بيروت – «القدس العربي»: منذ سنة 1965 حين نُفذ قرار اقصاء ترامواي بيروت عن الحركة في أرجاء المدينة واللبنانيون يرددون مع الشاعر والمؤدي الراحل عمر الزعني: رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت.. كنت تمشّي الحال وتسعد كل البيوت.. قاموك لأنك دغري.. وبتمشي على سكة الدغري.. وما بتلف وبتدور يا ترامواي بيروت.
وحين يتقصد اللبنانيون التشهير بالسياسة والسياسيين يقولون: لأن الترامواي كان دغري أعدموه. وتعبير «دغري» يعني السير في خط مستقيم. ولأن بيروت وضواحيها تختنق بالسيارات الخاصة والحافلات في كافة الأوقات تقريباً. وتختنق أيضاً بالتلوث وارتفاع الحرارة صيفاً، الناس يسألون عن الحل؟ والمختصون يجدونه في عودة الترامواي كنقل عام محترم ولائق.
فريق الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية «إنسان» في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، عمل على تراث المدينة، وبالأخص على وسيلة النقل والانتقال الكهربائية «الترامواي الكهربائي» في مدينة بيروت. وأفضى عمل الفريق إلى نتائج مهمة على أكثر من صعيد. ومن هذه النتائج «معرض بالوثائق البصرية والسمعية» احتضنه قصر الأونيسكو تحت عنوان «ترامواي بيروت ـ ناظم المدينة وشريانها الحيوي». من خلال الصورة الموثقة كانت رحلة تشرح حال بيروت مع حركة النقل العام، والتي بدأت إبان الاحتلال العثماني في نهايات القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين بدأت الخطوة الأولى مع الترامواي «البغالي». فكان عبارة عن عربة تجرها البغال على خط حديدي. ولا شك في أن العثمانيين في ذلك الحين أرادوا من الترامواي ربط المدينة بأطرافها، لمزيد من النمو العمراني والتجاري. في رواية الصور والوثائق أنه وفي العهد العثماني نفسه أي في سنة 1896 تمّ تلزيم الترامواي لشركة بلجيكية، لكنه لم يخرج إلى الحركة العامة إلاّ سنة 1919، مع أفول شمس السلطنة وبدء عصر الانتداب. هذا الترامواي تميز بلونه الأصفر أولاً، ثم صار أخضراً مع الانتداب. وفي عهد الاستقلال صار أحمراً، حتى كانت خاتمته في شباط/فبراير من العام 1965.
يوثق المعرض لعدد من المحطات الأساسية للترامواي، والتي شكلت شرايين اقتصادية وتنموية مهمة في مدينة بيروت. ويظهر انتظام المدينة وفق مواقيت سيره. فهو أرّخ لسلوك مدني افتقدته المدينة وناسها منذ اعدامه. إذ يتندر كبار السن من سكّان بيروت وأهلها أن مواعيدهم كانت منتظمة وصادقة في عصر الترامواي، ومن بعده فقد الوقت احترامه.
أرخت الصور التي جمعها فريق البحث خلال نبشه لذاكرة بيروت لثلاثة أنواع من البطاقات المتاحة للمواطنين في ذلك الحين. منها تذكرة «البريمو» أي الدرجة الأولى. تذكرة الدرجة الثانية. وتذكرة «باس» السنوية التي خصصت للطلاب والموظفين، وتتألف من أربع خانات، وكانت تدمغ واحدة منها كل ثلاثة أشهر. الفرق بين الدرجة الأولى والثانية، أن الـ»بريمو» كرسيها من القش، وليس لحاملها الوقوف. والثانية من خشب، ولحاملها الوقوف لدى امتلاء المقاعد.
الجولة على الصورة الموثقة في المعرض تنتهي إلى صندوق الفرجة، وفيه فيلم فيديو يمتد 15 دقيقة، يعرض بالصورة المتحركة حال ترامواي بيروت منذ نشوئه حتى اعدامه. ويترافق مع تعليق علمي عن أهمية حركة النقل المماثل في حياة المدينة يقدمه مدير فريق البحث الجامعي الدكتور محب شانه ساز. ونسمع كذلك كلمات عمر الزعني الذي ينعي الترامواي بأبسط التعابير وأعمقها دلالة. فمنذ ذلك الحين تحولت الدولة اللبنانية إلى مستهلك للمحروقات التي تستوردها من الخارج لحافلاتها، التي ما لبثت أن توقفت مع بدء الحرب الأهلية. وكانت تعود لزمن قصير ومن ثم تغيب. وحافلات النقل العام غائبة كلياً حاضراً، فهي أفسحت الطرقات لنقل خاص غير منتظم ولا يحترم البشر.
استهدف فريق البحث الجامعي كبار السن، الذين يذكرون جيداً حال بيروت والترامواي الذي تميز بخطي سير، أحدهما للبضائع مباشرة من مرفأ بيروت، والآخر للمواطنين. وفي المعلومات أن منطقة الدورة في ضواحي بيروت، اكتسبت اسمها من حركة الترامواي الذي كان يلتف عندها عائداً إلى بيروت. بين المحطة والأخرى بحدود 300 متر. وكان الترامواي منتظماً في مواقيته، والناس منتظمون وفقه و»على الترم». وهو تعبير مستنبط من الترامواي، رغم وجود الـ Term في اللغة الانكليزية.
من استنتاجات الفريق البحثي أن كثيرين من كبار السن الذين التقوهم عبروا عن امتنانهم للترامواي لأنه سمح لهم بالتنقل لتلقي العلم في أماكن بعيدة عن سكنهم. وكانوا يصلون يومياً على «الترم». ومع اعدام الترامواي فقدت المدينة انتظامها. وفقد الناس التزامهم بمواعيدهم، وبدأت زحمة السير. وانتشرت في المدينة محطات بيع الوقود، وبدأ عصر التلوث النفطي.
«فاكونة»الترامواي كانت تتسع 60 شخصاً، يضاف إليهم 40 وقوفاً. وفي حال وجود القاطرة والمقطورة يتضاعف العدد. فكم كان وجود الترامواي سيوفر على المواطنين الذين يتحركون في بيروت وقتاً ومالاً وجهداً؟ ولهذا نسأل الدكتور محب شانه ساز عن الهدف الأبعد لهذا البحث؟ يقول: الهدف أن يتناول الفريق البحثي الجامعي واحدة من المشاكل الكبرى في مجتمعنا ومعالجتها. نحن نطل على أزمة السير، وليس لنا معالجتها، بقدر اهتمامنا بالجانب الإنساني والمجتمعي من الأمور. رؤيتنا للترامواي تختلف عن رؤية مهندس المدن أو المهني الميكانيكي. نراه بأبعاده الإنسانية، ودوره في المجتمع والجغرافيا. والهدف أن يتدرب الفريق البحثي على انتاج مفاهيم. وهذا ما توصلنا إليه. فالترامواي هو مؤسس المسلكيات المدَنية في المدينة. وفي حرفتنا كذلك التدريب على اعادة تركيب ما انقرض، ودون ذلك صعوبة كبرى. يتطلب تقاطعاً مع عدد كبير من المعطيات المتأتية من الذاكرة، من الأرشيف، من الصور. إضافة للدقة وهذا ما قام به الفريق الذي اثبت جدارته وهذا ما استغرق سنة من العمل الجاد.
بين الماضي والحاضر نلحظ تقهقراً على صعيد السلوكيات البشرية. هل سنستمر بالتراجع؟ يجيب الدكتور شانه ساز: ما من أحد يتكهن بالمستقبل. الظاهر ومنذ العثمانيين، وصولاً إلى الفرنسيين وبدايات عهد الاستقلال، أن الترامواي هو من أرسى الحيز العام. أي قواعد عامة لارتياد المكان الذي صار اسمه عاماً. وهو يختلف عن الحيز الخاص. كذلك كان له ارساء الجغرافيا والوقت. زال احترام الوقت، وزالت الجغرافيا، ونحن الآن في فوضى عارمة. نعم كان للترامواي أن يضعنا على سكة منطق المدينة الحديثة. وقد فهمنا من المسنين الذين قابلناهم أنهم كانوا يدرسون في الدرس الأول من مادة الأخلاق ـ التربية المدنيةـ كيفية استعمال الترامواي. ويقول هذا الدرس بأولوية احترام المرأة وخاصة الحامل وتأمين جلوسها. كذلك العجائز. وهذه تعتبر مسلكيات مدنية نفتقدها حالياً. وكان الترامواي الكهرمائي معاصراً بمنطق البيئة اليوم، فهو غير ملوث. نعم، قياساً بالزمن الماضي نحن ننحدر. ففي مراقبة لأحد زوايا بيروت المزدحمة تمر 200 سيارة خلال عشر دقائق وبداخلها شخص فقط. في حين أن الترامواي القاطرة والمقطورة يتسع 200 راكب. بمنطق بسيط هو يلغي من الشارع كل 15 دقيقة في الحد الأقصى 200 سيارة. من هنا، الترامواي مسألة في غاية الحيوية، ومعه يصبح الناس أصدق في مواعيدهم.
زهرة مرعي