وسائل وآليات التغيير، ليست مجرد فنيات وتقنيات، وإنما هي عملية سياسية وفكرية من الدرجة الأولى، تتضمن عددا من المفاهيم المستخلصة من التجارب الملموسة. وبالنسبة لتجربة السودان، فهذه المفاهيم تشمل: الإضراب السياسي والعصيان المدني والانتفاضة السلمية والانتفاضة المحمية والعمل المسلح والحصار الدبلوماسي والحوار والتفاوض. ومن الطبيعي أن تتباين الرؤى، داخل قوى التغيير، بما في ذلك القوى المنتظمة في تحالفات سياسية، حول هذه الآليات، فهذا يدعو إلى الانتفاضة، وذاك يتبنى الحوار والتفاوض، وثالث يتمسك بالعمل العسكري. لكن، بمزيد من الجهد والمثابرة، يمكن في نقطة ما توحيد هذه الرؤى المتباينة، أو، على الأقل، إبداع كيفية تكاملها، أي يكمل كل منها الآخر ولا يفترض نفيه، لأن في استمرار هذا التباين تهديدا لوحدة قوى التغيير وهزيمة لقضيتها. وهكذا، فإن رفض تصادم وتناقض تكتيكات وآليات ووسائل التغيير، والتمسك بضرورة وموضوعية التكامل وجدلية العلاقة بينها، هي فكرة محورية لنجاح عملية التغيير. مثلا، من الصعب، بل ومن غير الممكن، طرح العلاقة بين آليات العمل السلمي والآليات الأخرى بطريقة «مع أو ضد»، أو «يا هذا يا ذاك». فالقوى المصطرعة تسعى لحسم الصراع لصالحها، متبنية آليات عملها، في الغالب حسب حدة الغبن الاجتماعي/الاثني، وحسب الآلية التي يتبناها الآخر، بما في ذلك آلية التجاهل المستمر وعدم الاعتراف. لذلك ليس غريبا على أهل المناطق المهمشة حمل السلاح، بينما يفترش أهل المناصير الارض، ويلجأ ملاك الاراضي في الجزيرة للقضاء، ويتظاهر طلاب الجامعات. ومن ناحية أخرى، ورغم ان آلية النضال المحددة تخضع لطبيعة الصراع في المنطقة على أرض الواقع المعاش، فإن ردة الفعل الحكومي، عادة، لا تخضع لأى تقديرات. فهي عنيفة في كل الاحوال، سواء تجاه الطبيب علي فضل الذى ظل يقود نضالا سلميا حتى لحظة استشهاده تحت التعذيب، أو الطبيب خليل إبراهيم الذي كان يقود تمردا مسلحا حتى لحظة استشهاده في الميدان.
ومهمة خلق آليات التغيير الناجعة، لا يمكن أن تقوم بها قوى سياسية دونا عن الآخرين، مهما دُعمت من قاعدة جماهيرية واسعة أو بلغت من جسارة. ولما كان بناء دولة العدالة في اقتسام السلطة والموارد، هو الهدف المشترك بين القوى السياسية المختلفة، فمن الطبيعي أن تتكامل أطروحاتها حول آليات التغيير حتى تنتج فعلا يخترق حاجز الإختلاف والتباين السطحي. وإذا كان هناك فعل سياسي معارض حقيقي تحت مظلة أي آلية للتغيير، فانه لن يصيب أي فعل آخر تحت أي آلية أخرى بالسكتة القلبية، بل سيدعمه ويفتح له فرصا جديدة. مثلا، أي تسوية سياسية يفرضها تيار الاصلاحات، وتحدث خلخلة للنظام، ستكون خطوة جيدة في اتجاه تحقيق هدف استعادة دولة المواطنة الديمقراطية. كما أن تعدد آليات التغيير لا يعنى تشتت الرؤى، بقدر ما يعكس إهتراء الغطاء الذى يتدثر به النظام. فها هو يترنح ما بين عوامل الاستقرار وعوامل الانهيار ولا يعرف كيف يتعرف على صورته المدبلجة بعد سقوط كل دعاوى الدين في برك الفساد الآسنة. إن التكامل بين آليات التغيير المختلفة، والذي قد يتم بترتيب أو بدون ترتيب، سيدفع الناس إلى التحرك في كل الاتجاهات، ليداهموا ما دنسته وخربته السلطة الشمولية، فيوسعونه تنظيفا وتعديلا، حتى تخرج المبادرة السياسية لتعلن عن إرادة شعبية قوية تشل حركة أي عائق للتعايش السلمي وللنماء والتقدم.
البعض يخلط بين أهداف التغيير ووسائله، فيعبر عنهما وكأنهما كتلة واحدة، وهما ليس كذلك، رغم لا انفصام لعُرى ارتباطهما. وهذا الخلط، يسبب الالتباس، محدثا صراعات جانبية لا طائل منها، وإهدارا للجهد والطاقات والوقت. أنظر إلى المماحكات حول إسقاط النظام أم تغييره..!، في حين من يتحدث عن إسقاط النظام لا يتحدث عن وسيلة بل عن هدف، صحيح هو في حد ذاته وسيلة لتحقيق غاية أكبر، أما الوسيلة فهي الكيفية التي يتم بها الإسقاط هذا. والمتحدث عن التغيير، يتحدث عن هدف وغاية، أما الوسيلة فهي كيفية إنجاز هذا التغيير. وإذا اقتربنا أكثر نحو الملموس، نجد أن الأهداف المعلنة للتغيير، والتي تتبناها كل القوى الساعية للتغيير، تدعو لتفكيك دولة الطغيان والإستبداد لصالح فتح الطريق لإعادة بنائها على أساس لا مركزي، يراعي التعدد الإثني والديني والثقافي والنوعي، ويلتزم العدل في اقتسام السلطة والثروة… ولا أعتقد أن هنالك عاقلا يرفض أن تتحقق هذه الأهداف بأي من وسائل التغيير المتاحة، علما بأن شكل ومحتوى البديل الناتج من عملية التغيير، سيتحدد إلى درجة كبيرة بالآلية أو الوسيلة التي سيحدث بها هذا التغيير. فالطابع الجماهيري الانتفاضي للتغيير، يعني ترسيخ الحريات والديمقراطية والسير قدما لتفكيك الشمولية ودولة الاستبداد. والطابع غير الجماهيري لإحداث التغيير، انقلاب مثلا أو عمل مسلح، تكمن داخله إمكانية فرض الوصاية واستمرار مصادرة الديمقراطية وسرقة أحلام الجماهير لصالح المجموعة العسكرية. بينما آلية التفاوض تتطلب القبول باحتمال أن النظام القديم، أو أحد مكوناته، بشكل أو بآخر، سيكون جزءا من البديل الجديد، كما تتطلب التحسب لإمكانية إعادة إنتاج الأزمة، ومن ثم منع ذلك. أعتقد بهذا الفهم، وبالنظر إلى إقتراب هذا التنظيم أو ذاك من الأهداف أعلاه، يمكننا تفهم ما يتبناه من وسائل ونبحث في كيفية تكاملها مع وسائلنا، دون الانزلاق إلى محاكمة الوسائل، أو تفتيش الضمير وتوزيع الاتهامات الجزافية أن هذا «غواصة» وذاك «منبرش»، والآخر يسعى إلى صفقة…!، وما الحكم، من قبل ومن بعد، إلا للشعب السوداني. وتبقى الإشارة إلى أفضلية آلية الحراك السلمي الجماهيري لإحداث التغيير المنشود، على ما عداها من آليات، لأسباب بديهية ومفهومة. وهي آلية لا تضع نفسه في أي مواجهة أو تناقض مع الآليات الأخرى، وإنما تسعى للتكامل معها للسير معا في وجهة الطريق السلمي الديمقراطي الجماهيري لإنجاز التغيير.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد