ليس من المبالغة القول إن مستقبل أوروبا الغربية في الأعوام القادمة يتوقف على مدى نجاح قوى اليسار انتخابيا، وتمكنها من الإتيان بحلول عملية للأزمات الكبرى التي تعصف بمجتمعات تعاني جميع أعراض الشيخوخة. وقد تجدد الأمل هذا العام في إمكانية عودة اليسار إلى الفعل السياسي بعد عقود من الانحصار في دور المعارضة شبه الهامشية. فقد حقق اليسار نجاحا واضحا في إسبانيا واليونان وعودة لافتة في بريطانيا. ولعل صعود جريمي كوربن، اليساري الأصيل، لزعامة حزب العمال البريطاني هو الأكثر دلالة على شدة الحاجة الشعبية لبديل يساري إنساني تقدمي بعد عقود من استبداد النيولبرالية المتوحشة. ذلك أن بريطانيا تمثل، منذ حوالي خمس وثلاثين سنة، أبرز حالات الغلو الإيديولوجي الرأسمالي وأقصى حالات الحكم اليميني المنحاز لقوى المال المعولم ضد مصالح الدولة ذاتها، ناهيك عن مصالح المواطنين أو الشرائح الشعبية الضعيفة.
كما تنطوي الحالة البريطانية على عوامل تفسيرية لتطورات اليسار الأوروبي المعاصر بأكمله. ذلك أن «التكيف» الاضطراري (لاعتبارات انتخابية بحتة) الذي أدى في منتصف التسعينيات إلى بروز «حزب العمال الجديد» بزعامة سيىء الذكر توني بلير (الذي بينت مراسلات وزارة الخارجية الأمريكية التي تسربت قبل أيام أنه تعهد لبوش بالمشاركة في الحرب على العراق قبل عام كامل من وقوعها! بصرف النظر عن كل ما تم اختراعه لاحقا من تبريرات واختلاقه من تهديدات) باعتباره مجرد حزب يميني آخر قد أوقع اليسار الفعلي في ما يسميه علم النفس بـ»النشاز المعرفي»، حيث أن الانطباع السائد عن اليسار في بريطانيا منذ ثلاثة عقود هو أنه لم يعد له من دور سوى الدفاع عن الشرائح غير المنتجة ممن يعيشون على نفقات الضمان الاجتماعي (المتأتية من ثمرة جهد العاملين الناشطين). أي أن اليسار، بعد أن كان ناطقا باسم الطبقة العاملة، قد صار ناطقا باسم الفئات العاطلة. فلا عجب إذن أن تدأب الشرائح المحركة للاقتصاد الوطني على التصويت لأحزاب اليمين ويمين الوسط التي تعترف بحق الأفراد في السعي إلى مستقبل اجتماعي أفضل. ذلك أن معظم الانتخابات في الدول الغربية منذ عام 1979 تثبت أن غالبية المجتمع صارت تتوجس من شعار «إعادة توزيع الثروات» لأنها أصبحت ترى فيه كلمة حق يراد بها باطل، أي مجرد ستار لفرض سياسات ضريبية انتقامية تعاقب العامل وتكافىء الخامل.
ولكن المثير هذا العام هو أن صعود اليسار في بريطانيا واليونان وإسبانيا قد قابله انحسار شديد لليسار في فرنسا. وليس المقصود الانحسار على المستوى السياسي. فليس ذلك بالمفاجأة، حيث أن حكم الحزب الاشتراكي برئاسة فرانسوا أولاند لم ينجح لا في أن يكون يساريا ولا في أن يكون يمينيا، رغم كل محاولات التكيف باتجاه الليبرالية على طريقة حزب العمال الجديد. كما أن أولاند ذاته أصبح مقتنعا أنه لن يفوز بالانتخابات القادمة لرداءة سجل حكومته في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. وقد صار هذا واضحا في تصريحاته، حيث يبدو أقل توترا وأقدر على التفاعل مع الأحداث والمواقف بسكينة من فقد الأمل فلم يعد لمخافة الخيبة عليه سلطان.
ليس هذا بالمثير. بل المثير فعلا هو تفرق شمل مثقفي اليسار الفرنسي ومفكّريه منذ بضعة أعوام، وبلوغ التفرق هذا العام حد التمزق الأليم تحت فعل التناقضات في الموقف من أزمة تدفق اللاجئين والمهاجرين. بحيث أصبح من العادي أن تقرأ في صدر الصفحات الأولى للصحف الفرنسية عنوانا يقول: «عدم استبعاد مجموعة من مثقفي اليسار (احتمال) الشراكة مع حزب الجبهة الوطنية (اليميني المتطرف) في بعض التحركات السياسية» (!) ذلك أن بعض مثقفي اليسار قد أصبحوا ينادون صراحة بوجوب قبول حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف باعتباره الحزب الوحيد الذي يدافع عن مصالح عامة الفرنسيين وتطلعاتهم، بل الحزب الوحيد الذي يدافع عن مصالح الطبقة العاملة (بعد تخلي الحزب الاشتراكي عن هذا الدور). كانت هذه المواقف في الأعوام الماضية ملتبسة وكان فيها كثير من اللف والدوران. أما هذا العام فإن أزمة تدفق اللاجئين والمهاجرين، والمخاوف التي أثارتها لدى قطاعات شعبية واسعة، قد حررت بعض المثقفين اليساريين من جميع العقد بحيث صار منهم اليوم من ينادي بأعلى الصوت بأن الجبهة الوطنية إنما هي، في حقيقة الأمر، حزب يساري!!!
٭ كاتب من تونس
مالك التريكي