بعدما انتهت الانتخابات التركية بنصر صريح للرئيس أردوغان، ولتحالف الجمهور الذي يدعمه، تفتح تركيا صفحة جديدة في تاريخها السياسي، بنظام سياسي جديد يجمع فيه الرئيس بين رئاسة الدولة والحكومة وحزب العدالة والتنمية معاً، كما تتبع له قيادة أركان الجيش ووزراء الحكومة (المقبلة) وولاة الأقاليم وإدارة المصرف المركزي ورئاسة مؤسسة الشؤون الدينية، ويملك إصدار مراسيم رئاسية، ويحدد وجهة السياسة الخارجية وملامحها. إنها تركيا الجديدة كما يصفها الرئيس الذي لم يفقد من شعبيته كثيراً، على رغم استمراره في السلطة طوال ستة عشر عاماً، سيضاف إليها الآن خمس سنوات جديدة، ليصبح صاحب الرقم القياسي في الحكم في تاريخ تركيا الحديث، متجاوزاً بذلك مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
ثمة تحديات كثيرة تواجه «تركيا الجديدة» في المرحلة القادمة، سنرى معاً كيف سيواجهها رجل تركيا القوي. ففي الداخل، وعد أردوغان بإنهاء العمل بحال الطوارئ المفروضة على البلاد منذ سنتين، في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف تموز/يوليو 2016، ويقال إن قراراً بذلك سوف يصدر في الثامن عشر من الشهر الجاري، بعدما تكون الحكومة الجديدة قد تشكلت. ولا يعرف أحد بعد أي قائمة من الأسماء سيطرحها الرئيس كوزراء يتبعون له مباشرةً، بعدما تم إلغاء منصب رئيس الوزراء، الأمر الذي قد يعطي فكرة عن بعض التوجهات، وبخاصة في شؤون الاقتصاد والسياسة الخارجية.
ففيما خص الاقتصاد، هناك تقديرات متشائمة حول أزمة اقتصادية ظهرت بعض نذرها منذ أشهر، من أبرزها مشكلة التضخم وانخفاض القيمة الشرائية لليرة التركية، وتراجع في تدفق الاستثمارات الخارجية، وخروج بعض رؤوس الأموال المحلية، وعجز في الميزان التجاري مع الدول الأخرى، مقابل أرقام نمو كبيرة (7٪ العام الماضي) قد تجد تفسيرها، في ظل العوامل الأخرى المذكورة، في مشاريع البنية التحتية الكبرى كبناء الجسور والمطار الثالث في اسطنبول ونفق أوراسيا الذي سيربط شطري العاصمة القديمة للدولة العثمانية وغيرها من المشاريع المكلفة، إضافة إلى مشروع المفاعل النووي ومشتريات السلاح.
وتخشى رؤوس الأموال المحلية والأجنبية من الاستثمار في بيئة من عدم اليقين، بسبب حال الطوارئ التي سادت في العامين الماضيين، وارتجالية القرارات المتعلقة برفع أسعار الفائدة أو خفضها، مفضلةً وضعها في البنوك والحصول على فوائد مرتفعة مضمونة، بدلاً من المخاطرة في ظل تآكل قيمة العملة الوطنية. وقد توقع بعض خبراء الاقتصاد ارتفاعاً في أسعار كثير من السلع، بعد انتهاء الانتخابات. وهو ما بدأ فعلاً مع بعض السلع، على رأسها الخبز.
كما تستمر المسألة الكردية في كونها تحدياً دائم الحضور ما لم تجد حلاً توافقياً سلمياً يخرج البلاد من الصراع الدموي المستمر منذ نحو أربعة عقود، تتراجع شدته حيناً، وتصعد حيناً. وهي مشكلة لها أبعاد إقليمية، قد لا يمكن حلها إلا بتوافقات على مستوى دولي. ومن المحتمل أن تزداد تعقيداً، في الفترة المقبلة، بسبب المقاربة القومية المتشددة للحكومة، وبخاصة مع وجود حليف، هو حزب الحركة القومية، لا يرى إلا العنف سبيلاً لحلها.
أما في السياسة الخارجية، فهناك تحديات كبيرة ستواجه الحكومة في الفترة المقبلة، لعل أهمها كيفية إدارة الخلافات أو ترميم العلاقات مع الإدارة الأمريكية، بعد سنوات من الخلاف في الصراع السوري، اقتربت أنقرة، في غضونها، من روسيا بوتين بقدر ما ابتعدت عن حلفائها التقليديين في حلف الناتو، الأمريكيين والأوروبيين معاً.
كذلك هي حال العلاقات مع الحليف الروسي المستجد. صحيح أن تركيا هي إحدى دول «مسار سوتشي» الذي تقوده روسيا، لكن خلافات، تظهر أحياناً إلى السطح، بين تركيا وروسيا، قابلة لنسف المسار بكامله، في لحظة معينة. وعلى سبيل المثال، يمكن لتفاهمات روسية ـ أمريكية بشأن سوريا ومصيرها، أن تؤدي إلى نسف التفاهمات الروسية ـ التركية، وبخاصة إذا طلبت موسكو من أنقرة سحب قواتها من الأراضي السورية. وهذا أمر محتمل، إذا أدى التفاهم الأمريكي ـ الروسي المتوقع إلى طرد إيران من سوريا. كذلك يمكن لمصير محافظة إدلب التي يشارك الأتراك في ضمان «خفض التصعيد» فيها، بوجود 12 نقطة مراقبة تركية، أن يفجر خلافاً بين أنقرة وموسكو. ومن مواضيع الخلاف أيضاً ميل الروس إلى إعطاء المناطق الكردية في شمال سوريا نوعاً من الإدارة الذاتية في الدستور الذي يريدون فرضه، وهو مما يثير حساسية تركيا التقليدية بهذا الخصوص.
والعلاقات مع الدول الأوروبية ليست على أحسن حال، وبخاصة ألمانيا، كما أن مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مجمدة منذ سنوات، ولا يسمح صعود التيارات الشعبوية في أكثر من بلد أوروبي بتوقع عودة سريعة إليها. بالمقابل تركيا نفسها باتت، في السنوات الأخيرة أكثر ميلاً إلى الانغلاق على الذات، وتصاعدت نزعات العداء للغرب في المجتمع والسياسة التركيين.
أما العلاقات مع بعض الدول العربية، فهي متوترة ولا يبدو في الأفق القريب أنها ستتحسن. نخص منها مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي الوقت الذي تمضي فيه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ترتيباتها التمهيدية لما تسميه بـ«صفقة القرن» لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، عادت علاقات أنقرة إلى التوتر مع تل أبيب، بعد فترة وجيزة من حل الخلاف بينهما، في 2016، بشأن حادثة قافلة الحرية في العام 2010.
عاد، بعد الانتخابات، سؤال الوجهة الاستراتيجية لتركيا ليشغل الرأي العام مجدداً. هل تعزز توجهها نحو الغرب الذي بدأ منذ قرنين، وتكرس أكثر بعد قيام جمهورية أتاتورك، أم تتوجه شرقاً إلى روسيا وإيران؟
قد يكون أول امتحان أمام السياسة الخارجية التركية، في مرحلة تدشين النظام الرئاسي، هو الاختيار الصعب بين الخضوع للطلب الأمريكي بوقف وارداتها النفطية من إيران، أو التمرد على واشنطن وتحمل العواقب. سبق وصدرت تصريحات لمسؤولين في الحكومة التركية برفض الانصياع للقرار الأمريكي. لكن ذلك كان في «تركيا القديمة». سننتظر بعض الوقت لنعرف جواب «تركيا الجديدة».
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
“أما العلاقات مع بعض الدول العربية، فهي متوترة ولا يبدو في الأفق القريب أنها ستتحسن. نخص منها مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة”. لم يذكر سوريا-معه حق- لأن سوريا لم تعد دولة!
تظل الامور مفتوحه امام تركيا وخياراتها ليست سهله وخاصة في الملف السوري المرشح للتصادم بين رغبات امريكا ومعها اسرائيل ومن الواضح ان الموقف الروسي بات اقرب لهذا الموقف