للعديد من المدن العربية تاريخ عريق. ويكفي أن نتصفح مجلدات تاريخ بغداد ودمشق ليتبين لنا ذلك بجلاء. كما أن الكثير من هذه المدن التاريخية عرفت برمزيتها ومميزاتها. فهذه دار السلام، وتلك الفيحاء أو الشهباء، لكننا حين نزور هذه المدن التاريخية فإننا قلما نعثر على آثار ذاك التاريخ ومعالمه. فلا هي مدن أصيلة يفوح منها عبق التاريخ، ولا هي عصرية تنم عن اتصال حقيقي، لا مزيف، بالعصر. لم يضِع من مدننا، باستثناء مدن قليلة جدا (مثال فاس) البعد التاريخي القديم فقط، فحتى المعمار الاستعماري القريب الذي نجده في بعض المدن العربية عرضة للتلاشي.
لقد صارت مدننا بلا تاريخ عريق ولا حديث. بل نجد قرى كبرى بلا ملامح ولا هوية. لذلك لا نقدم للمواطن أو العابر سوى الطبيعة البكر قبل أن تدنسها يد الفساد، أو الآثار التاريخية التي قاومت الزمن (الأهرام مثلا). يكفي أن نقارن ما فعلته إسبانيا بالتراث العربي الأندلسي، وما قمنا به حيال تراثنا المعماري لنرى الفرق الشاسع بين مدنهم ومدننا. إن ذهنية الفساد والرداءة لا علاقة لها بالصلاح والجمال. كما أن لا علاقة لهذه للذهنية نفسها بالتراث وإن ادعت الأصالة، ولا بالمعاصرة، وإن زعمت أنها مع الحداثة.
يكفي المرء أن يزور أي عاصمة أوربية ليجد الاهتمام الكبير بما يتصل بالتاريخ والهوية. ومن يزر بيكين، ولو لمدة شهر كامل، لن يتمكن أبدا من الإحاطة بكل معالمها التاريخية، أو ينجح في إخفاء إعجابه ودهشته بالمجهود الذي بذل في سبيل صيانتها وجعلها فضاء للاطلاع على الحقب التاريخية المتعددة التي تصل الماضي بالحاضر، وتقدم لنا صورا عن الحضارة الصينية الراقية. حتى الغابات تحضر بعمقها التاريخي الذي تراه مسجلا على شجرة معمرة بقرون، وهي محملة على أركان تجعلها تقاوم الزمن؟
سبق أن كتبت عن ضريح ابن بطوطة في مدينة طنجة، وأشرت إلى أن زيارتي القديمة إلى طنجة جعلتني أتأسف على الإهمال والجحود والإنكار الذي يطبع علاقة مدننا برموزها وآثارها. وقرأت منذ مدة ليست ببعيدة عن الاهتمام الذي أولي إلى قبر ابن بطوطة على إثر إصرار وفد صيني على زيارته. وقبيل أيام قلائل ولدت فكرة إقامة تمثال لابن بطوطة على إثر لقاء ضم المجلس الجماعي لمدينة طنجة ووفد من السفارة الصينية بالمغرب حيث بين المستشار الثقافي للسفارة الصينية أن هناك تمثالا لابن بطوطة في إحدى المدن الصينية، وأن الصين مستعدة لإقامة صورة مماثلة لهذا التمثال في مدينة طنجة.
لجأت عمدة مدينة طنجة إلى مراسلة المجلس العلمي المحلي لاستصدار فتوى حول إمكانية نصب تمثالين، أحدهما لابن بطوطة، والآخر لبطل الأسطورة الإغريقية هرقل. ولقد حولت الرسالة إلى المجلس الأعلى لإصدار الجواز أو المنع. لقد خيضت نقاشات كثيرة حول التصوير والتجسيم في التراث العربي الإسلامي، وما تزال القضية مطروحة إلى الآن، ونحن نسمي العصر الذي نعيش فيه بعصر الصورة.
إن شوارع مدننا العربية مليئة بالصور الإشهارية، وبعضها بصور الرؤساء والحكام، في أحجام متفاوتة. كما أننا نجد في بعضها حضورا لتماثيل «الزعماء» في ساحات عمومية. وكان سقوط تمثال صدام حسين دليلا على سقوط نظام، وأفول حقبة تاريخية. كان تمثال الماريشال ليوطي يحتل موقعا هاما في ساحة الأمم المتحدة في قلب الدار البيضاء. بعد الاستقلال طولب بإزالته لأنه يرمز إلى الاحتلال، وفعلا تم نقله إلى فرنسا في أوائل الستينيات، ثم أعيد ليظهر مجددا في واجهة بناية القنصلية الفرنسية بالدار البيضاء. حين نقارن هذه الذهنية القائمة على الإبادة والإزالة عندنا بما نجده عند الغربيين يتبين لنا الفرق بين الذهنيتين. لقد طردت إسبانيا المسلمين من جزيرتها، ولكنها أبقت على الفضاء العربي ـ الإسلامي، وها هي الآن تفتخر به، وتقدمه على أنه تراث إسباني.
كل الدول التي تعاقبت على المغرب كانت تعتمد إبادة المعالم المعمارية السابقة عليها، وتعمل على تقديم بدائل عنها تتعرض بدورها للزوال مع ظهور دولة جديدة. لذلك لا عجب أن نتساءل ما بقي من تراثنا الفضائي؟ وماذا يمكن أن نقدم للسائح أو المواطن الذي يعيش بلا تاريخ؟ أرى في هذا النطاق أن القاهرة ظلت تمثل استثناء نسبيا، حيث أنها تتيح لزائرها التعرف على حقب متعددة من تاريخها من الفراعنة إلى الحقبة الإسلامية فالمملوكية والتركية والفرنسية. لكن الإهمال وعدم الصيانة يجعلها غير ذات قيمة، لأنها لا تبدو للمرء على الوجه الذي يضفي عليها جمالا، ويظهرها على الهيئة المناسبة.
إن تجلي التاريخ للأجيال المتعاقبة، من خلال المعالم التاريخية والرمزية للفضاء الذي نعيش فيه يقوي الصلة بالحاضر، ويجعله مفتوحا على المستقبل لأنه يؤسس لعلاقة قوية مع الوطن. وحين يتشكل وعي الطفل، في غياب الذاكرة الجماعية، على معالم غير واضحة للعيان تضعف علاقته بما يحيط به. أتذكر كيف كانت صور الكتاب والشعراء المصاحبة للنصوص في الكتاب المدرسي «اقرأ» لأحمد بوكماخ من بين العوامل التي جعلتنا نهتم بالكتاب وبالثقافة، وكان ذلك حافزا للارتباط بالعوالم التي أسس لها أولئك الكُتاب. ماذا يضير البيضاويين بقاء تمثال الماريشال ليوطي في قلب الدار البيضاء بدل أن يدخل القنصلية الفرنسية؟ ماذا يجدي محو الذاكرة التاريخية؟ إنه «تمثال» في المنظور الإسلامي. ولا شك أن الذي أقامه لم يفعل ذلك بهدف التطاول على الذات الإلهية بزعمه أنه قادر على الخلق. كما أنه لم يقدم على ذلك إلا بهدف محدد وهو تسجيل حدث تاريخي له رمزيته الخاصة. وما إرجاعه إلى القنصلية سوى دليل على تمجيد هذا التاريخ. إن المغاربة سوف لا يقدّمون له القرابين، أو يحرقون عليه البخور، أو يقدِمون على عبادته. وما يمكن أن نقوله عن تمثال ليوطي، نقوله أيضا عن تمثال صدام حسين. أليس بقاؤه في محله، بدل إزالته وتحطيمه، دليلا على أن البقاء لله وحده، وأن كل من رآه سيستخلص العبرة التي يقدمها التاريخ للجميع. هذا علاوة على كون الفضاء الذي يترك فيه يظل ملكا للجميع، وليس لمن سيقيم على أرضيته سوقا تجاريا، أو تجمعا سكانيا؟
بماذا يمكن أن يفتي المجلس العلمي المغربي حول إقامة تمثال ابن بطوطة؟ وماذا يمكن لمجلس طنجة أن يفعل تمجيدا لرموز المدينة وهي تتجدد لتصبح محل استقطاب اقتصادي وسياحي؟ لا يتصل هذا السؤال في جوهره بطنجة فقط، ولكنه يتعلق بكل المدن المغربية والعربية وعلاقاتها بتاريخها وحاضرها ومستقبلها. لقد تغيرت النظرة إلى الصورة والتمثال، ولم تبق لهما تلك الوظيفة التقديسية التي كانت في العصور القديمة. وما نعاينه في السينما، والمسرح، والرسم… خير دليل على ذلك. لقد رفض أفلاطون «الحوار» في الملحمة لأنه محاكاة من درجة ثانية لعالم المثل، عكس ما نجد عند أرسطو.
إن للصورة وللتمثال وظيفة جمالية وتربوية، وهناك وسائل شتى لممارستها، سواء تحقق ذلك من خلال التصوير أو الخط أو التشكيل وبدل ممارسة التلوث الإشهاري الذي يملأ شوارعنا، فإن تزيين مدننا برمزيات ذات بعد ثقافي وتاريخي كفيل بربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وجعل الأجيال تعتز برموزها الوطنية والعربية، وإلا فإنها ستبحث لها عن رموز لا علاقة لها بثقافتها وتاريخها وهويتها.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
انه زمن الهمجية والجهل والتخلف العقلي لقد دمرت داعش اهم رموز حضارة ما بين النهرين وتدمر التي كانت تحفة تاريخية في قلب الصحراء السورية والتي سحرت الباب الغرب، والهمجي القاتل الكيماوي قصف قلعة حلب الشهير، والقلاع الاخرى المنتشرة في الاراضي السورية، وأبوه المقبور دمر حماة وكل معالمها التاريخية، لقد شوه هذا النظام المجرم دمشق ومعالمها وملأ سورية بتماثيل المقبور وأولاده وصورهم وكأنهم آلهة، لقد حولوا منازل دمشق الاثرية القديمة الى مطاعم وفي فترة طويلة كانت قلعة دمشق سجنا للمجرمين والسياسيين،…
ان اول ما يصدم زائر قصر فرساي في فرنسا هو تمثال لويس الرابع عشر في مدخل القصر وهو على حصانه مع ان الثورة الفرنسية قامت ضد الملكية واني وليت وجهك في المدن الفرنسية ستجد معالم الملكية ورموزها، وكذلك الامبراطورية النابليونية ويفتخرون بها حتى المفروشات القديمة التي تنسب الى لويس فلان ولويس فلان، اما نحن فتمثال ابن بطوطة يحتفي به الصيني ونحن نهمله بل ونحطمه والمسألة لا تتعلق بفتاوى دينية لقد قرأت رواية لواسيني الاعرج يتحدث فيها عن الاهمال الذي لحق بغار كان قد لجأ إليه سرفانتيس كانت اعظم رواية في التاريخ الانساني دون كيشوت وكيف تحول الى مكب للنفايات وشهدت شخصيا ازالة تمثال بورقيبة من ساحة تونس مع انقلاب بن علي وبالطبع ازالة تمثال صدام حسين، حتى ان القذافي نفسه امر بنسف بناء تاريخي في وسط ليبيا يعود للعهد الروماني ما بين لبدة وصبراته لانه حسب اعتقاده انه يرمز لتقسيم ليبيا، ومئات الامثلة في كل مكان في العالم العربي مهد الحضارات….قفا نبكي
و ماذا نقول عن مصر؟! التي تملك ثراء حضاري لا يضاهي، لقد امتدت يد الجهل و الاهمال لكل ما هو تاريخ و تراث -فرعونيا كان او اسلاميا -وو صلت الي حد الهدم و احلال مباني ايه في القبح! و حتي الان تبدو محاولات الاحياء و الترميم فقيره و لا تقوم علي رؤيه ووعي بالقيمه التاريخه، و يكفي ان تمشي في شوارع القاهره او الاسكندريه لتشعر بالحزن و الأسي علي مدن حضاريه غربت شمسها و لا يبدو انها ستشرق قريبا!!
أعتقد أن الاهتمام بالتاريخ وبالمآثر التاريخية لدرس من الدروس التي لم تستطع الدول العربية أن تعطي لها الأهمية في المقررات التعليمية، والدافع نفسي أكثر من ماهو إجرائي، لأن الغرب إبان استعماره للدول العربية أتى بمجموعة من الخطط من بينها: شحن المجمتعات بمجموعة من الأقاويل التي تضعم دائما أقوياء، أي أنهم كانوا دائما هم صانعوا التاريخ، في حين كنا دائما نمثل بالنسبة لهم حتالة التاريخ ولا زمن لنا.
فالدول العربية حين تخلت عن أمجادها مند أقدم العصور فإنها تخلت عن مستقبلها، ولعل هذا سبب تخلفنا وضعفنا. إن التاريخ لضروري آن الأوان أن نعود إليه في حقيقته ليس كما هو مروج إليه.
أنتهز فرصة إعادة إثارة موضوع “تمثال ابن بطوطة” و أعيد اقتراحي لإحداث “متحف ابن بطوطة في طنجة ” يكون في فضائه تمثال ابن بطوطة المهدي من طرف الصينيين (و سيحسم موضوع الفتاوى وعكسها). و أتمني أن يجد هذا الاقتراح صدي إيجابي من الطرف المسئولين و المهتمين و تشجيع من المجتمع المدني المغربي و الدولي و هذا بريدي الالكتروني [email protected]
مشروعي حول إحداث “متحف ابن بطوطة ” في مدينة طنجة أعد منذ 3 عقود لما كنت محافظة لمتاحف القصبة في طنجة .و أعددت كل الدراسات المتحفية و التقنية و اقتراح المكان الذي ما زال مكان تراثي لم يستعمل بعد و لم يتم إنشاء المتحف رغم استغلال الموضوع من طرف وزراء للثقافة و هيئات مغربية و أجنبية وأشخاص من دون تشجيع و دعم المشروع أو التمويل لإحداث المتحف…..
تذكرت تمثال امير الشعراء أحمد شوقي قبل سبعة وعشرون سنةعندما سافرنا الى ايطاليا في حديقة فيلا بورغيزي في روما ىإيطاليا كنا مجموعة من الشباب في مقتبل العمر ممتلئين بلحماس والحيوية والطاقة والطموح و بالقرب من تمثال احمد شوقي صار كل واحد منا يتكلم عن احلامه وتطلعاته ويريد ان يكون له في المستقبل تمثال مثل احمد شوقي،شاب شعرنا وضاع العمر في التشرد والترحال والغربة المشكلة كنا نتأمل ان تتقدم بلادنا و اوطاننا لكن ما حصل هو العكس وخاصةً بعد الربيع العربي الحال والاوضاع الى الاسؤ.