«عوضاً عن ذلك، فإن السيد السيسي طبل لعدة مشروعات عملاقة، كتوسيع قناة السويس، لنفخ الكرامة الوطنية- وذاته. ولكنها فعلت القليل لدفع الاقتصاد. من الناحية الفعلية تراجعت إيرادات القناة منذ انتهاء التوسيع في آب/أغسطس الماضي».
تلك ترجمتي المتواضعة لنبذة مقتطفة من مقال «دولة الإنكار» أحد المقالات التي نشرتها «الإيكونوميست» في عددها الذي صدرته بعنوانٍ ضخم هو «تخريب مصر» على خلفية صورة لا تحتمل التأويل: ضابطٌ يعتلي جملاً أمام أهرامات الجيزة الثلاثة، ماضياً في صحراء تغرب شمسها وخطٌ بياني يحاذي قمة كل هرم بالتتابع من الأكبر إلى الأصغر ثم يستمر في النزول.
معترفةً بأهمية مصر الاستراتيجية الفائقة التي لم تترك محيصاً عن التعامل مع «الجنرال» السيسي، تناولت المقالات مشاكل مزمنة تطحن مصر كالفساد المتفشي كالسرطان في الجهاز الإداري مبتلعاً مبالغ طائلة والرشى التي لا يمر شيءٌ دونها ومعدلات البطالة الخطيرة خاصةً في صفوف الشباب الذين يشكلون غالبية المجتمع وجهاز الدولة البيروقراطي الذي لا يوازي تضخمه سوى ترهله وفساده. «يحتاج المستثمر إلى تصاريح من ثمانٍ وسبعين هيئة رسمية لبدء مشروعٍ جديد، وفقاً للحكومة» كان من ضمن ما أورده المقال الذي ذكر أيضاً أن زهاء ثلثي الاقتصاد غير رسمي، لا يدخل في الإحصاء ولا تحصل منه ضرائب، لذا فليس من عجب أن تأتي المقارنة في صالح الخليج ودبي بالتحديد حين يتعلق الأمر بالاستثمار وسهولته والضمانات اللازمة له.
لم يفت كتاب العدد أن يؤكدوا أن القمع وانعدام الكفاءة يؤججان الانتفاضة المقبلة، كما ذكروا عسكرة الاقتصاد وذكرونا بالمؤتمر الاقتصادي الذي احتُفي به وطُبل وزمر له في وقتها (ذلك الذي نسيه الكل تقريباً الآن…).
الأهم من ذلك هو ملاحظة الكتاب لنفاد صبر المستثمرين الخليجيين الذين دعموا النظام وأغدقوا عليه الأرز (يذكرون الأرز نصاً).
كما هو متوقع، انبرت الحناجر والأقلام لرد «الطعنة» مفندةً شاجبةً، حتى أن وزارة الخارجية أصدرت بياناً على صفحتها باللغتين العربية والإنكليزية، وكما هو متوقع أيضاً فإن الأصوات العأقلة المدركة لعواقب الأمور كانت قلة، وإن لم يخلُ بعضها من نعيٍ على الكتاب شيئاً من «التحامل» والإفراط في التسييس…لكن حتى هذه غمرها ضجيج الاتهامات بالضلوع في «المؤامرة» تلك الكلمة الفضفاضة التي لم نفتأ نطلقها على كل هزائمنا ومحطات فشلنا، الذاتية بامتياز.
قد أختلف مع المجلة مبدئياً وأساسياً من حيث الانحياز الاجتماعي، إذ منطلقةً من سياستها المحافظة تدعو لحفنة من الإجراءات أراها كارثية من عينة إلغاء الدعم كليا والتخلص من العمالة الحكومية الضخمة والفائضة، وهي أمورٌ كفيلةٌ بأن تدفع بعشرات الملايين إلى إملاقٍ مؤكد، إلا أنني لا أستطيع أن أقلل من شأن أهميتها ووقع ما يُكتب على صفحاتها، وتحديداً على المستثمرين وصناع القرار، وهم الذين يلهث السيسي وراءهم. لقد مضى السهم، وردود «الكتاب الشرفاء الغيورين على وطنهم» بإشارةٍ من أجهزة الأمن (بما فيها رد الخارجية) التي لم ترق كثيراً عن كونها وصلات ردحٍ رغم ما افتُعل من التفيقه لجعلها تبدو موضوعية علمية، هذه لا قيمة لها، فلا أحد ممن تخاطبهم «الإيكونوميست» يقرأها أو يكترث لها، الأمر الذي يوضح أهمية الرأي والكتابة التي تصبح قوى ضغط فاعلة ومؤثرة، وليت نظاماً كالنظام الرسمي المصري الذي لا يؤمن تقريباً سوى بالعنف الغشوم والأساليب الأكثر فظاظةً يتعلم شيئاً من ذلك، خاصةً وأن ذبول دور مصر وتأثيرها أصبحا أمراً يتم نقاشه علناً على صفحات الجرائد وفي الدوريات الغربية أيضاً.
لكن تبقى المقالات مدهشةً في حقيقة الأمر، ففي إيجازها وضعت يدها على أغلب العلل وكوامن الضعف، على الفجوة الشاسعة بين الطموح والأحلام والوعود والواقع الرث الذي ينخره فسادٌ يسكن كل الحنايا ويمتص دماء هيكل الدولة والبيروقراطية التي تغرقه- ذلك الهيكل المنهار الذي يحاول الرئيس السيسي ترميمه بشتى الطرق والوسائل وبعثه من رقاده، وهي مشاكل نعرفها ونراها ونعايشها يومياً. كما لاحظوا بحنكة أن الهدف من هذه المشروعات العملاقة لم يكن اقتصادياً في الأساس وإنما تضخيم الذات الرئاسية العليا ورفع معنويات الشعب.
إن الكاتب الغربي ليست لديه العاطفة الوطنية و «الارتباط بتراب مصر، أم الدنيا» لكي تعشي بصره وتؤثر على تحليله، فعلى إدراكه، الموضوعي النفعي، لقيمة مصر الاستراتيجية نظراً لتربعها فوق أحد أهم الممرات المائية في العالم وكونها أكبر بلد عربي ذا الكثافة السكانية الأعلى وسوقاً كبيرة، إلا أنه يحلل ليرد على أسئلة تهمه في المقام الأول من عينة: هل هذا البلد مستقر وسيظل كذلك؟ هل هو صالح للاستثمار أم لا؟ هل سنحقق أرباحاً وتعود أموالنا أم أنها ستراق في رمال الصحراء كتوشكى وتفريعة قناة السويس الجديدة؟
الاستنتاج الذي يخرج به القارئ من المقالات هو أن الإجابة الأكيدة هي: لا…على كل الأسئلة، وإن أموراً كذات الرئيس المتضخمة والروح المعنوية التي تهدر عليها مليارات في مشروعات متعجلة دون جدوى اقتصادي لا تترك انطباعاً إيجابياً لديهم.
كعادتنا كلما ألمت بنا هزائم من صنع أيدينا أو ضبطنا متلبسين بارتكاب حماقة في نوبة محمومة من نوبات خيباتنا الثقيلة، جداً، فإننا نتهم الأطراف المسلطة للضوء بالتآمر والرغبة في التدخل في شأنٍ داخلي، والمزحة الأكبر هي التساؤل: هذه مجلة اسمها «الاقتصادي» فما شأنهم والسياسة؟!
ولأن الحماقة أعيت من يداويها، ولنا في النظام المصري وأبواقه أكبر سندٍ ودليل، فإننا ما زلنا نكرر سرديات المؤامرة نفسها زهاء خمسة عقود، لكن أحداً لا يجيب: علام يتآمر الغرب علينا وهو المستفيد الأول من نظام مبارك وعقبه؟ هل ما ذكرته المقالات غير حاصلٍ أو موجود؟ ألا نراه يومياً؟
إن الغرب والمصالح الاقتصادية الكبرى وجهات التمويل ليست هيئاتٍ خيرية، فما يهمها في الأساس هو الربح وتأمين مصالحها، وهي على ذلك شبه متجردة تماماً من أي اعتباراتٍ أخلاقية في الممارسة الفعلية (بغض النظر عما يقال) وهي إذ تشير إلى قمع نظام السيسي الذي تفوق على سلفه، فإن ما يعنيها في حقيقة الأمر هو المستقبل السياسي للبلد واستقراره الذي يضمن عوائد وأرباحاً على استثماراتهم، ويخشون أن يؤدي العنف والفشل الاقتصادي إلى موجة ثورية جديدة، و»اضطرابات» قد تهدد تلك المصالح، وليس سراً ولم يعد مجهولاً مدى استعدادها للتعامل مع أعتى الطغاة والأنظمة الديكتاتورية وكم فعلتها بالفعل سابقاً وحاضراً إذا تصورت أن مصالحها متحققة وحاصلة من وراء ذلك.
مشكلة الرئيس السيسي ونظامه في نظرهم أنه فاشل.
لا يهم طغيانه وقمع نظامه إلا بالقدر الذي يوثر على «البيزنس» فليس لدى الرجل مشروع وطني مناوئ للغرب الامبريالي الاستعماري (ولن يكون) ولا هو يناوئ أو يعترض على الغرب مطلقاً، وقد رفده الأخير بالأسلحة وتعامل مع انقلابه بواقعية تمليها المصالح.
هذه الحقيقة البسيطة تتوه في بلدنا أو نتجاهلها، لأسبابٍ عديدة، قد تكون لمصالح اقتصادية مرتبطة بالنظام، أو خوفاً وإشفاقاً من غياب البدائل في نظر البعض والفوضى المحتملة في حال سقط النظام والأمثلة الإقليمية ماثلة للعيان، أو فراراً من مواجهة واقعٍ شديد القبح محزن.
لذا، فتهمة المؤامرة جاهزة للفرار ومتاحة دائماً، يروج لها النظام وأبواقه وتتلقاها قطاعات واسعة من الجماهير بارتياح، فهي الخيار الأسهل.
نحن لا نعرف الفشل أو الهزائم، إما ننتصر ونصنع المعجزات أو نسقط ضحايا المؤامرات.
لن أسأل «إلى متى ندفن رؤوسنا في الرمال؟» لأن الكثيرين بدأوا يستشعرون قلقاً عميقاً تحت وطأة الغلاء. الأكيد أن الرئيس السيسي ونظامه أثبتا إفلاسهما، وينبغي ألا تلتبس علينا الأمور، فغرضهما الأساسي هو ترميم وإنقاذ النظام بالانحياز الاجتماعي نفسه، لا مجرد المصلحة العامة والناس الذين قد يهتم بهم بالقدر فقط الذي يسهم في ترسيخ النظام بانحيازاته وشبكات مصالحه.
ولم ينجح في ذلك، وبدأ داعموه الإقليميون ينفضون عنه قلقين من مساره، ومنشغلين أيضاً بميزانياتهم التي ضربها انخفاض سعر النفط، وربما لإدراكهم أن مصر بعشرات ملايينها أكبر وأكثر ثقلاً من أن يحملوها.
يهلل البعض الآن لمليارات صندوق النقد الدولي التي سنتسلمها على أربع سنوات، ولا يخبرنا أحد ما الذي حدث لمليارات دول الخليج وأين ذهبت؟
لا يملك نظام الرئيس السيسي مقومات الإصلاح ولا القدرة عليها، فتلك تحتاج لإرادة سياسية تغير المسار والانحيازات، وهو ما لن يفعله.
سيكمل في تلك الطريق إلى النهاية، نحو مزيد من الفقر والعنف وتردي الأوضاع.
٭ كاتب مصري
يحيى مصطفى كامل
المليارت التي تدخل مصر يجب أن تتجه للإستثمار حتى يكون للدولة دخل من الإستثمار
مع الأسف ذهاب عشرات المليارات الممنوحة لمصر من دول الخليج لشراء أسلحة لقمع الشعب المصري لو فكر أن يثور
ولا حول ولا قوة الا بالله
تحية للكاتب المحترم
إنه يسقط نحو الهاوية بسرعة الصاروخ
ورغم كل التحذيرات يصر أن يهدمها حجرا على حجر
حمى الله البلد