أيهما كان ضحية الآخر منذ بواكير الخليقة، الإنسان أم الحيوان؟ أم أن الاثنين كانا وسيظلان إلى الأبد ضحية الزمن، وأخيرا الموت؟
شأن أسئلة عديدة تهرب الآدميون من الإجابة على هذا السؤال، لإحساس مزمن لدى البشر بأنهم استخدموا امتيازهم العقلي وتطورهم ليس لقتل الحيوان فقط، بل للتنكيل به، وتحويل جلده إلى أحذية وحقائب، وأنيابه إلى إكسسوارات للزينة واحتالوا عليه، بدءا من أساليب اصطياده حتى استدراجه للتدجين تماما، كما حدث للنمور في يومها العاشر في نصّ قصصي لزكريا تامر، فالنمر أصبح فردا في قطيع الخراف وتخلى عن نمريته تماما، بحيث أصبح يقضم العشب، ويحاول الثغاء، وإن كان روبرت بروك قد ذهب إلى ما هو أبعد من اليوم العاشر، ولعل اليوم الحادي عشر الذي اكتشف فيه النمر اختلافه حين شاهد صورته على صفحة الماء، وانتهى الأمر إلى تصفية الحساب المؤجل مع الراعي وقطيعه.
لكن ما استوقفني مبكرا، هو تلك الحيلة التي اهتدى إليها الفلاحون ليخدعوا بها ثيران السواقي التي تدور برتابة وتصاب بالدوار، فقد عصبوا عيونها كي لا ترى ما حولها، وتتوهم بأنها تسير إلى ما لا نهاية إلى الأمام ولا تدور حول نفسها، وهذا أيضا ما احتال به البشر على ثيران المصارعة، سواء باللون الأحمر الذي يثيرها، أو بالسهام المسممة التي تدوّخها وتقتلها ببطء، بحيث يعلن المصارع انتصاره المجرد من أي فروسية على هذا الحيوان، وقد تكون قصيدة لوركا الشهيرة عن ميخياس مصارع الثيران الذي صرعه الثور مرثية مزدوجة، فهو غذ يرثي صديقه الذي كان أشبه بنهر اُسود في قوته، وتزامن غروبه مع الغسق في الساعة الخامسة مساء، يعاتب الثور على نحو يوشك أن يبرئه من القتل، لكن ما يهمنا في هذا السياق على الأقل هو ثور الساقية، الذي يستمد وهم الاستمرار في الدوران من كونه لا يرى غير ما يريد له صاحبه أن يراه، لأن في هذا المشهد ما يذكّرنا على الفور بما حدث للإنسان ذاته، حين تم استلابه وتغريبه وأخيرا تدجينه، بحيث ينقاد إلى مصيره بلا إرادة، وعلى سبيل المثال فإن رواية «حضرة المحترم» لنجيب محفوظ قدمت نموذجا لموظف يكدح العمر كله ويحاول استرضاء سادته في الوظيفة مقابل الاستمرار فقط، أو الحصول على ترقيات تقليدية، وقد وضع محفوظ إصبعه بمهارة على ما في الوظيفة بمعناها التقليدي من استلاب وتدجين، لأنه عانى منها كما يقول في أكثر من مناسبة، ورغم إنه اشتهر بانضباطه الوظيفي، إلا أنه شعر بالانعتاق عندما أصبح خارجها.
وإذا كان الهدف من تعمية ثيران السواقي هو ألا ترى ما حولها، فإن الهدف من تعمية الإنسان ومصادرة كل ما يمكن أن يصدر عنه من أسئلة قابلة للتحول إلى مساءلات، وفي مقدمتها سؤال الحرية هو تأقلمه مع الشروط التي تحاصره، سواء كان ذلك من خلال تربويات تبشر بالامتثال والقطعنة والتحذير من الاختلاف، أو من خلال الإخضاع بالحاجة، سواء كان ذلك بالتجويع أو الترهيب، وبالتالي الارتباط الشرطي بافلوفيا بين الرغيف وكلمة نعم، ولأن الحيوان سواء كان ثور ساقية أو بغلا ينوء بالأثقال وهو يصعد الجبال ليس لديه من الخيال ما يجعله قادرا على ابتكار أسطورة كأسطورة سيزيف، لهذا يبقى سيزيفياً حتى الموت، وإن كانت هناك حالات نادرة تحدث عنها همنغواي في بعض رواياته عن بغال انتحرت في الحرب العالمية الثانية كي تستريح من الأثقال التي تبهظها؟
العمى المؤقت والمبرمج لثور الساقية هو الضمانة كي لا يسأل أو يصاب بالدوران، لكنه بالنسبة للآدمي حرمانه من الإحساس بجدوى ما يفعل بحيث تصبح حياته كلها يوما واحدا مكررا، ويتولى الروبوت بدلا من الدماغ تسييره، وهناك روايات كتبت عن يوم واحد في أعمار بعض الناس منها رواية لسولجنستين ورواية لستيفان تسفايج تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان «اربع وعشرون ساعة في حياة امرأة»، إضافة إلى «أهل دبلن» لجيمس جويس اقتربت من هذه التراجيكوميديا البشرية، بحيث يكرر الناس أفعالهم إلى ما لا نهاية لأنهم مرتهنون لحاجات عضوية وغرائز، إضافة إلى نظام اجتماعي يفرض عليهم النمذجة والتنميط والقطعنة، سواء كان ذلك من خلال قبيلة أو حزب أو أي تشكيل شعاره الوحيد التنفيذ أولا، وحق الاعتراض لكن بعد فوات الأوان.
وهناك مفارقة ذات بعدين سياسي ولغوي، نادرا ما تنبه إليها من كتبوا عن ظاهرة التطبيع، خصوصا في ما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي، فالفلاحون الفلسطينيون استخدموا مصطلح التطبيع قبل هذا الصراع بزمن طويل، وكان استخدامه حكرا على الحيوان وبالتحديد الحمير والخيول، لهذا يقولون إن المُهر الوليد يحتاج قبل استخدامه لأغراض آدمية إلى تطبيع في امتطائه، أي تدجينه وتغيير مجمل طباعه، ومن يستخدمون هذا المصطلح الآن في النطاق السياسي يفوتهم أن تطبيع الضحية هو استكمال لحيلة استلابها كثيران السواقي، بحيث تدور حول نفسها أو حول الطاحون، كما لو أنها مربوطة بذراع مروحة، وما أن تفقد القدرة على الدروان السيزيفي حتى يكون الساطور بانتظارها.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
مقاربة عميقة الدلالة والتأويل
لكننا اهل العراق اهل ثيران وقد وضعنا لها اجنحة وجعلناها تحرس بوابات المدن . لدينا امثلة معبرة فمثلا نقول : اخذ الشور من راس الثور . والشور هو المشورة . ونقول مثلا آخر ينطبق اليوم على كل بلداننا : من لحم ثوره اطعمه . هذا حال الشعوب العربية من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر ؟ في الستينات خرجت مظاهرة في بغداد تردد : يا بغداد ، ثوري ، ثوري ، خلي قاسم يلحق نوري . المقصود عبد الكريم قاسم ونوري السعيد وليس المالكي الذي له ملك اليمين واليسار وفئ الصغار والكبار .كان المرحوم خليل خوري يردد دائما : لابد من تثوير الشعر العربي لذلك ترجم اشراقات رامبو . ورامبو الذي نقصده هو ارتور الفرنسي الذي ولد عام 1854 في شارل فيل ليزيير وليس رامبو الأمريكي الذي سحر الأخوة اليمنيين فجاؤوا زرافات في افتتاح بيت رامبو في عدن عام 95 متوقعين ان يروا رامبو بطل الأفلام الأمريكية ولكن خاب ظنهم بعدما وصلوا البناية القديمة التي كانت مقر شركة القهوة التي عمل فيها ارتور فتفرقوا خائبين ، وبقينا نحن ، معشر الرامبويين ، فرنسيين وعربا نتحدث في ليال طويلة عن معجزات الشاعر الذي اوصله المرحوم آلان جوفروا الى مرتبة الأنبياء وماكانوا بمتقين .اما البعض فقد احتار في ترجمة عبارة له هي : لابد ان نكون حداثيون فما كان من شاعر عربي الا وان يعتلي المنبر ، وبعد ذكر رامبو بأجمل الكلام البديع الا ان يستشهد ببيت ابي الطيب : ويسهر الخلق جراها ويختصم ومانزل المنبر حتى ارتفع العويل والبكاء وكادت ان تحدث فتنة .لكن شاعرا عراقيا وقف وتذكر احزان ايزابيل والقى انشودة رامبوية باللهجة الدارجية العراقية الجنوبية يقول : آنه محيرة واصفق باليدين لا رامبو قربي ولا فرلين ، فأجهش الناس بالبكاء ولطموا صدورهم وشجت النساء ازياقهن وما انجلت الغبرة حتى وكان نصف الحضور قد اغمي عليهم من شدة الحر والرطوبة العدنية .وعودة على بدء فأن رامبو لم يذكر الثور في شعره وهذا ما يؤلم مترجميه ممن افرنقعوا عن التقاليد الشعرية العربية وصاروا روادا من رواد الشاورمة الشعرية السائدة في شعرنا اليوم ولسان حالهم يقول : الشعر صعب وطويل سلمه . وكل عيد ميلاد وكتابنا بخير . هلولويا