كما هو معروف لنا جميعا، أن كتابة الرواية بمختلف مدارسها وأجوائها، هي الباب المطروق حاليا في الكتابة الإبداعية، أو الباب المفتوح على مصراعيه بلا طرق حتى، ويمكن أن يدخل منه الناس كلهم بلا استثناء.
ونتيجة أن ثمة بابا كريما مفتوحا هكذا، فقد قدم إلى الرواية كثيرون من بيوت إبداعية أخرى ليسكنوا بيت الرواية. قدم الشعراء والنقاد والمسرحيون، وحتى الرسامون، والنحاتون والمغنون أحيانا، وكل من استطاع أن يمسك بفكرة ما، ويدونها على الورق، لا يهم كيف دونت وكيف ستقرأ ومن الذي سيقرأها، لكنها في النهاية فكرة في كتاب، سيكون موجودا، وسيأتي من يوقعه ومن يقرأه أيضا.
وسط كل أولئك القادمين إلى الرواية، يبدو لي الشعراء أكثر قرابة لهذا النوع الإبداعي، وأكثر إجادة له في بعض الأحيان من كثير من الروائيين المتمكنين، فالشاعر لديه خيال كبير يمكن أن يطال كل شيء، ولديه رؤية مختلفة للواقع وما حوله، وقطعا سيعثر على فكرة أو أفكار كثيرة، وسيبني نصه بتلك اللغة الرفيعة التي يمتلكها الشعر ولا يمنحها لغير الشعراء.
لقد أعجبتني أعمال روائية وقصصية لشعراء، أو كتاب كانوا في الأصل شعراء، أو ربما استمروا شعراء بعد أن تمكنوا من كتابة الرواية. وبالطبع سيخطر بالبال كاتب عظيم مثل الألماني الراحل غونتر غراس، ولدينا في بلاد العرب يبدو إبراهيم نصر الله كاتبا متمكنا، وشاعرا لم تلهه الرواية عن عشق القصيدة وكتابتها، وكذا كثيرون. ومن كتابات جيل الشباب، أظل معجبا برواية «إبن القبطية» للمصري وليد علاء الدين الذي أحببت شعره وحرضته على كتابة الرواية، واستجاب برواية ناجحة جدا على مستوى الفن والمعنى، وأعتقد نجحت لدى القراء أيضا.
الأديبة السورية مريم مشتاوي، قادمة من الشعر أيضا، ولديها كتابان شعريان فيهما تجربة ثرية، وأحدهما الذي سمته «حين تبكي مريم»، يرصد تجربة حزن شخصية عاشتها، ودونتها في تلك القصائد الباكية. وقد كتبت حتى الآن ثلاث روايات هي «عشق وياقوت» التي عالجت مسألة فرار اللاجئين في البحر، و»نهاية الأحلام»، وأخيرا «تريزا أكاديا» الصادرة حديثا. لقد شد انتباهي في هذه التجربة، مدى الجهد المبذول، والتطور الكبير الذي لحق بالتجربة، بالرغم من قصر المسافة بين الرواية الأولى والرواية الأخيرة.
تريزا الراهبة الجميلة التي ولدت في تلك المدينة الصغيرة من أب لبناني كان في الأصل بحارا عاشقا للبحر، والسفن والغموض، والفرار من اليابسة باستمرار، وأم إيطالية جميلة لم تعش كثيرا ورحلت، لتتربى الفتاة الجميلة عند أم بديلة، وستتعرف إلى خصائص الأم وشخصيتها الغريبة وعطر المانوليا المنتشر من حولها مبكرا. لكن هناك حبا كبيرا وهناك أسرار كبيرة أيضا لن تتفتح بسرعة، وسنظل نحن القراء المتورطين في النص، نلهث وراء الشغف الحادث في اللغة والمعنى حتى نتوصل إليه.
الفتاة الجميلة لا بد أن تحب أو أن يحبها أحد، ويظهر أوغستينو الوسيم، الطيب، المنعزل نسبيا، ليلقي بعزلته بعيدا ويمارس دوره بطلا لقصة الحب مع الفتاة الجميلة، يعيش حياة المحبين كما ينبغي أن تعاش. لكن للأسف يوجد سر مخبأ عند أوغستينو، وهنا تأتي لعبة الشاعر، أي توظيف ما يمكن أن يعد بهارا كتابيا قد تجده عند الروائيين أيضا، لكن عموما هو من بهارات الشعراء: توظيف الأسطورة، وأن الحبيب قد يكون من طينة أخرى غير طينة البشر. وبمجرد أن تعثر الحبيبة على طرف خيط قد يؤدي إلى كشف سره، يختفي تماما، ويظل العذاب الضروري للأنثى التي تركها الحبيب ومضى، يبدأ العذاب وتبدأ محاولة العثور على الغائب، وهكذا.
لقد كانت مريم مشتاوي تعدنا لنستقبل دهشة ما، دهشة أننا تعرفنا إلى سر لكنه لم يكن واضحا ولا اكتشفناه حقيقة، وسنظل نبحث حتى نكتشفه، والرحلة ليست قصيرة، إنها سكة سفر تقودنا إلى جنوب لبنان، حيث مفاجآت كثيرة.
لقد حفلت الرواية بعدد من الشخصيات الغريبة، المرسومة بدقة، ونستطيع أن نلمسها ونتفاعل معها ونعيش معها المواقف التي قد تكون سارة أو فاجعة. سنتعاطف مع تريزا أكاديا التي حملت الرواية اسمها، بجدارة، ليس لأنها فتاة أخفقت في قصة حبها الأول والأخير، وتتوجه إلى الرهبنة، ولكن لأنها أحبت كيانا أسطوريا ظل بعيدا عن حبها حتى وهو داخل حبها. ثمة خلجات قلب نعم، لكن ليس ثمة تعارف جسدي بسبب العاهة المخبأة التي لن نعرف معناها إلا لاحقا، وبعد صفحات كثيرة من المتعة سواء من ناحية جمال الرسم للمكان والشخصيات أو اللغة الشعرية الخاصة التي تحدثت عنها من البداية.
لقد ذهبت تريزا إذن إلى الدير، وكانت الرحلة المعلنة أنها ستذهب للدير، وغير المعلنة أنها ستزور عمتها التي لم ترها قط من قبل، ونتعرف معها إلى العمة العمياء المسؤولة التي تمارس نشاطها في رعاية الراهبات بخفة وإتقان كما لو أنها مبصرة، وتستطيع برغم العمى أن تفرض سيطرتها كاملة على المكان، ولدرجة أن الفتاة لا تنتبه إلى أنها عمياء إلا بعد زمن.
الحقيقة حفلت الرواية بالرغم من صغر حجمها، على أفكار كثيرة، واهتمت بالتاريخ والأسطورة، والفنتازيا في مواقف وشخصيات كثيرة، والنقلة التي تمت من قرية أوروبية إلى قرية عربية، تمت ببطء وبالتدريج وتستطيع أن تتابع تغير الألوان التدريجي حتى تمسك باللون المطلوب لرسم النهاية.
الفقرات المهمة، أو الحوادث المهمة، تدور داخل دير، في قرية فيها سكان من عقائد أخرى، لكن لا فرق، الجميع يتجول في القرية بلا حرج، وأهل القرية من المسلمين فيهم من يدخل الدير بغرض بيع بعض المنتجات المحلية، وأيضا للدردشة العادية. الرهبان موجودون ولكن ليسوا كلهم أنقياء وفيهم من يرتكب الآثام في الخفاء، ويوجد هناك سائق وسيم، لعله متورط في مسألة ما من تلك المسائل الشائكة. خاصة أن هناك نساء متباينات الأمزجة والمخيلات وهناك لغة في الوجود اسمها الحب، ولغة أشد عنفا اسمها الشهوة.
بالنسبة للغرائب فهي ليست أشياء بعيدة جدا يمكن تصديقها أو عدم تصديقها، إنها حقائق موجودة في المكان وتتحدث القرية عن الجن بوصفه كائنات حية وملموسة ترافق الحياة في المكان ويصفون وجوده كما يصفون وجود حميرهم وأبقارهم، وكل حاجياتهم العادية. وقمة التورط في الفنتازيا أن الكاتبة لم تصحح أي مفهوم ولم تعالج اعتقادا خاطئا، والعمة العمياء المشرفة، ستشرف على الخطأ والصواب، الإثم والنقاء معا وربما تتدارك كل ما يمكن تداركه وحتى الذي لا يمكن تداركه.
لقد قدمت أخيرا لنا الشاعرة والروائية مريم مشتاوي رواية تليق بالشعراء فعلا، وأيدت ظني في أن الشعر مادة عظيمة للحياة، ومادة جيدة لاستخدامها حبرا في كتابة رواية، مثل «تريزا أكاديا»، و»إبن القبطية»، وأعمال أخرى لشعراء آخرين، كتبوا روايات رائعة.
* كاتب سوداني
أمير تاج السر
تذكرني هذه الرواية التي لم أقرأها لأنها لم تصل إلى يدي حتى الآن لكني سأبحث عنها، برواية عزازيل ليوسف زيدان التي ايضا تدور احداثها في دير في حلب وهي في الاصل مخطوط ارامي من القرن الخامس تركه راهب مصري تحت حجر وهرب من الدير بحثا عن الحب وقام زيدان بترجمته وتحويله الى رواية، وفيما يخص الشعراء القصاصون فأعتقد شخصيا أن الأدب بشكل عام هو وحدة متكاملة فنجد كتاب مسرحيون يبدعون ايضا في الرواية وكتاب سيناريو وصحافيون جربوا أقلامهم في الرواية والقصة القصيرة، ثم أن الرواية باتت كالصحافة مشرعة الأبواب لك من يريد ان يطرقها فمع انتشار وسائل التواصل الحديثة ظهر ما يعرف بالمواطن الصحفي، والان يمكن ان نقول ان هناك ايضا المواطن الكاتب
صباح الخيرات ..
القصه الروايه جميلة لانها حقيقية_ ولاكن تغير بعض الشخصيات لاحترام سر الرواية الحقيقة ..
اي ان الشاعرة لم تؤلف من مخيلتها بل وجدت امر امامها حقيقي وحولته الى روايه وليست مسأله صعبه لكثيرين من المؤلفين والمنتجين والمخرجين والهاويين..
بالنسبة للحب فهو لم يفشل لا الاول ولا الثاني ولا الاخير ,, لان الاول كان غيورا والثاني بعيدا والثالث جبانا ,, وحب العرب الاصيل ليس كالحب عند الاخرين / فعند الاخرين الحب هو التفاهم والمشاركة وعند العرب البدو يكفي دقة قلب او لفتة اما يستمر ويتعارفون ويتدارسون ويتفاهم واما جعلها ذكريات بريئه ماضيه ..
الشعر ليست له مدرسه فهو نابع من الحب او الواجب العملي واتقان الدور كالممثل الشهير ..
اذن الله سخر للبشريه ما يمكن تسخيره ليفهم العالم الحقيقي والخفي والذي يعتقدون الطيبين بانه خيالي ,, سنة الحياة استمرار الصراع بين الشر والخير والكذب والصدق ونبل الاهداف ودنائتها واهداف كل فرد وانسان يبين ويوضح حقيقته ويستطيع المختص ان يدرك بان غالبية هؤلاء التابعين لا يستحقون الحياة بمفهومه العميق لقلة خيرهم وكثرة الشر الذي يخرج ..
والسلام على الاصدقاء المترابطين ربطة واحدة سواء الى اليمين دور او الى اليسار در او توقف مكانك امر ..
ما قاله الكاتب حول تميز الشعراء الذين اتجهوا نحو كتابة الرواية، صحيح إلى حد ما ؛ إذ بقدر ما نجد نماذج من الشعراء الذي كتبوا روايات طبقت شهرتها الآفاق، كما هو الحال بالنسبة للشاعر لويس أراغون الذي كتب (مغامرات تليماك) و(الأسبوع المقدس) التي هي عبارة عن رواية تاريخية وقبله نجد الشاعر الأشهر لامارتين الذي كتب ( رحلة إلى الشرق) ثم هناك الشاعر تيوفيل غوتييه الذي عبر مقدمة روايته الأشهر (الآنسة دو موبان) نظر لفكرة الفن من أجل الفن. وبالمقابل نجد شعراء قد فشلوا في كتابة الرواية حتى إن رواياتهم لا يكاد يعرفها إلا القليل من المتابعين ومن هؤلاء الشاعر أبولينير الذي كتب روايتين لم يقتنع هو نفسه بهما بل نستطيع أن نقول فوق ذلك إنه تنكر لهما. وهناك أيضا الشاعر أندريه بروتون الذي كتب ثلاثية أشهرها (نادجا) وهي عبارة عن سيرة ذاتية خالية من أي نفس روائي. وفي مقابل الشعراء الذين برزوا في كتابة الرواية، نجد روائيين برزوا في كتابة الشعر من هؤلاء ريمون كونو الذي بدأ مسيرته الأدبية بكتابة رواية نال عنها جائزة تساوي الغونكور، قبل أن يتجه لكتابة الشعر ويبرع في ذلك. وهناك أيضا فيكتور هوغو الذي كتب الرواية والمسرحية ثم اتجه إلى كتابة الشعر رغم أن النقاد المعاصرين يعتقدون أنه لم يكتب شعرا يضاهي شعر بودلير أو ملارميه.