تعال واملأ الكأس

هل يمكن للخوف أن يشجع الأخلاق؟ هل يمكن أن يكون الإنسان أخلاقيا أو المجتمع بأكمله أخلاقيا وهو تحت مظلة الخوف؟ تقول الدراسات الأنثروبولوجية إن الكثير من القيم الأخلاقية لربما بدأت من حاجات بيولوجية ، أهمها حاجة البقاء واستمرار النوع. مثلًا، وضع البشر قوانين تنظم إغاراتهم على بعضهم بعضا أو تحد من القتل أو ترتب عملية توزيع الموارد ليس بسبب أخلاق إنسانية رفيعة أو بدفع من مبادئ العدالة والمساواة، إنما في البداية كان الواعز «بقائي»، كان الهدف حماية النفس مما كان يتطلب نوع من التنظيم الذي ظهر في أشكال مختلفة من القوانين ومن ثم المبادئ الإنسانية المتطورة.
لكن السؤال يبقى، هل يمكن أن تنطبق الحاجة الملحة ذاتها للبقاء والحفاظ على النفس على كل حالات التنظيم الأخلاقي؟ لا تَقتُل حتى تُقتًل، لا تَعتدي حتى لا يُعتدى عليك، لكن كيف يتم التحريض على الدوافع النبيلة الأعلى؟ لِمَ يترك بعض الناس مواقع راحتهم من أجل مساعدة الآخرين؟ كيف يمكن للتبرع بالدم مثلا (هذا المثال المفضل للمفكر الراحل كريستوفر هيتشنز) أن يكون مُرضيًاً بل ومُسعِداً للمتبرع في حين أنه لا يعود عليه بمردود بيولوجي مباشر؟ يقول العلماء إن العقل والوعي الإنسانيين قد تطورا بشكل خارق على مدى ملايين السنوات الماضية حتى وصل وعي الإنسان للدرجة التي أصبح عندها يُسائل نفسه عن نفسه، عن سبب وجوده بل وعن سبب امتلاكه لهذا الوعي الذي كثيراً ما يعذبه بتساؤلاته. الإنسان هو الكائن الوحيد المؤثر في بيئته بشكل مباشر وهو الوحيد الذي يُسائل نفسه حول سبب وجوده وهو الوحيد الذي يتغير عبر الزمن ويغير محيطه.
هنا يلح السؤال، عندما نصل للمبادئ الإنسانية العليا والقيم النبيلة المتطورة هل يمكن أن يتم التحفيز عليها بالطرق القديمة ذاتها؟ أي هل يمكن الإيعاز بها اليوم بدافع الخوف من الجوع أو الرغبة في الحماية من القتل؟ هل بعد التطور العقلي الهائل الذي ألم بالعقل البشري لا تزال أداة الخوف أو أداة الترغيب ناجعتين في تشكيل قيم ومبادئ الإنسان؟ لربما لا نزال نرى تأثير الأداتين الى حد كبير خصوصاً في الحيز الديني والذي يعتمد في مجمله على فعل الخير (كما يراه هذا الدين) رغبة في الجنة وترك الشر (مرة أخرى من وجهة نظر هذا الدين) تجنباً للنار، إلا أن المذهل هو تأثير الكثير من الأساليب الساذجة في تشكيل عقول ومن ثم تصرفات البشر. في هذا الزمن ومع التطورات التكنولوجية والعلمية والأخلاقية الهائلة، لا نتوقع أن التهديد بحرق أو الترغيب بجنة بمتعها الحسية سيكونان كافيين لتسيير جموع الناس، دع عنك الأساليب الطفولية الساذجة المتبعة في هذين التهديد والترغيب. على تويتر أرسل لي أحدهم فيديو كارتوني قصير يصور رجلا يكاد يسقط في هاوية سحيقة تدور بسرعة هائلة فيمَ هو يصارع الريح العاتية التي تدفعه دفعاً للهاوية. وحين علقت على سذاجة الفيديو ذكر المرسل أن هذه الرسالة تذكير بأن «الدنيا فانية وأن الدنيا متاع الغرور.» هنا يلح السؤال، هل فعلا ينقل الفيديو هذه الرسالة للجيل الجديد الذي تبدو حياته الآن ممتدة بل ونوعاً ما مخلدة بوجودهم الإلكتروني المستمر؟ هل لا يزال التخويف بهذه الصورة البدائية، التي تقترب من تصوير مشهد من إحدى الملحمات البشرية القديمة جداً مثل جلجاش أو الشهنامة، مؤثر في جيل يتواصل عبر القارات بالصوت والصورة، يمشي فوق القمر ويعيش على محطات فضائية خارج هذا الكوكب؟ هل تطور فينا كل شيء ما عدا شعور الخوف ومحفزاته ومشاعر الرغبة ومثيراتها، بقيت كلها كما هي لتذكرنا ببدائيتنا وسذاجتنا ولربما سخرية أقدارنا؟
إلا أن السؤال الأهم يبقى هل هناك أخلاق حقيقية ناتجة عن الخوف أو الرغبة؟ هل أنت تقي وأنت تمتنع عن شرب الخمر مثلا خوفاً من النار؟ هل أنت ورع وأنت تصلي بانتظام رغبة في الجنة وحور عينها؟ هل هذان الواعزان يجعلان منك إنسانا أخلاقيا تستحق الثواب؟ كيف يتفق المنظور الأخلاقي الملح في الدين وهو يرتبط بشكل أساسي بالتخويف والترغيب؟ لِمَ يكافأ إنسان على امتناعه عن شرب الخمر مثلا وهو ما امتنع إلّا لينال الخمر في الجنة؟ هل بنى هذا النظام إنسان أخلاقي؟ هل يستحق هذا الخائف الطامع الثواب؟ أبعد آلاف السنوات من الحضارات الإنسانية لازال سلاحنا الأفضل التهديد بحفرة وزوبعة ووحش وحريق والترغيب بامرأة وكأس وحديقة غناء؟ غريب هو جنسنا البشري، يجر بدائيته نحو حضاراته، ويصبغ حضاراته ببدائيته، ويحلم ويحلم بخلود ليس من نصيبه، فإلى أين سيصل هذا الجنس وهل ستتطور في يوم مشاعره الغرائزية البدائية؟

٭ مقدمة إحدى رباعيات عمر الخيام

تعال واملأ الكأس

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمار ابراهيم - استراليا:

    وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ
    العدل الرباني يأمر بأخذ الحق
    وإن لم نفعل بما يأمرنا الله به لذداد القاتل قتلا وجرما ولفسدت الارض ومن عليها وإن شاء خسف الله بنا الارض.

  2. يقول omar..jordan:

    هل يمكن للخوف ان يشجع الاخلاق؟؟.. نعم بالتاكيد .. فالاخلاق هي القوانين اي روح الماده او ال software للماده .. والخوف (شعور روحي) او الاحترام (وهذا ايضا شعور روحي) يرفعان من حسن سير (حياة) الماده او حركتها … فالله يريد للماده (الارض وما عليها) ان تسير بشكل سليم بقيادة الروح لها (خلافة الله في الارض) .. بغض النظر ان كانت الروح ستعمل من منطلق خوف او من منطلق احترام .. مثلا (اتيا كرها او طوعا قالتا اتينا طاعين) .. ولهذا فمن واقعية وموضوعية المصحف الشريف ان اول سورة فيه تبدا باية (الم) .. سواء قالوا ا ل م او لم يقولوا فان طريقة الوحع تبدا من احساس (ا) الى المخ (م) .. فمثلا وبصراحة بالنسبه لي فانا اتقلب ما بين الخوف والاحترام في مجال بناء اخلاقي والتمسك بها ..

  3. يقول رياض- المانيا:

    قال تعالى في محكم التنزيل، حيث تم ربط انكار وجود الله والدعوة لعبادة غيره، سواء اكان المعبودين من دونه اشخاص او افكار او دين الخ. وصم هؤلاء المفترين بصفة الجهل ، وهذا الاحظه عندما اتحاور هنا مع علية القوم ، فيبقى هؤلاء عاجزين عن اجابة اسئلة بسيطة، الفرق بين اللادينيين هنا في الغرب والشرقيين المستغربين، ان الغربيين يعترفون بالحق ان اثبت لهم، ومن عندنا يجادلون من اجل الجدال ويعتبرون الاعتراف بالحق اهانة شخصية وتقليل من الشأن، ولهذا يستمرون بطحن الماء وبناء قصور الافكار البالية على امواج البحار الهائجة فما تلبث ان تخر من القواعد. جمعة مباركة للجميع
    (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (67)

  4. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    “الإنسان يعيش داخل عقله”_ و بعد ذلك داخل هذا العالم

  5. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    لا ادري ما سر كثرة النصوص اليوم في كثير من المداخلات، و دعوة المقال واضحة لنقاش فكري محض.
    .
    ارحمونا من النصوص رحمكم الله و الا كتبت لكم سورة البقرة كاملة اليوم :)
    .
    ان لم تكفي نزيد آل عمران، كل شيئ على بعد نقرة بالفأرة. ليست بطولة طبعا.

    1. يقول ام نزار .المغرب:

      صحيح اوفقك الراي قهرونا بكثرة النصوص في اغلب المداخلات ..نحتاج لنقاش فكري
      مداخلة Uk كانت في الصميم

  6. يقول أحمد - لندن:

    د ابتهال

    أسئلتك و مقالاتك تعتمد سياسة خلط الأوراق و اسمحي لي هذا اُسلوب غير موفق في الطرح.

    الخوف هو أهم عامل من عوامل استمرارية الحياة. الأخلاق هي لتنظيم الحياة بين البشر و مع بيئتهم التي يعيشون فيها. السمو الإنساني موجود لدى فئة معينة من البشر و هذا ليس مرتبط بالتطور التكنلوجي او العلمي او بفئة معينة او جنس معين او جنسية مهينة من البشر.

    مثلا العلم أوجد الأسلحة النووية و الكيميائية و التقليدية. هل يمكن ان نقول ان العلماء كلهم إنسانيين و ذو أخلاق رفيعة؟ الواضح انه كلما ازداد ذكاء الانسان ازداد الشر في المعمورة.

    ما الذي يدفع أمريكا الان لتحريك قواتها و اسلحتها لتحارب كوريا الشمالية. هو الخوف من اجل البقاء. ما الذي دفع جيوش العالم لتدمير العراق ؟ هو الخوف من مستقبل العراق. ما الذي يدفع أوروبا لمحاربة تركيا الان؟ و لماذا لموتخارب تركيا عندما كانت دكتاتورية عسكرية لعقود؟

    ليس دعوة للإسلام و لكن ادعوك ان تقرأي خطبة الوداع بتمعن و بدون مشاعر معادية للإسلام. اعتبري لوهلة ان من كتب هذه الخطبة هو فيلسوف و ليس نبي. ادعوك لقراءة أوامر محمد بن عبد الله للجيوش في الحرب، لا تقطعوا شجرة لا تقتلوا أسيرا لا تقتلوا النساء و الأطفال لا تسمموا بئر ماء الخ . القران الكريم يقول من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا.
    الدعوة الاسلامية هي لتكميل مكارم الأخلاق. و هذا طبعا لا يعني و لا يبرر الانحطاط الذي نحن عليه انحطاط في كل شي حتى في الفهم العام و تطبيق مبادئ الدين في حياتنا.

  7. يقول ابن الجاحظ:

    …” يارب هل يرضيك هذا الظمأ والماء ينساب أمامى زلال “…

  8. يقول سلام عادل(المانيا):

    سيدتي الفاضلة ان الخوف هوسبب وجود الاديان فلقد خاف الانسان الاول من البرق والرعد والامطار والنار والريح فاوجد لكل تلك الضواهر اله يتوسل اليها وكانت سيدة تلك الضواهر هي الشمس التي تعطيه الدفء والامان من خوف الظلمة فكانت سيدة الالهة لكل الشعوب القديمة.فالخوف هو الغريزة الاصيلة التي تحركنا في كل الامور.فالخوف من الرسوب يجعلنا ندرس ونجتهد ليحل محله النجاح والخوف من الفقر يدفعنا للعمل لكي نكون اغنياء او على الاقل لا نحتاج الاخرين لكي لا تمتهن كرامتنا والخوف من ركوب الطائرة يجعلنا نطول المسافات ونضيع الوقت علينا والخوف متلبس فينا اينما نذهب.اما بخصوص العقاب والثواب والجنة والنار فالمتديينين لديهم كثير من السبل والطرق الملتوية لتجنب النار فهناك الغفران والكفارة التي تغفر كل الذنوب

  9. يقول عبد الرزاق مغربي مقيم بألمانيا.:

    باسم الله، في الحقيقة الدكتورة قد أصابت في العديد من النقاط بالموضوع.لكن قولها في الدين من ناحية الترهيب و التهديد، الجنة والنار بأنها أساليب طفولية سادجة، قد قالها من قبل (إينشتاين) عندما سألوه عن الدين فرد بأنها أشياء للأطفال، حتى وأنه في أخر أيامه تراجع عن مثل هذا الكلام. قال الله سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) عندما يصل الإنسان إلى علم نافع يخشى الله من فعل الشر ضد البشر، فيزول الخوف من البشر، فيصبح صالح في المجتمع، وقلبه مطمئن مع الخالق.

  10. يقول omar..jordan:

    التطور والكون !!.. ما هو الكون ؟؟.. اليس هو في النهايه حيز (مجموعة وجودات) من (الحياة والموت) يتبادلان الظهور والاختفاء وفق قوانين … الان .. هذه القوانين هي بالمحصله من تصنع (الزمن) زمن الحياة وزمن الموت .. وعليه فان القانون هو الذي يصنع الزمن اي ان القانون هو الذي يصنع التطور .. اي لا يوجد عشوائيه …. هذا اولا …الان ثانيا .. (الزمن هو وعاء الكون) .. القانون يصنع الزمن والزمن هو الذي يحفظ حالة الحيز ما بين الحياة والموت … اي ان الزمن لا يخلق الحاله بل هو مجرد حافظ وعاء لها .. والدليل على ذالك هو وجود حالة الموت وحالة الحياة في ان واحد .. اقصد وجود الشمس والقمر والنجوم والارض والتراب والماء والهواء والفراغ والنبات والحيوان في وقت واحد .. الله حي قيوم على الحياة والموت والقانون والزمن … فنحن عندما خلقنا الله من تراب (معادن) فهذا لا يعني ان التراب تطور الى انسان .. والانسان لا يخلق الحيوان المنوي والبويض ويطورهما الى خليه ملقحه بل هذا خلق من الله لا من الانسان الحاضن لفعل اطوار الخلق ..

    1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      @omar..jordan
      .
      اطروحة رائــــــــــــــعة.
      .
      انها الجدلية يا عزيزي، جدلية كل شيئ، هذا قانون الخلق عند الله تعالى و هي اساس الكون و الحياة.
      .
      ان كانت هناك جنة (لان هي مسالة ايمان)، فهي حتما في كون آخر بقوانين اخرى بدون جدلية على الاقل، بما ان هناك حياة ابدية. ربما سينكمش الكون، ثم ينفجرمرة اخرى، لكن هذه المرة بمواصفات اخرى لما نسميه زمن، الدي خلق بدوره مع بداية الانفجار، انطلاقا من لا زمن قبل الانفجار. و انطلاقا من اطروحتك، اذا وجب وجود قوانين اخرى للكون، لان، حسب اطروحتك، القانون هو من يصنع الزمن. نظرية البيغ بانغ تتماشى الى حد بعيد مع اطروحتك الرائعة، و مع خلق الزمن من لا زمن. سبحان ربي العظيم.

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية