونَ
متدافعين من طوابق الأكاديمية،
المكتبة غيمتْ بالغبار،
انهارت قنطرة المدخل؟ «
هنا الشاعر يتحدث عن غاليلو الذي عُذِّب، وعن المعرفة والطلاب وأمراء المعرفة، وعالم القصيدة يشي باللوعة الحاضرة بين الحشود والجمهرات.
بينما الشاعر الثالث الذي يرد في المختارات فهو جورج بتري، من مواليد 1943، كان قد درس الفلسفة، وعمل صحافياً ومُنع من النشر بسبب آرائه السياسية، ولكنه لم يغادر بلده، بل عاش فيها وحرر صحيفة معارضة للنظام التوتاليتاري، وحصد جوائز عديدة، وترجم أعمال موليير وبريشت إلى المجرية. هنا مقطع من قصيدة من الشعر اليومي والتفصيلي الذي ساد العالم في فترة السبعينيات. القصيدة اسمها «البصل يتحدث» وفيها يقول :
«جلد من خلال جلد فحسب،
حتى حين أُقطَّعُ
على نحو مستعرض،
أو أُفرمُ كالمكعبات،
أو يصنعون بي لحماً مفروماً،
يظل الوضعُ كما هو
اللا شيء».
هذه القصيدة تبدو تهكمية، وتعالج الزمن المعاصر بالرموز، والتفكه واللعب بالكلمات، ورمي الدلالات باتجاه السلطات، ومن ينوب عنها من جلادين وما شابه، كقوله في مقطع آخر من هذه القصيدة الطويلة، والمتخمة بالرموز الطعامية :
« كفى
الدهنُ في النار،
قم بواجبك
أيّها الجلاد
الرمز ديك روميّ» .
أما الشاعر الآخر المنتخب وهم ثمانية شعراء، ضمتهم هذه الأنطولوجيا، فلقد ارتأيت أن آخذ الأخير وهو الأصغر بينهم وولادته تشير إلى عام 1958، وهو أندروش باتوتس، شاعر ومحرر دورية أدبية تهتم بالتجريب الشعري، تتميز تجربته الشعرية، حسب رأي المترجم «بالثراء واللعب باللغة وتفجير الاحتمالات المختلفة، للمفردة الواحدة، للبحث عن شتى المعاني التي يتيحها تركيبها، وكانت له تجربة خاصة فيما يسمى القصيدة البصرية» .
ومن أجواء قصائد باتوتس نختار مقطعاً من قصيدة «أوروبا استعارياً» :
« تلف نفسها، تدور ملتفة،
ثم تلف نفسها من جديد،
متجملة، مبتسمة، ضاحكة» .
لعل هذه الترجمات المتسمة بالإشراق، والمصوغة بلغة شفافة، تكون قد قرَّبت الينا عوالم ومناخات واتجاهات وأساليب الشعر المجري الحديث .
شعراء السبعينيات « »
ترجمة: د.علاء عبد الهادي، مراجعة المستشرق المجري د. فودور شاندور
الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، القاهرة1916
190 صفحة.
سلاماً طيباً و تحايا طيبات ، والله لم تترك لنا هموم السياسة و يومياتها الطاغية في هذا المشرق الأدنى هماً شعرياً أبداً.