دأب الشاعر والمترجم اللبناني اسكندر حبش على تقديم عيّنات نادرة، ينتقيها بعناية ودراية تامتين ليقدمها في ترجمات مكينة إلى العربية، ودائماً عن الفرنسية التي يجيدها أيما إجادة. والترجمات المنتقاة في الغالب تكون أما دواوين أو مختارات شعرية، أو روايات ومذكرات أدبية. وآخر إصداراته في حقل الترجمة عدة كتب شعرية، من أبرزها لشاعر صيني وللفرنسي ريفيردي ومختارات لافتة من الشعر الإيطالي والشعر البرتغالي، والمختارات الأخيرة هذه، هي محور تناولنا هنا.
مختارات الشعر الإيطالي
مضى زمن بعيد على ترجمة يتيمة من الشعر الإيطالي، ليست متوفرة الآن، لكي نستعين بها ونخلي مكاناً للمقارنة بين الترجمة القديمة والجديدة، ومدى الإضافة والنقلة والشعراء المضافين في الترجمة الحديثة، والمعنية هنا ترجمة حبش الجديدة التي قدمها بعنوان «نجهل الوجه الذي سيختتمه الموت».
يقدم اسكندر حبش لترجمته مقدمة قصيرة، تستطيع عبرها أن تستشف مدى الجديد الذي قدّمه في هذه المختارات التي جمعت في محتواها واحداً وثلاثين شاعراً من أجيال متنوعة، فضلاً عن سيرهم وكشاف بتواريخهم ومنجزاتهم ورسم ملامح تجربتهم الإبداعية، فهم كما يورده الكتاب ينتمون لأساليب وأشكال ومدارس شعرية مختلفة، بينها أسماء لامعة ومشهورة في فضاء الشعر الإيطالي بشكل خاص، وباتت معروفة ومألوفة في خريطة الشعر العالمي على نحو عام.
ولعل أسماء بارزة مثل مونتالي وأونغاريتي وسيريني وبافيزي وبازوليني وبرتلوتشي هي ما عزز من قيمة هذه المختارات التي تعد الآن من الترجمات القليلة، لا بل المعدومة في سوق الكتاب العربي.
يمكن اعتبار يوجين مونتالي من أشهر شعراء إيطاليا الحديثين الذين ظهروا في حقبة الحربين العالميتين، وأثْروا المشهد الشعري بنماذج متطورة وطليعية، وبأسلوب شعري راق يعد من النماذج الرفيعة فيما انتجه الشعر العالمي خلال هاتين الفترتين من تاريخ إيطاليا والعالم.
حاز مونتالي على جائزة نوبل للآداب عام 1975، وقدم دواوين شعرية لامعة، وعُرِف في ايطاليا على نطاق واسع، هو الذي يقول: «لا نعرف مطلقا ما إذا كانت عصافير الدوري النهمة/ هي من رفع الفتات المهمل من على طاولة الحانة/ عند مرور السكوتر/ يهرب حائكو السماء إلى مكان ينسجون فيه نفاث الدخان في الوضوح الرمادي/ الزهري/ لمغيب شمس هذا الصيف المتأخر».
وحين نمر على شعر شاعر إيطالي آخر لا يقل أهمية عن مونتالي هو أونغاريتي، ذلك الإسكندراني المولود هناك من أبوين إيطاليين، سنجد رقته المختزلة في سطور قليلة، تلمح وتومئ وتدل دون إطالات، لنقرأ حِكمه الشعرية الدانتية في قصيدة «ليلة أخرى» التي يقول فيها: «في هذه الظلمة اليدان مثلجتان/ أتبيّن وجهي/ أرى نفسي مهملاً في اللامتناهي»، أو في قصيدة «صباح» التي يوجزها في كلمتين دالتين وتفي بالغرض والمغزى «أندهش من اللا نهائي».
كانت هناك قصائد متوسطة الطول لأونغاريتي، يبدو أن أسكندر قد تحاشاها معتمداً مبدأ الشذرة الذي يشيع كثيراً في هذه الأيام، وخصوصاً في الشعر العربي.
أما ثالث أكبر شعراء إيطاليا بعد مونتالي وأونغاريتي فهو كوازيمودو الذي هو الآخر حالفه الحظ ونال نوبل قبل مونتالي، وكان ذلك في عام 1959 وهو شاعر صقلي ولد هناك في تلك البقاع التي تنفست قديماً الطباع العربية واستذوقت تاريخها ولغتها وحضارتها الماضية، وتوفي فيما بعد في نابولي عن سبعة وستين عاماً، مخلفاً خلال عمره القصير أعمالاً شعرية كبيرة ومهمة، وهو اليساري الذي ذاق عذابات الفاشية ومآسيها الكثيرة. ومن هذه الأجواء التي كانت تدين وتحرض ضد الواقع الفاشي نختار من قصيدة «عند ورق الصفصاف» الآتي: «وكيف يمكننا الغناء وقدم الغريب على القلب/ بين الموتى المتروكين على الساحات/ على العشب القاسي من الثلج/ من شكوى الحمل من الأطفال/ من صراخ الأم المأساوي/ التي كانت تسير نحو ابنها المصلوب على عمود تلغراف، عند ورق الصفصاف/ وفق أمنيتنا / نعلق سيتاراتنا أيضاً/ تتأرجح بخفة في الهواء الحزين».
ونحن نتصفح المختارات لا نستطيع تجاهل بازوليني الذي كتب أشعاراً حارّة وملفتة في قساوتها وجرأتها ومعدنها الصافي. بازوليني الذي أتعب الفاشيست بموقفه وسلوكه وفنه الذي جُسِّد في أفلام تاريخية وعظيمة أثارت حنق الفاشيست عليه، فسلطتْ عليه أحد الصبيان، من الذين يعرفهم بازوليني لينهي حياته الحافلة بالفن والمثيرة بمواقفها ويومياتها الجريئة، تلك المواقف التي لم تجلب سوى الصداع للفاشية الإيطالية. وهنا ينبغي التوقف عند قصيدة له تتنبأ بنهايته المأساوية والقصيدة عُنوِنَتْ بـ «يوم موتي» وفيها يقول: «في مدينة تريستي أو أودينيزي/ وعلى طول ممرّ الزيزفون/ في الربيع/ حين تبدّل الأوراق ألوانها/ سأسقط صريعاً تحت الشمس الحارقة/ الصهباء والعالية/ وسأغني عينيّ/ تاركاً السماء إلى بهائها، تحت زيزفونة فاترة من الخضار سأسقط في سواد موتي الذي سيبعثر الزيزفون والشمس/ الصبيان الجميلون سيركضون في هذا النور الذي سأفقده للتو/ سيبتعدون عن المدارس وخصلات شعرهم على جبينهم».
ثمة شاعر ينبغي ألا ننساه في هذه المختارات وقد ترجم له حبش طائفة من قصائده، وهو سيزار بافيزي. شاعر قلق ومسكون بالهواجس والشك، وقد أنهى حياته بيديه في أحد فنادق ايطاليا. من أهم كتبه يومياته «مهنة العيش». هذا الشاعر الذي قرأته بحب في مطلع الثمانينيات وعبر السلسلة التي تميز بها اللبناني القدير كميل قيصر داغر، فقدمه بترجمة ناصعة وبديعة، من خلال ترجمة قصائد له ومسرد عن حياته وشؤونه اليومية. من ترجمة حبش نقتطف «وجهك من حجارة منحوتة/ ودمك من أرض قاسية/ جئت من البحر/ تقطفين/ تقصّين/ وتدفعين بعيداً عنك مثل البحر/ قلبك ما هو إلا صمت/ ليس الا عبارات مبدّدة/ أنت غامضة/ الفجر بالنسبة اليك هو صمت/ أنت مثل صوت الأرض/ صدمة الدلو في البئر/ أو أغنية النار/ أو التفاحة التي تسقط «.
مختارات الشعر البرتغالي
في هذا الكتاب يختار حبش اثنين وثلاثين شاعراً برتغالياً، مع مقدمة قصيرة أيضاً، وكشاف بيوغرافي حول سيرتهم وأعمالهم، مشيراً في مقدمته إلى رائد الشعر البرتغالي الشاعر العالمي بيسوا. ذلك الشاعر المقنَّع الذي كتب بأسماء كثيرة وعُرف بها، وتجاوزت شهرته الآفاق لتصل إلى كل دول العالم.
لقد ترجم بيسوا ترجمات كثيرة، كان من أبرزها ترجمة الشاعر المغربي مهدي خريف، وقد نال شهرة قمينة بشاعر كبير ولافت، في عالمنا العربي الزاخر بالأسماء الشعرية العالمية، ولم أجد أمة حسب زعمي تهتم بالشعر وتترجمه من كل لغات العالم مثل العربية، لقد ترجم الشعراء العرب والنقاد وبعض المترجمين المختصين كميات كبيرة من شعراء العالم، وها هو اسكندر حبش يضيف للمكتبة العربية ترجمات نيّرة من هذا الكون الشعري العالمي.
يشير حبش في مقدمته لكتاب «أجمع الذكريات كي أموت» إلى مدى تأثير بيسوا في الشعراء البرتغاليين، أولئك الذين أثّر فيهم أيما أثر، بحيث انه ترك ميسمه وبصمته وآثاره الجمالية ـ التعبيرية على أكثر من جيل زامنه أو جاء بعده، فكان ليس من السهل أن تخرج أعمالهم من عوالم وأجواء بيسوا دون أن تحمل أثراً من روائحه اللغوية وحساسيته الفنية وسطوته البنائية على مجمل الشعر البرتغالي.
لكنّ رغم الذي تقدم يكشف حبش في ترجمته هذه أصواتاً جديدة فرضت صنيعها الفني ومخيالها الرؤيوي عبر فن التجاوز والتخطي قدر الإمكان، من أجل بلوغ المدى التجديدي للشعر البرتغالي الحديث، وحسب حبش فإن البرتغال الآن تعد «بلد الشعراء».
يبدو أن الحالة الشعرية في البرتغال هي على العكس مما هو موجود في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا، فالشعر عندها يباع ويطبع ويشترى، وأصغر شاعر فيها من الشباب الطالع يطبع ما بين الفين وثلاثة آلاف نسخة من الشعر، لتنفد خلال أسابيع، وإنها، أي البرتغال، «تعيش الآن عصراً ذهبياً جديداً» على حد تعبير الناقد البرتغالي هيرمينيو مونتيرو.
ومن الأسماء الجميلة واللافتة نقرأ لميغيل تورغو المولود عام 1907 قصيدة «حرب أهلية» قائلاً:
«أناضل ضد نفسي/ ليس لي أيّ عدوّ آخر/ ما أفكر به / ما أقوله/ ما أفعله/ يطالب بالعقاب وقطع الرمح في يدي…..بائس أنا بجنون أم بدونه/ أطالب الحياة بحياة أخرى/ بمغامرة أخرى/ بمصير آخر غامض، لا أسير في هذه الحياة كمنتصر ولا كمهزوم/ أعتدي على الرجل/ على الطفل اللذين فيَّ».
في مكان آخر ولشاعر ينتسب إلى الفترة ذاتها تقريباً نقرأ لروي سيناتي المولود 1915 «النور المرتفع يجرح البيوت ببياض الثلج/ بيوت منسابة/ جسدي حقل جاف تسقط فيه النجوم الرطبة».
ومن الشعراء المعروفين في عالمنا العربي إلى حد ما نختار قصائد للشاعر هيلدر مورا بيريرا المولود عام 1949، وهو شاعر التفاصيل اليومية في الخارطة الشعرية البرتغالية الحديثة، المكتوبة بأسلوب سيال، وبلغة أشبه باللغة المحكية، حسب تعبير المترجم: «أغادر هذه الأمكنة/ ولا أحمل معي شيئاً/ ولا حتى هذا الإله القاسي/ الذي يهب البندق إلى ذاك الأدرد/ أنا حزين/ لا أحمل البرتغال هذه في قلبي».
أما الشاعر نونو جوديسي الذي نال جائزة الأركانة المغربية وترجمتْ نماذج من أشعاره إلى العربية، فهو أيضاً روائي وكاتب وأستاذ جامعي، نختار له «هجائية مع طبيعة صامتة» وفيها يقول: «لم يعودوا في الليل/ لم يسمعوا التحذيرات، لم يلتقوا أبداً بالذئاب التي تراق أحياناً عند تقاطع الطرقات/ كان الليل واضحاً/ لا يزال الهواء عابقاً بالربيع/ لكن أكان القمر ملطخاً بالدماء/ والهمسات خارجة من الأرض».
«نجهل الوجه الذي سيختتمه الموت»:
من الشعر الإيطالي
دار طوى، بيروت/لندن 2015
232 صفحة
«أجمع الذكريات كي أموت»: من الشعر البرتغالي
دار طوى، بيروت/لندن 2015
183 صفحة
هاشم شفيق