باريس ـ «القدس العربي» سليم البيك: حضر المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار السنة الماضية في مهرجان كان السينمائي، بفيلمه «خولييتا» ليشارك في المسابقة الرسمية، ويحضر هذه السنة إنّما كرئيس للجنة التحكيم في المسابقة ذاتها، أي الشخصية الأهم في المهرجان السينمائي الأهم.
لم ينل فيلمه السنة الماضية أي جائزة، وقد يكون اختياره لرئاسة التحكيم هذا العام ردّ اعتبار له، على كل حال، لا يضير ذلك بالفيلم لتجارب سابقة في المهرجان الذي أخرج من مسابقته أفلاماً دون جوائز، منها «عطلة السيد أولو» لجاك تاتي عام 1953، و«هيروشيما حبيبتي» لألان رينيه عام 1959، و«كليو من 5 إلى 7» لأنيِس فاردا عام 1962، و«العابر» لمايكل أنجلو أنطونيوني عام 1975، و«في مزاج الحب» لونغ كار واي عام 2000، وأفلام غيرها أصبحت لاحقاً كلاسيكيات للسينما العالمية، في وقت تم نسيان أفلام نالت في حينها السعفات الذهبية.
نعود إلى الدورة الحالية من المهرجان، فالإنشغال الفرنسي اليوم بأحد أفضل المخرجين الأحياء في العالم، عرضت قناة ARTE الثقافية وثائقياً للإسباني سرجيو مونديلو بعنوان «بيدرو ألمودوفار، كل شيء عن نسائه»، وهو الوثائقي الأحدث عن المخرج الذي تميّزت أفلامه بنسائها، لمشاركة بطلتي فيلم «خولييتا» به. يبدأ الوثائقي بحديث عن أهمية النساء في حياة ألمودوفار، ثم يمرّ على أفلامه من خلال النساء فيها، صاعداً زمنياً من فيلمه الأول «بيبي، لوسي، بوم» (1980)، مروراً بغيره حتى فيلمه الأخير، ثم يعود إلى أهمية النساء في عموم مسيرته السينمائية خلال الأربعين سنة الماضية. لفهم الحس النسائي لدى ألمودوفار، المثليّ، لا بد من العودة إلى طفولته، وقد ولد عام 1949 في قرية في عمق إسبانيا، معزولة عن العالم، في زمن الديكتاتور فرانكو. هناك كان الرجال يغيبون عن القرية للعمل، وكانت النساء تدبّر الأمور الحياتية لعائلاتها، ليسود القرية «ماترياركية» (حكم نسائي) أثّر على بيدرو الطفل الذي كبر متعلّقاً بوالدته، وبما تمثّله من حضور نسائي في قرية معزولة عن باقي إسبانيا، التي كانت معزولة بدورها عن باقي أوروبا. وذلك قبل أن يكبر ويغادر إلى العاصمة مدريد.
مثّلت والدته في أفلامه الأولى، إلى أن توفّت فأخرج عنها فيلم «فولفير» الذي يصوّر فيه ثلاثة أجيال من النساء، عالم خاص من النساء المستقلات، يقول بيدرو عن الفيلم بأنه كان «محاولة عبثية وغير مجدية لاستعادة والدتي من الظلمة كي تكون إلى جانبي مجدداً». والأمهات في أفلامه هن جزء من تصوراته المتنوعة للنساء، اللاتي من خلالهن عبّر عن شغفه بهن، وقد ساعدته مثليّته على إظهار أجمل ما فيهن، وعلى التعبير عن شغفه دون تأثيرات جانبية، من الرغبات الجنسية إلى الشطحات الذكورية، ما يمكن أن يشتّت هذا الشغف وهذه الطاقة التي يشعر بها تجاههن، وتأخذه إلى مناطق غير فنّية وجمالية في التعامل معهن. فإضافة إلى النساء العاشقات والأمّهات، هنالك المثليون والمتحولات جنسياً، وقد تعدّدت هذه التنويعات في أكثر من فيلم. لذلك، صارت هنالك دمغة اسمها «امرأة ألمودوفار»، تتمناها الممثلات الإسبانيات، وامرأة ألمودوفار، كما قالت أكثر من امرأة/ممثلة مشارِكة في الوثائقي، ليست أي امرأة تمثل في فيلم لألمودوفار، بل هي التي يتكرر حضورها في أفلامه، إذ تكون لكل منهن شخصيتها وأثرها على المُشاهد، من بينهن، وهؤلاء شاركن في الوثائقي: كارمن ماورا، فيكتوريا أبريل، ماريسا بارديس، روسي دو بالما، بيبيانا فيرنانديز، بينيلوبي كروز، أدريانا أوغارت، وهي بطلة فيلم «خولييتا» التي قالت في الوثائقي بأن ألمودوفار «يفهمنا أكثر من أنفسنا»، وكذلك إيما سواريز، البطلة الأخرى لفيلم «خولييتا»، وقد أدّت الممثلتان دور الشخصية ذاتها ضمن زمنين مختلفين، وقالت هذه الأخيرة كذلك بأن «نظرته إلى الحب هي نسائية بامتياز»، بل تذهب أبعد في توصيف نسائية مُخرجها لتقول «أظن أن ألمودوفار كان يحب أن يكون ممثلة».
ليست فقط الأفلام وحكاياتها لدى ألمودوفار مليئة بالنساء، أو بنساء ألمودوفار تحديداً، هو حريص حتى على أن تبدأ النساء لديه من عناوين الأفلام وملصقاتها قبل أن يدخل المُشاهد إلى الفيلم وحكايته والبطولة فيه وهي نسائية دائماً. «نساء على حافة الانهيار العصبي» (1988)، «كل شيء عن أمي» (1999)، «تحدث إليها» (2002) وباقي أفلامه، كي لا نعدّدها هنا، من فيلمه عام 1988 حتى اليوم، حيث صار المخرجَ الذي نعرفه اليوم، مطوّراً في أسلوبه.
في سياق اهتمام ألمودوفار بالنساء في أفلامه طوّر هويّته السينمائية، حيث شكّل أسلوبه الخاص: التصوير بألوان كاملة (تيكنوكلر) متباينة وبيّنة مرفقاً بتركيزه على الحب بشتى أشكاله لدى النساء، وحالاتهن وأمزجتهن المتنوعة، النساء عنده متميزات وقويات ومستقلات، وذلك بعد تركه للمرحلة الباكرة من حياته السينمائية، إذ ركّزت أفلامه القليلة الأولى على الفضائحية والإثارة والحياة التحتيّة (الأندرغراون). الانتقال إلى النساء كعنصر أساسي في أفلامه لا يتعلق بشغفه بهن ولا بمثليته فحسب، بل وأساساً بجانبه الحكائي والإبداعي، ككاتب وسينمائي، فالنساء يحكين أكثر من الرجال، لديهن ما يمكن أن يجذب صانع أفلام أكثر من الرجال، يقول «إن مشيتُ يوماً في الشارع ورأيت أربع نساء يتكلّمن، فأنا مستعد لإعطائهن… لا أعرف ماذا، 25000 بيزيتا لكل واحدة منهن كي أسمع ما يحكون، ومن هذا الحكي أستطيع أن أصنع قصة».
لا يمكن لوثائقي واحد بخمسين دقيقة أن يقدّم «كل شيء» عن نساء ألمودوفا، فدراسة نسائه هي ذاتها دراسة أفلامه، كما أن ألمودوفار لم يقدّم «كل شيء» عن أمّه، في فيلمه «كل شيء عن أمي» الذي استعار منه الوثائقيُّ اسمه. لكنه، كما كان فيلم ألمودوفار مقدّمة لنعرف نظرته للأم، مقدمة تكملها باقي أفلامه، سيكون الوثائقي هذا مقدّمة لعالم ألمودوفار النسائي، تكمله مشاهدةُ أفلامه. إذ لا مثيل له في السينما، كما أن لا مخرج آخر يتمتّع بما قيل في الوثائقي عن ألمودوفار، بأنّه ليس «مخرجاً للنساء» بل هو «المخرج» الخاص بالنساء.