لم تعد العلاقة في المسرح الحديث مع النص تحظى بذاك القدر الكبير من السلطة المركزية المهيمنة التي كانت عليها في تجارب المسرح المتنوعة الاساليب، لعل أبرزها في المسرح الكلاسيكي والواقعي، وحتى تجارب مسرح العبث واللامعقول، التي سادت في أوروبا وأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، كان للنّص فيها حضوره الطاغي، كما في نصوص صموئيل بيكت، يوجين يونسكو، جورج شحادة وجون أوزبورن.
سلطة المتخيل المسرحي
هذا المتغير يأتي بعد أن تشابكت مجموعة من الموجهات الفنية في خلق تجربة العرض، بالشكل الذي أضعف كثيرا ما كان يتمتع به المؤلف من سلطة لصالح سلطة المخرج (مؤلف العرض)، فالصلة التاريخية التي جمعت المسرح مع الأدب لعقود طويلة خضعت إلى بنية علائقية جديدة أخذت النص في مقاربة جديدة بعيدا عن سلطوية ما هو أدبي إلى ما هو فني، بعد أن أمسى المشغل المسرحي بما يفرضه عالمه المفتوح على فضاء واسع جدا من تقنيات سمعية وبصرية، بمعنى أن النصوص في إطار الأدبي لم تعد تملك تلك القوة المهيمنة في تأسيس التجربة المسرحية، بعد أن تراجعت مركزية اللغة الأدبية في خلق المتخيل المسرحي، ولم تعد القاعدة الجوهرية في بناء العناصر الدرامية (الشخصية، الحوار، الصراع، الفكرة، العقدة) بذلك تم اختزال المساحة التي يتحرك فيها النص ليكون مفردة تكتسب حضورها بشكل نسبي، ما بين تجربة وأخرى، ليكون في النتيجة بمثابة نقطة شروع للمخرج/المؤلف وهو ينوي الدخول في مغامرة فنية تتشكل فيها بنية العرض وحضوره. هذا التحول في المسرح الحديث الذي أخذ يفرض جمالياته منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، استدعى من المخرج أن يصحب النص المسرحي المختوم بتقنيات المؤلف الأدبي إلى محترفه الذاتي، ليسلط عليه مشرطه، وفقا لمنطق فني يستجيب لإنتاج العلامة المسرحية في مختبر تجربته الذاتية أثناء التمرين، استنادا إلى ما يضج به التصور الذاتي للمخرج/ المؤلف من تمظهرات سيميائية ذخيرتها فضاء الافتراض وانزياحاته المستمرة أثناء تشكل التجربة، إلى أن تفضي باشتراطات فنية تستجيب إلى فعل التمسرح، مغادرة بذلك قوقعة اللغة الأدبية .
تفكيك اللغة المتوارثة
إن ما يخطط له المخرج في افتراضاته ما هو إلا ّقراءات توليدية للنص تنتج عنها قراءات أخرى تجيء بعد انتهاء العرض من قبل مجموع المتلقين، الذين بدورهم يتلقون العرض وهم يحملون مشارطهم بحثا عن أسئلة وأجوبة جديدة، ربما بقيت خفيّة وبعيدة عن المؤلف/المخرج. بمثل هذا المنطق تشكل زمن مسرحي خالص لا يخضع لاشتراطات فنية لا ترتبط به، من حيث الجنس الفني، وبات يتسع لِما هو مستور ومستقر في أنساق العرض السمعية والمرئية. وفق هذا المنظور، لم يعد المخرج بحاجة إلى جمهور واسع، طالما فلسفته تنظر إلى التجربة المسرحية على أنها: مغامرة شاقة لتفكيك اللغة المتوارثة ما بين المنتج والمتلقي، واقتحام عصيانها وهدمها، ليشكل على أنقاضها لغة أخرى، تتجلى في تجارب فنية تنسف آلية العلاقة القائمة بين النص والعرض، وبين المؤلف والمخرج، وبين التجربة المسرحية والمتلقي. هنا يطرح سؤال: ما الغاية من هذا التضاد مع المفاهيم القائمة والمتشكلة في الدلالة المسرحية المتوارثة بين النص والعرض؟ يبدو لنا أن الإجابة يمكن إجمالها على النحو الآتي: إن هذا التضاد يمنح المخرج مساحة واسعة من الحرية، بغية تشكيل بنيته الدلالية في التجربة المسرحية، إنها حرية الشكل الحافل بالتشكيل البصري وليس الاتكاء على لغة النص (الحوار ). إنها حرية التلقي بقراءات تتعالق مع نسق الغموض، وتحتفي به وهو يضفي حضوره الجمالي على مشهدية اللحظة المسرحية.
لم يعد مجديا الركون إلى ارتباطات فنية مسبقة تعتمد على فرض نص مكتمل بمفرداته وجمله، لقيام التجربة المسرحية، لأن المسرح باعتباره فعل معرفة وتقنية تعبير عن الإنسان وهواجسه، يمتلك أفقا واسعا لاستيعاب المغامرة والتجريب، بحثا عن حلول جديدة لإطلاق الأسئلة المتحركة في ذات الإنسان. فالمخرج المعاصر في تعامله مع النص المسرحي بات يقيم معه علاقة تراسل تلغرافي، يعيد من خلالها اكتشافه وكتابته من جديد متحركا في مواطن مغلقة خلف سطوره، لم تُستنطق من قبل المؤلف نفسه، متجاوزا بذلك ما يتحرك على سطحه من مكاشفات، مصحوبا بتقنياته المسرحية، للخروج من النمذجة والقولبة والأطر الجاهزة في التعاطي معه والتي لا تنتج عنها إلاحلقة مفرغة من التكرار والنمطية في بناء العرض. على هذا الأساس المخرج ينظر إلى النص المسرحي، باعتباره دائرة مغلقة من المعاني والدلالات المكتفية براهنيتها، ويجد فيه أشبه ما يكون بخطين متوازيين:1- النص والمخرج قبل العرض 2- المخرج مع المتلقي بعد العرض. وليس من الضرورة بمكان أو من الأولويات أن يلتقي هذان الخطان، ومن هنا تتسع وتتعدد زوايا الرؤية إلى الموضوعات والأفكار في إنتاج التجربة المسرحية ما بين زوايا مثلث التجربة: 1- المؤلف، 2 – المخرج، 3- المتلقي. بناء على ذلك فإن كل الصياغات الإجرائية في الحذف والتعديل والإضافة وإعادة التركيب من جديد من قبل المخرج، ما هي إلا محايثة للنصوص في معان جديدة، للوصول بالتجربة المسرحية إلى أن تكون حركية في آلية تعاملها مع النص ومشتبكة معه لا مستسلمة له، ولن يتوقف هذا الاشتباك حتى بعد انتهاء العرض، بل تستدعي هذه العلاقة كل عوامل التحريض على طرح الأسئلة والسير في طريق التأويل.
تراجع المنهج الأرسطي
إزاء ذلك سيجد المؤلفون التقليديون نصوصهم في العرض المسرحي وقد خرجت من ملكيتهم ومملكتهم، وحلقت بعيدا في زمن فني مستحدث شكّلته حرية مشاعة لكل أطراف اللعبة المسرحية، ولم يعد النص مُنغلقا على خطاب المؤلف، بل دخل في حالة انزياح إلى زمن مفتوح بدلالات شكَّلها ويشكلها المخرج والمتلقي، وانزوى المؤلف المسرحي بنمطيته التقليدية التي تتأسس عادة على بنية النص بمفرداته الأدبية، في مكان قصي داخل صالة المتفرجين، بينما تعاظم دور المخرج/المؤلف للتجربة المسرحية الذي لا يستطيع الخروج من ثنائية: (التركيب + المعنى) عندما يخطط (للنص/العرض) لأن في ذلك يتجلى الدالين (النص+ العرض) في سياق واحد متراكب داخل أنساق العرض السمعية والبصرية، التي تملكها علاقة تجانس وتوافق في تشكيل الصوره /المشهد. هذا الحضور الفاعل للمخرج المؤلف للتجربة المسرحية، لا يأتي إلا من فهم مسوغات العمل المسرحي وعلاقاته المتشابكة أثناء التمرين. فالمخرج ما أن يرتبط مع نص فإنه يحاول أن يُكمل ما يشير إلى أن هناك فراغات تحتاج إلى أن تُعبأ بدلالات، وهذا يقتضي استدعاء ما هو غائب للحضور على خشبة المسرح، عبر أقنية لا صلة تجمعها بلغة المؤلف، بل تقتضيها الإجراءات الافتراضية داخل مشغل التمارين المسرحية، التي عادة ما تكون أشبه برحلة غامضة لفريق العمل يسعون من خلالها إلى الاستعانة بعلاقة راسخة مع آلية الاستعارة في كتابة النص من جديد، لتحريره من راهنيته والعدو به إلى احتمالات جديدة، وإجراءات هذه العلاقة الجدلية مع النصوص أوقفت رحلة الكتابة المسرحية، وفق المنهج الأرسطي، ولم يعد هذا الرهط من الكتّاب قادرا على المصالحة مع استقلالية المخرج وتمرده على سلطة النص ومقترحاته، بعدما أصبح النص خاضعا لإعادة توليده من جديد، بعيدا عن محددات المؤلف، استجابة لتقنيات التجربة المسرحية، بذلك يتجه النص عبر العرض المسرحي نحو جهة أخرى، وغالبا لن يرتضيها المؤلف التقليدي. فالمخرج إذ يتصدى لأي نص يسعى إلى تحريره من عبودية المحددات التي فرضها المؤلف عبر لغته، ليقوده إلى فضاءات الخشبة المفتوحة والمنتصرة لبلاغات الافتراض والتصور الاستعاري للفعل الدرامي. هنا يضع المخرج نفسه أمام اختيار حر وشائك في البحث عن الخفايا المستبعدة من النص، ولم يعد في موقع المستهلِك، بل يضع تجربته في زمن جديد يعيد فيه مفهوم العلاقة مع النص.
إلى هنا وصل المخرج إلى إيقاف مفعول النص المسرحي باعتباره بؤرة مركزية للعرض، وتسلّم عصا السلطة الإنتاجية لسينوغرافيا العرض بانساقها السمعية والبصرية، مستبعدا سطوة الإملاءات اللغوية للمؤلف ومحررا الفضاء المسرحي من غشاوة الجملة الأدبية، ولتنعتق الطرق أمام المخرج، محققاً بذلك الممارسة الإخراجية بلا وصاية مسبقة، ومؤسساً نصاً مسرحيا تم تشكيله في فضاء (الخشبة / المكان) وليس على الورق. بذلك بات للتجربة المسرحية خصوصية أجناسية لها صلة بإمكاناتها الجمالية وإخرجها من معتقل الأدب إلى فضاء (التمسرح) ولم يعد هناك قسرية كتابية مسجلة على الورق تفرض نفسها على المخرج، بل خرج صانع العرض المسرحي من عزلته بندية واضحةٍ ليفرض هويته الإبداعية، وعبر بالعرض المسرحي إلى رهانات ِاللغة المسرحية التي خلخلت ارستقراطية النص الأدبي . في هذا الإطار التغييري كُشِفَ النقاب عن صيرورة بناء (النص/ العرض) بحركة اختزالية رمت بالكثير من الاستعراضات الاستطرادية اللغوية لتحل محلها بدائل مقاومِة استعاريةٍ مجازيةٍ تشفيريةٍ عبَّأتها الصورة المسرحية بما تمتلكه من قدرة على تسريب الفعل المسرحي، ولم يعد المخرج مترجما ومكتشفا لأفكار المؤلف، بل خالقا وممارسا لحريته في التعبير عن أفكاره هو، ومحطما بذلك العلاقة غير الطبيعية والمخادعة ما بين النص والعرض.
خطاب فني جديد
هنا ينفتح السؤال: ما الذي يسعى إليه المخرج من وراء ذلك، بعد أن ترك وراءه كل ذلك الإرث الواضح الذي أنتجته مؤسسة معرفيه قائمة منذ آلاف السنين؟ إن ما يسعى إليه المخرج يتمحور في إنتاج خطاب جديد يبلور نمطا تكنيكيا يتم استدعائه عبر ممارسة تجريبية تغادر في تشظياتها متناً متأكسدا، كما أن هذا الخوض التجريبي، يحمل في توغله مقصدا فنيا يتجلى في ابتكار استراتيجيات جديدةٍ، لتهشيم مفردات الذائقةٍ الجماليةٍ المتداولةٍ والخروج من الوقائع الجاهزة، لإيجاد بنيةٍ ترتفع بالعلاقات التعبيريةِ إلى خارج تشكيلات المؤسسةِ المعرفيةِ التاريخيةِ، وصولا إلى تعدد القراءات للعرض المسرحي، بعيدا عن الأطر المرجعية التقليدية.
بمعنى أن المخرج يسعى إلى التوغل الدائم في بناء خصوصية التجربة المسرحية، ورسم تفردها وعصيانها على كل ما يجاورها من الفنون الأخرى، وتنويع خصوصية كل تجربة مسرحية وانغلاقها على نفسها. وهنا يتحول العرض إلى تجربة متفردة بكل حقولها السرية .
٭ كاتب عراقي
مروان ياسين الدليمي
يبقى هذا التمرد قائما على سطوة المؤلف ،هو صراع خفي بين قطبي اللعبة المسرحية،ويبقى المتلقي سيدا في انحيازه ..
ومنذ لحظة اختيار النص الأدبي ،تبدأ لعبة المكر والدهاء عند المخرج ،بغية الخروج من تلك الآشتراطات الأدبية التي فرشها المؤلف بين صفحات نصه المسرحي..
مقال رائع كشف بكل قوة وصدق اوجه الصراع بين (المؤلف والمخرج)ويبدو انه صراع ازلي ..محبتي الكبيرة للكاتب المبدع مروان ياسين