يتظاهر الكثيرون بالصدمة بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية. والصدمة ليست ناجمة عن الشعور بالإحباط بسبب تجاهل «دولة المؤسسات والقانون» السلوك الشخصي للرجل ووجود 75 قضية قضائية مرفوعة ضده، بل من تصريحاته الاستفزازية وغير اللائقة، وأطروحاته السياسية الخطيرة. ويتجاهل هؤلاء أن المؤسسة التي سمحت له بالصعود إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها التي سمحت بوصول رئيس أسود إلى المنصب نفسه، في البلد الذي كان يمارس العنصرية إلى ما قبل نصف قرن.
لقد بلغ الانزعاج من فوزه مستوى غير مسبوق، فأطلقت عليه تسميات قل ما استخدمت مع رئيس أمريكي قبله. فسمي «المتعصب» و «الاستئصالي»، «عدو الديمقراطية» وغيرها. وقال بعضهم إن انتخابه «لعنة إلهية» لأمريكا، بينما قال آخرون إنها تعبير عن الرفض الشعبي العارم للنخبة الحاكمة التي تجاهلت الأوضاع المعيشية للملايين. ووصف آخرون ما حدث بأنه مؤشر لتداعي الديمقراطية الغربية، وتراجع عن مقولات فوكوياما بحتمية هيمنة الديمقراطية الليبرالية على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ورأى بعض المفكرين فيها تجسيدا لتنبؤات صامويل هانتنجتون، حول «صراع الحضارات».
وصدمت تصريحاته الإيجابية حول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الكثيرين الذين يرون فيه عدوا لأمريكا والغرب. ولضمان فشله، انهالت الملايين من خارج أمريكا لدعم الحملة الانتخابية لمنافسته، كلينتون، التي صعقت بفشلها، حتى وصفها البعض بأنها لا تتوقف عن البكاء، وأن اتصالاتها مع المقربين منها تكاد تكون خالية إلا من البكاء لعدم قدرتها على التعبير عما تريد قوله. وتشعر بالامتعاض الشديد من موقف جيمس كومي، مدير جهاز مكتب التحقيقات الاتحادي «اف بي آي» الذي أعلن في الاول من نوفمبر/تشرين الثاني «فتح تحقيق في استعمال كلينتون لبريدها الالكتروني الشخصي عندما كانت وزيرة للخارجية». أدى ذلك لانخفاض شعبيتها وتهاوي حظوظها في استطلاعات الرأي العام، الأمر الذي أعاد الثقة لحملة منافسها.
ومهما كانت أسباب الصدمة فقد وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وبعد شهرين سيباشر مهمات الرئاسة. ومن المؤكد أن الزعماء الذين انتقدوه في بداية الحملة الانتخابية سوف «يتشرفون» بحضور ذلك المهرجان. وبدأ التسابق للتواصل معه منذ اللحظات الأولى لإعلان نتائج الانتخابات. بل إن بعض السياسيين، كوزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، طلب من سفرائه التواصل مع فريقه في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات، وعدم اعتماد استطلاعات الرأي العام التي كانت تشير إلى فوز محتوم لمنافسته، هيلاري كلينتون. مع ذلك شعرت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بالغبن حين قرر ترامب الاتصال بعشرة من زعماء العالم قبل أن يتحدث معها. فطالما تباهت بريطانيا بأنها تتمتع بما تسميه «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة. وهذه الخطوة ليست بادرة إيجابية بل مؤشر لسخطه من لندن وما صدر عن رئيس وزرائها ومسؤوليها من تصريحات سلبية إزاءه. وما تزال بريطانيا تعول ليس على استعادة العلاقات المتينة مع أمريكا فحسب، بل على تطويرها إلى المستوى الذي يوفر لها القدرة على التوسط لدى واشنطن، ومد جسور التفاهم بينها وبين حكام الخليج، خصوصا السعودية التي راهنت بالمال على حملة كلينتون. ومع أن الشائع أن الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، يتبادلان الرئاسة عادة، الأمر الذي يعني فوز مرشح الجمهوريين هذه المرة (أيا كان شخصه) فإن ظاهرة ترامب فريدة وغريبة وسبب للاضطراب في مواقف الدول الأخرى. فقد أذهل الجميع بقدرته على الصعود بدون مقدمات إلى منصب الرئاسة وهو الذي لم يتول يوما منصبا حكوميا ولم يعمل في سلك الدولة، ولم يكن عضوا بالحزب الجمهوري إلا بعد أن قرر الترشح للرئاسة. صحيح إنه من كبار الأثرياء، ولكن قدرته على تجاوز «مؤهلات» الرئيس كانت خارقة. فعادة يكون المرشح قد عمل عضوا بالكونجرس (بمجلسي الشيوخ والنواب)، أو كان حاكما لإحدى الولايات الكبرى، الأمر الذي لم يتوفر لترامب.
كثيرون هم القلقون من فوز ترامب الذي لم يراع البروتوكولات الدبلوماسية ولم يستخدم لغتها في حملته، ولكن أغلب هؤلاء يمارس النفاق السياسي في تعامله «الواقعي» مع الظروف المتجددة، فيتجاهل الإهانات والإحباطات ويسعى لترميم العلاقة مع الشخص الأقوى سياسيا في العالم. وبرغم تصريحاته الفاقعة وغير الدبلوماسية خلال حملته الانتخابية، فقد تغيرت كلماته في اللحظات الأولى بعد إعلان النتائج. فتحولت هيلاري كلينتون التي كان يهدد باعتقالها إلى مواطنة صالحة تستحق الشكر على ما قدمته من خدمات لبلادها. وبقدرة قادر سحب مساعدوه من موقعه الرسمي التصريح الأول الذي أثار العالم عن عزمه على منع المسلمين من دخول أمريكا. وبرغم أنه أعيد في اليوم التالي إلا أن من غير المتوقع أن يصر ترامب على جعله سياسة ثابته، والأرجح أن يكثف جهود أجهزة الاستخبارات الأمريكية لتحديد الأشخاص غير المرغوب فيهم، خصوصا المشتبه بعلاقاتهم بالإرهاب، لمنعهم من دخول أمريكا. كما سيواجه تحديا كبيرا إزاء قرار «جاستا» الذي صدر مؤخرا ليسمح لعائلات ضحايا تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول بمقاضاة الحكومة السعودية. ومن المتوقع أن يشكل ذلك أزمة مقبلة في العلاقات الأمريكية – الخليجية. وفوجئ البعض حين اكتشف وجود مجموعات مسلمة كانت تروج له تحت اسم «مسلمون من أجل ترامب». ويعلم ترامب أنه لا يستطيع أن يحكم بلدا كبيرا مثل أمريكا بعقلية التوتر والتعصب ومعاداة الآخرين على أسس اللون والعرق. ويكفيه أزمة أن المواطنين السود كانوا أكثر القطاعات تحسسا من خطابه الاستئصالي، كما يكفيه أن الاحتجاجات التي شهدتها المدن الأمريكية في الأيام التي أعقبت إعلان النتائج غير مسبوقة.
بضع ملامح من تصريحاته ساهمت في تشكيل صورته لدى الرأي العام، أولها تصريحه بمنع المسلمين من دخول أمريكا، ثانيها إعجابه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يعارضه زعماء الغرب بسبب سياساته في اوكرانيا وسوريا بشكل خاص، ثالثها: إعلانه الذي أكده مرارا عن عزمه على بناء جدار عازل (يصل طوله 700 كيلومتر) على الحدود مع المكسيك لمنع تدفق المهاجرين والمخدرات والسلاح، رابعها: دعمه المعلن للكيان الإسرائيلي، وما سيكون لذلك من انعكاس على أوضاع الشرق الأوسط. خامسها: دعوته لإعادة النظر في دعم بلاده للأنظمة الصديقة في الخليج، وإصراره على إجبار تلك الدول على دفع تكاليف ذلك، سادسها: مواقفه المضطربة إزاء عدد من القضايا الاستراتيجية مثل حلف الناتو واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، والعلاقات مع دول أمريكا اللاتينية. سابعا: سيرته الشخصية ومدى ملاءمتها لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك مواقفه إزاء المرأة ودعاوى التحرش ومدى التزام امبراطوريته العملاقة بقوانين الضرائب والشفافية. هذه الاعتبارات جميعا تجعل الرئيس المنتخب من أشد الرؤساء إثارة للغط وأخطرها على الأمن الاجتماعي في بلد عملاق تختزن فيدراليته قنابل موقوتة وصواعق عرقية ومجتمعية تهدد بتفجيرها بين الحين والآخر. يضاف إلى ذلك أن انتشار السلاح بين المواطنين مشكلة كبرى عجز الرئيس اوباما عن حلها أو استصدار تشريعات لاحتوائها. وقد كشفت الاحتجاجات التي أعقبت فوزه حالة من التوتر التي قد تؤدي، إذا ما تكررت، لمواجهات دموية تهدد الكيان الفيدرالي. كما سيواجه ترامب النظام الصحي الذي طرحه الرئيس اوباما والذي لم ينجح تماما، ويطالب الكثيرون بإلغائه. ومن بين عوامل شعبيته تجربته الشخصية كرجل أعمال كبير، قادر على توظيف خبراته لإدارة الأوضاع الاقتصادية للولايات المتحدة على غرار الشركات الكبرى للتخفيف من الضغوط الاقتصادية التي أدت إلى ديون تجاوزت 17 تريليون دولار. ولعل الجانب الأكثر إثارة عزمه على تقليص الدور الأمريكي العالمي لأسباب من بينها خفض النفقات العسكرية وتقليص عدد المهاجرين وحماية الهوية الأمريكية. والواضح أنه برغم ما يبدو من قصور في هذه السياسات فقد استهوت الكثيرين الذين صوتوا له وأوصلوه إلى أرقى منصب في الدولة الكبرى في العالم. أما علاقته بالرئيس الروسي فقد تكون ذات أبعاد إيجابية تساعده على التعاون معه حول البؤر المتوترة في العالم خصوصا سوريا والعراق.
لماذا حدثت ظاهرة ترامب؟ ستختلف التحليلات ولكن الأمر المؤكد أن هناك تمردا من قبل الشعوب الغربية على النخب الحاكمة في بلدانها، لأسباب شتى أهمها تراجع مستويات المعيشة وتوسع ظاهرة الهجرة، والشعور بضياع الهوية، وتعمق مشاعر الطبقة الوسطى من البيض بأن «المؤسسة» الحاكمة فشلت في استيعاب مستلزماتها الحياتية وأن حالة من الفساد غير مسبوقة تنخر كيان الدولة وتهدد بتداعي علاقاتها مع عموم الشعب. كما أنها تكريس لظاهرة التوجه نحو اليمين المتطرف في الغرب. ومهما قيل عن اوباما فقد ساهم في تخفيف حدة العلاقات بين أمريكا والعالم، وهذا تحد كبير سيواجهه ترامب خصوصا إذا توجه لمحاباة «إسرائيل». فهل العالم أصبح أكثر أمنا أم خطرا بعد وصول ترامب للبيت الأبيض؟ المؤشرات الإيجابية ليست كثيرة، ولكن الأمل أن يتراجع الرئيس المنتخب عن كثير من شعاراته، وعندها ستكون آفاق الأمن والسلام الدوليين أكثر إشراقا.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي
مقالك محيط بموضوع السّاعة…وأودّ الوقوف عند عبارتك : ( فقد أذهل الجميع بقدرته على الصعود بدون مقدمات إلى منصب الرئاسة وهو الذي لم يتول يوما منصبا حكوميا ولم يعمل في سلك الدولة..).هذا صحيح ؛ إنما الأمريختلف في الولايات المتحدة الأمريكية.لأنّ ( أمريكا )
دولة ثروات قبل أنْ تكون دولة مؤسسات…فأفضل ( موظف ) فيها ذلك الذي يمتلك أكثرالمال.وترامب من ( أكثرهم مالاً ) فهوموظف من الدرجة الأولى ولولم يستلم منصباً حكومياً ؛ لأنه أرفع من الوظيفة.هذه هي الحقيقة.وما يؤكد ( كلامنا ) أنّ ترامب أعلنها صراحة أنه لن يأخذ راتبه الحكومي البالغ ( 400 ألف دولارسنوياًلمنصب الرئيس ).ربما الوظيفة الحكومية ( عندنا ) لها مقام ؛ لأننا دولة قبائل ذات معارج ؛ وقانون الشرق هنا لا يتطابق مع قانون ( ترامب ) ذي الأبراج ؛ لهذا نرى الأراجيف من ظاهرة ترامب…كأعراف الأمواج.