« لَمْ يترك لي بابا عائلة قبل رحيله. كان هو العائلة بأكملها» تلك هي الجملة المفتاح التي تقودنا نحو جوهر رواية: الخائفون، أو بالأحرى الموجوعون. موت الأب كان الحالة الأولى لبداية فعل التشظي العائلى والتمزقات الخطيرة التي لحقت بالعائلة الواحدة.
فقد كان الأب في ثورته الثنائية (الطبيب الذي رفض التقتيل في حما، فترك كل شيء ورحل (والد سليمى)، والكاتب الذي يبحث عن حريته المسروقة في عالم النار والحرب والخيبات (والد سلمى)). نكاد نصرخ ونحن نقرأ، أن في هذا شيئا من الحقيقة التي نعرفها، مع علمنا المسبق أننا داخل مدارات أدبية يصنعها التخييل وبعض وقائع الحياة. يسبقنا السؤال المقلق: هل الخائفون رواية سيرية؟ الذي يعرف ديما قليلا وعائلتها أو بعض سيرتها، سيجد حتما بعض مادته السيرية. عندما اشتدت الحرب الأهلية السورية، اختارت ديما المسلك الأصعب، فهاجرت نحو لبنان، بيروت تحديدا. الثورية ليست جينات ولكن تربية عميقة تبدأ من العائلة. ديما ابنة الكاتب والمسرحي الكبير، سعد الله ونوس الذي توفي بمرض السرطان في دمشق. كان لي شرف معرفته ومصاحبته خلال سنوات إقامتي بالشام، مع العديد من الأصدقاء من أمثال عبدالرحمن منيف، فيصل دراج، فواز الساحر وزوجته المسرحية فاطمة، غالب هلسا، ميشيل كيلو، محمد كامل الخطيب، فاضل جتكر، وغيرهم من الفاعلين في الحقل الثقافي الذين كانوا يشكلون موجة رافضة لممارسات النظام وقتها معتمدين على الفعل الثقافي الحي، فأنتجوا منابر ثقافية ظلت وسيلتهم في الدفاع عن الاختلاف والحق في المواطنة. يتبدى ونوس الأب في رواية: الخائفون، واضحا في الرواية، بخياراته السياسية، بمرضه المضني، وشطط زوجته التي تسهر عليه حتى النهاية. عمر سليمى/ديما وقتها لم يتجاوز الأربع عشرة سنة. وكان عليها أن تقطع الصحراء وحيدة، وهي مدللة البيت التي تثير غضب بقية أفراد العائلة بانتمائها الكلي لوالدها. ولا أرى كيف قادتني رواية ديما إلى ذاكرة نهاية السبعينيات عندما كانت سورية مساحة حية للنشاط الثقافي الفعلي وحتى السياسي الذي كثيرا ما كان عرضة للقمع. ربما لأن ديما نجحت حيث فشل الكثيرون. فقد عرفت كيف تجعل من سيرة الوالد وسوريا خلفية عامة لروايتها، وتشتغل على التخييل لتغطية حرب أهلية حارقة وموجعة لم يعشها والدها. لهذا من الظلم اعتبار رواية الخائفون، رواية سيرية لأن ذلك سيفقدها قوتها التخييلية الكبيرة من خلال القصتين المتوازيتين: قصة سليمى، وقصة سلمى بطلة رواية صديقها نسيم.
الخائفون أكثر من هذا التبسيط، سؤال معقد يختزل كل الألم السوري الذي نبتت فيه الاختزالات الطائفية كحل وهمي للكثير من المعضلات المرتبطة بالمجتمع والنظام. سليمى، حتى هي داخل هذه الدوامة التي لا يمكن تفاديها، كونها من أب علوي وأم سنية، أي من خليط كان في وقت من الأوقات غنى ثقافيا وليس ألما يحمل على الظهر كوصمة عار، حولته الحرب الأهلية إلى خوف عميق وفرقة قاسية، أنبنت عليها الكثير من العداوات الطائفية الثقيلة. ويتجلى الحقد الطائفي عندما تزور أمها السنية ضيعة والدها العلوية لتكتشف سليمى كم أن الكراهية الطائفية كانت ثقيلة. يتحول النص شيئا فشيئا من رواية عائلة كما في المفهوم الغربي roman de famille ليس بالمعنى السلالي إلى رواية سياسية بالمعنى الإجناسي. يكسر شيئا في عمق سليمى الصغيرة، عندما تعود من ضيعة والدها إلى الشام تكون محملة باللهجة الآمرة والخشنة التي تفتح أمامها مسالك الهيمنة والسيطرة والسلطة. أكاد أقول إنها سوريا أخرى خرجت من رحم التاريخ الدموي لتفرض شروطها وقانونها، وكل ما كان يبدو توافقا شكليا، أصبح حقيقة ميدانية شديدة المرارة، حرب أهلية عمياء وشعب يتقاتل بلا رحمة وإملاءات لا تتوقف. لهذا الخائفون هي رواية الوضع السوري اليوم الذي وصل إلى كل التطرفات وحول الشعب إلى رهينة. كل شيء مرتبك وحيث الموت المجاني والقتلة المحترفون في النظام وخارجه، الذين يزدادون ضراوة وكرها. وكل ما بني عبر القرون من لحمة مجتمعية ودينية في تعددها، يتحلل كما كرة الصوف التي تعبث بها القطط. لا مكان لها في هذا الدم والنرام المعمم، لهذا تقرر سليمى مغادرة البيت وترك الشام، باتجاه بيروت، رفضا لكل ما يمت بصلة للقتلة. كانت تحلم بوطن آخر أكثر دفئا وحبا ففوجئت بوطن الدم والموت. الوطن الذي أفنى فيه عبثا والدها الطبيب المعارض (سليمى) أو والدها الكاتب (سلمى) زهرة عمره حفاظا على توازن لم يعد ممكنا. سليمى لا تعيد إنتاج تجربة والدها ولكنها تذهب بها إلى أبعد نقطة، حيث يتحول إلى سكينة ضائعة بعد موته بسبب مرض السرطان. بل تقاومها وتقاوم طائفيتها وتخلفها. لدرجة أن تجعل من أفكار والدها الرومنسية أحيانا، ممارسة نضالية مع الاستعداد لتحمل تبعات ذلك كله. كل شيء يصطدم بالجريمة السياسية، بالنظام، وبالعقليات المنغلقة، إذ يصنع كل فريق جرائمه بالطائفية المقيتة والتهم الجاهزة. فالخوف الذي سكنها وسكن أبطالها ليس هينا قبل وأثناء حرب أهلية غير مسبوقة. تحولت سورية الهادئة إلى مساحة يتبارى فيها القتلة، كل بطريقته في فنون الفتك بالأعداء، يتحول السوري الطيب، تحت أحذيتها الثقيلة، إلى مجرد حشرة «صرت أفهم كيف يقتلون الناس ويعذبونهم، ويستلذون. إنهم لا يرون بين أيديهم المتوحشة أجساداً، بل نطفاً قذرة يجب سحقها» اختارت ديما أن تذهب بلعبة التخييل إلى أقاصيها. من لعبة التخييل المتمادي، إلى الواقعية المرة والباردة، المجردة من أية جمالية لغوية، مثل مشرط حاد لجراح محترف. الجمالية الحقيقية تتبدى في توصيف يصف الوضع كما هو، كما عاشته سليمى وتعيشه، وتحسه شخصيات الرواية. المسافات بين الأمكنة ليست إلا لحظات وأزمنة أدبية تختزل فيها الآلام، وتختصر الأوجاع. بين دمشق وحماه وبيروت، قم الملاذ التركي والألماني، لا يوجد إلا الخوف والانتظارات الخفية من شيء مرعب يمكن أن يحدث في أية ثانية، مغيرا المجرى الحياتي والوجودي لسليمى. حتى الوالد وهو يموت بالتقسيط بين البيت والمستشفى وزوجة تترقب بخوف أنفاسه، يتحول إلى استعارة لوطن لا أحد انتظر موته بتلك السرعة وذلك العنف المخزن عبر السنوات، وربما القرون. تتماهى ديما كثيرا بسليمى وتنفصل عنها بلا تردد منتصرة للرواية كنص تخييلي، أي للشخصية الورقية سلمى وليس للسيرة.
نحن في مجتمع مريض، لا ينتج إلا المزيد من الأمراض والاختلالات العقلية، فكيف يحمي الإنسان نفسه من الانزلاق نحو الجنون المعمم، كيف عليه أن يفهم ما يحدث؟ كيف يروي جرحه للطبيب النفساني كميل الذي لم يعد قادرا على استقبال مرضى مجتمع فقد توازنه كليا. كميل نفسه لا يسلم من الجنون الذي تحول إلى عدوى مرضية. لا يداوي كميل الضحايا فقط، ولكن عليه تحمل الزيارات المتواترة لشبيحة لا شيء بقي حيا فيهم لدرجة أن أصبحوا مرضى بالدم والقتل. الكل يموت بهدوء حينما يظن أنه يمارس الحياة. العيادة المتراحمة للدكتور كميل ليست إلا استعارة مكشوفة لهذا المجتمع الذي ضيع البوصلة، وأحرق الحلم وراح يبحث عنه في الرماد، وانغرس في تيه بلا نهاية، لا أحد يعرف متى ينتهي.
في هذا الفضاء الخانق، عيادة الدكتور كميل، تلتقي سليمى، بظلها. بالكاتب نسيم الذي أحبته قبل أن ينطفئ في أدغال المنافي. كانت في دوامة اليأس، وهي الرسامة والفنانة التي أفقدتها الحرب قدراتها على التفكير الجيد وإغناء موهبتها الفنية بقوة أكثر، فالتجأت إلى الكتابة لتحرر نفسها من ثقل رماد تراكم عليها حتى أثقل كاهلها. يأتي نسيم هو أيضا إلى العيادة منتظرا من الطبيب أن يحرره من خوفه ليعود إلى كتابته التي كانت تمنحه فسحة التخييل والأمل. على الرغم من أنه درس الطب إرضاء لأهله ولأمه تحديدا، طل رهانه الحياتي الأكبر هو الكتابة لأنها مساحته المتبقية للحرية وتفادي الجنون. كل شيء يدور في دائرة مغلقة. قصة الحب بين سليمى ونسيم تظل مشوبة بالأسئلة التي لا أجابة لها. نحن داخل تراجيدية يونانية بالمعنى الكامل، الأقدار تصنع سلفا ولا سلطان لنا عليها لأنها أكبر منا. تتحول قصة المأساة والجنون إلى قصة حب لا أرض لها، تدور في عالم الافتراض والتخييل واليأس المستشري. يسلم نسيم روايته المخطوطة، التي عجز عن إنهائها إلى سليمى، وكأن كل الحياة مبتورة في عالم يلغي باستمرار إنسانية الإنسان. تلاحظ سليمى بسرعة الشبه القائم بين بطلة الرواية، بدءا من الاسم الذي بتر قليلا من سليمى، إلى سلمى. تكتشف بعد القراءة أن التشابه بينهما كان أكبر، والاختلافات تضيق فتتساءل إذا لم يكن نسيم قد أخذ حياتها كمادة أدبية للكتابة عنها هربا من الخوف: هل استعرتني لتهرب من قصتك؟ ربما كان نسيم يكتب هزيمة جيل بكامله لهذا فرأت سليمى نفسها في سلمى. تتحول في النهاية سلمى إلى المرآة القاسية والمتشظية التي تقرأ فيها سليمى أجزاء كسوراتها الحادة، فتتحول إلى حقيقتها المضمرة التي لا يمكن تفاديها. جزؤها الآخر الذي لا يزال حيا. تتواعدان باللقاء في مقهى بيروتي، حيث تعمل في دار نشر لبنانية، إضافة عملها التطوعي في منظمة تهتم بوضعية اللاجئين السوريين، مما يجعلها مطلوبة من مخابرات النظام. عندما وصلت إلى المقهي اكتفت سليمى بتأملها من بعيد وكأنها تخاف ان ترى وجهها وأعطابها العميقة. هل حقيقة سلمى التي خرجت من مخطوطة هي حقيقة أم مجرد وسيط إيهامي وإبداعي لمعرفة سرية الأعماق الجريحة، مثلها مثل نسيم الذي تنتهي حياته بخسران بيته وجزء من أهله في حمص، وخوض طريق الانتحار في قوارب الموت، باتجاه المنفى التركي/ الألماني. لم يبق بعدها أمام سليمى إلا خوض تجربة موت آخر: المنفى اللبناني بعد أن خسرت الرجل الذي كان كلما حضر، غيَّبَ صورة البابا أكثر.
الخوف هو الثيمة الأساسية التي تخترق رواية الخائفون، من البداية حتى النهاية. الحرب القاسية مسحت كل البراءات. عائلة فقدت كل شيء لدرجة الانهيار الكلي وتساؤل سليمى: «هل تحتمل أمي كل هذا الفقدان؟ أخاها وزوجها وابنها (فؤاد) وابنتها (سليمى) ؟ يظل السؤال معلقا أمام المصائر التراجيدية الطاحنة التي لم ينج منها حتى الأب في موته، عندما يخبرها رجل أمن الحدود بأن أباها لا يزال متابعا ومطلوبا أمنيا. فتشعر أنه مات مرة ثانية «على الحدود السورية اللبنانية مات بابا» الأب المتشظي، الطبيب المريض بالسرطان، المغضوب عليه من النظام، الذي غادر حماه بعد تدميرها في الثمانييات (سليمى) والكاتب المنشغل بكل ما يحيط به أملا في استرجاع فتنة الكتابة المنهكة والمنتهكة (سلمى). رواية كابوسية بامتياز تفتح أعيننا لأول مرة على الانهيارات الداخلية لجيل مأساوي من الشباب الحالمين. حلموا كثيرا بعيون مفتوحة لدرجة الخوف من الحلم وعليه.
واسيني الأعرج
حماه كانت هي العينة المصغرة لإحراق سوريا يوم أن ثار الشعب السوري بعد أن ترك الحبل على الغارب للنظام الأسدي الذي لم يقل له الشعب السوري لا يوم حماه إلى أن صارت سوريا جميعها حماه.
الشعب السوري هو من ربى نظام الأسد ليكون كلاهما على ما هو عليه الآن من حال.
اذا كانت الرواية مرآة المجتمع في فترة ما من تاريخه فاليوم يكتب في الوجع السوري الاف الروايات. فكل عائلة سورية ذبحت هي رواية وكل عائلة هجرت هي رواية وكل قصة حب في الزمن الرديء هي رواية وكلها روايات في التراجيديا السورية. والروية لاتكتب الا بعد اطفاء الحريق على عكس الحديد فهي لاتطرق حامية قالسنوات الاتية هي التي سينبعث خلالها الابداع الادبي السوري
شكراً أخي واسيني الأعرج. إنها انظمة الاستبداد المستعدة لقتل الملايين وحرق الوطن, والذي كتب عنه عبد الرحمن الكواكبي منذ أكثر من قرن من الزمان. بصراحة الواقع كقصة أو تفاصيل وحكايات ليست إلا عرض للحالة أما المرض فهو أنظمة الاستبداد. كم من الضحايا سكلفنا المأزق الحضاري ومتى سنخرج إذا استطعنا الخروج من عنق الزجاجة عاجلاً أم آجلاً. عندما كنت في سوريا كنت أشعر (والكثيرون مثلي) كيف كنا نسير نحو الهاوية, ولم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء للشعور ذلك. المشكلة أننا حاولنا الكثير (أقصد على الصعيد الشخصي بالإضافة لجهود الكثيرين من المثقفين أو االنخبة ومنهم من دفع ثمناً غالياً) لكن الاستبداد ظل متمسكاً ببرنامجة الأحمق ونجاحه هو الذي وضعنا في هذا المأزق الحضاري أو ربما العكس أو ربما هو تلازم ينهما, فهل هذا هو التعريف الفعلي للتراجيديا.