لم يعد من الممكن كتابة الشعر بعد أوشفيتز، هذه العبارة التي قالها تيودور أدورنو، لم تكن مجرد عبارة للتدليل على هول ما حدث في معسكر الإبادة النازية لليهود، والتعبير عن كساح اللغة في التماس مع حجم المأساة، بل تحولت إلى مفهوم تجاوز حدوده الأخلاقية إلى جدل في عمق الأجناس الأدبية وصلتها بالتراجيديا الإنسانية، حيث قيل بأن الإقدام على كتابة الشعر بعد تلك المقتلة الجماعية ضرب من الهمجية.
أما الشاعر الفرنسي إيف بونفوا فقد قال بضرورة الشعر بعد تلك الفاجعة وأهمية حضور الشاعر في موقع المواطنة، فيما ارتأى المجري إيمري كيرتيش، الحاصل على جائزة نوبل بأن اللحظة التي أعقبت ذلك الفاصل الدموي هي لحظة سردية بامتياز، لأسباب موضوعية وجمالية، بالنظر إلى ذاتية الشعر مقارنة بالسرد المتلازم بالزمان والمكان وعرض تفاصيل الشخصيات والأحداث والفضاءات.
على هذا الأساس ينفتح السؤال عربياً عن واقع الشعر والسرد بعد (حلب) وبعد (بغداد) وبعد (صنعاء) وبقية العواصم والحواضر العربية، وهو الأمر الذي يدفع لاستعادة عبارة أدورنو، واختبار مفاعيلها في المشهد الأدبي العربي، إذ يُلاحظ أن الشعر، خصوصاً ذلك الصنف الذي يعبر برازخ الحداثة، يحاول الاقتراب من دمويات الخراب العربي، ومجازر ما يُسمى بالربيع العربي، إلا أنه بشكل عام يبدو مغترباً عن تداعيات الموت، وكأنه بالفعل أقل من أن يُشَعرِن المشهد المأساوي الذي فاق كل التصورات وتجاوز أقسى سيناريوهات الدمار، بمعنى أن معظم الشعراء العرب استشعروا حالة العجز أمام ذلك المشهد القيامي، ولذلك ارتدوا إلى ذواتهم فكتبوا من الشعر ما لا يتقاطع مع الحدث، وبمعزل عما قبل وما بعد الموت الجماعي المجاني للانسان العربي.
وبقدر ما شكلت مجمــــوعة كاظـــم خنجر «نزهة بحزام ناسف» صدمة شعورية للمتلـــقي العـــربي، سجلت نقطة لافتة في قــــدرة الشــــعر على تجســــيد الحدث، حيـــــث أيقظــــت الإنســـان العربي من هجعته، ولفتـــت انتــباهه إلى منجم آلام الإنسان العراقي أمام فقه وآلات وأدوات التوحش، وبالمقابل زعزعت مقولة أدورنو التي أغلقت الخطاب الشعري عند بوابة أوشفيتز، بما حفلت به المجموعة من الصور الشــعرية الجارحة للنفس البشرية المسترخية، وبما أبداه كاظم خنجر من قدرة على دفع أكبر قدر ممكن من الجثث على سطح نصه، تأكيداً لمقولة جيروم ستونز حول ما سماه بالرعب البهيج، حيث كُتبت المجموعة بكل الحواس، وعلى هذا الأساس قُرئت.
ومن المنطلق ذاته يمكن قراءة مجموعة عماد أبو صالح «كنت نائماً حين قامت الثورة»، التي تبدو أقل صخباً في التماس مع الحدث، فهي تأملات ذاتية فلسفية أشبه ما تكون بالمناقدة الجارحة أيضاً للقارئ، ولأنها كذلك لم تُستقبل كما ينبغي، لأنها لم تتجاوب مع حرارة الشارع وإحساسه اليومي بالموت، وبالتالي تم التعامل معها كفضفضة ذاتية، أو كموقف شخصي غير متوائم مع أفق توقع المقهورين، على الرغم مما احتوته من مشاهد تفصيلية لمفارقات الثورة، وكأن القارئ العربي يريد قصيدة مغمسة في الدم، وإن كانت المجموعة تأتي في سياق الاستثناءات الشعرية التي حاولت الاقتراب من المأساة ورسم تضاريسها. والأكثر غرابة أن النصوص تضمنت دعوة للتنازل مراوغة عن الشعر، فيما يبدو محاولة للصمت إزاء العبث والموت، أو ربما هو العجز الشخصي عن فهم واستيعاب مغزى ذلك الحريق الهائل.
مقابل تلك النظرة التي تصنف الشعر الكسيح على حافة الأحداث الدموية في خانة الثرثرة، وانعدام الحس، بل الخيانة الصريحة للإنسان، يبدو السرد أكثر حظاً وقبولاً عند القارئ العربي، وربما كانت تلك المآسي هي أحد أسباب ازدهار الإنتاج الروائي في العالم العربي، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف الآثار المترتبة على الكتابة بمقتضى حماوة الحدث ما بين إقليم وآخر، حيث ظهرت الكتابة الغرائبية الكابوسية المحتفية بمسلسل القتل، كما تتمثل في رواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد» ورواية محمد ربيع «عطارد». وكذلك انتعشت الكتابة التأملية الرثائية، الصادرة عن ذات متألمة بموجب وعيها لفداحة الحدث، كما بدت عند خليل صويلح في «جنة البرابرة» وكذلك عند رائد وحش في «قطعة ناقصة من سماء دمشق» وغيرها من جماليات الرعب الآخذة في التكاثر والتنوّع على إيقاع فناء الإنسان العربي.
وعلى الرغم من كثافة المنتجات السردية إلا أنها لم تشكل شهادة قوية وأمينة لتوصيف الحدث، فما زالت اللغة تقف على مسافة من كل ما يجري، وبمجرد أن يُطرح السؤال حول كفاءة النصوص السردية المتعلقة بهلاك البشر ودمار المدن العربية يُطلب من السائل والمهتم تأجيل السؤال إلى حين انقضاء الحدث، وكأن السارد يحتاج إلى جردة حساب نهائية ليعدد الأرباح والخسائر أو ما تبقى من أوليات الحياة، أو كأن الكتابة من قلب الحدث أقل أهمية وأمانة من الكتابة عنه أو من خارجه، وهذا – في تصوري – يعود إلى أن الذات العربية تتعامل مع الحياة بمجملها من منطلقات شعرية، ولا ترصد الأحداث في مختبرات كتابية تراعي متطلبات السرد، وهنا تتساوى أدوات الشاعر والسارد، بمعنى أن النص السردي يعيش حالة من تأجيل استوائه بانتظار استواء الحدث.
مادة السرد الخام جاهزة ومتوفرة، وهي تشكل اليوم ما يمكن التعامل معه كمرجعية سوسيولوجية، ولو لفترة معلومة، ولكن يبدو أنها لا تشكل هاجساً للروائي العربي، لأسباب كثيرة ليس من بينها سطوة الحدث وقياميته، وهنا يمكن التمثيل بالرواية العراقية التي صارت تنكتب في جانب منها في المنفى، إلا أنها لم تقدم صورة مقنعة للويلات والتنكيل، اللذين تعرض لهما الإنسان العراقي في كل تمفصلات العقود الثلاثة الماضية، سواء في حروب الخليج بكل مجابهاتها الإيرانية والأمريكية، أو في حالة الحصار، أو الغزو، أو مواجهة الإرهاب، أو الغليان الطائفي، حيث يلتقط الروائي نماذج طافحة على السطح ليضمنها نصه، إلا أن الصورة المأساوية التي تنقلها نشرات الأخبار تغيب عن سياقات الفعل الروائي.
ثمة خلل ما في تصوير الجحيم الذي يكتوي به الإنسان العربي، حيث لا توجد كتابات بأسلوب الترتيلة الجماعية كالذي أدت فروضه سفيتلانا اليكسييفيتش في مجمل أعمال كـ»فتيان الزنك»، و»ليس للحرب وجه أنثوي»، و»أصوات من تشيرنوبل» وغيرها، حيث الوصف العميق للجروح النفسية والجسدية التي تخلفها الحروب والكوارث على الإنسان، وحيث يحضر صوت الفرد بمنتهى الصفاء داخل ترنيمة جماعية حزينة، تماماً كما شكلت الحرب العالمية الثانية مضخة هائلة لروايات خالدة ومؤثرة، واستثمرت الذهنية اليهودية محرقة الهولوكوست في عرض آلام الإنسان اليهودي بشكل لا يسمح إلا بالتعاطف مع الضحايا وإدانة القتلة، وأتصور أن ما نال الإنسان العربي من أهوال يكفي لسرديات واخزة للضمير الإنساني، ولكن يبدو أن معظم الروائيين العرب قد قرروا الانزياح عن تلك المرجعية ومعالجة قضايا أقل أهمية تحدث على هامش الوجع المركزي.
ويبدو أن الانزياح عن المرجعيات السوسيولوجية سمة من سمات الرواية العربية الحديثة، حيث لا تستثمر أي مرجعية كما ينبغي، ويمكن ملاحظة هذا البعد في الرواية الفلسطينية التي يفترض أن تغترف من تاريخ طويل وموجع من المآسي كالنكبة والتهجير والاستيطان والمخيم والمجازر والترحيل والنزوح وغيرها من الخرابات الجارحة والمستمرة، إلا أن الروائي الفلسطيني تخلى عن تلك المضخات ليكتب في الأفق السياسي للتطبيع والسلام وأفق التعايش مع العدو، إذ لم تستثمر أي محطة من تلك المحطات كما ينبغي بحيث تتحول إلى أزمة ضمير إنساني، وهو أمر مستغرب مقارنة بمرويات الهولوكوست والأفروأمريكان وغيرها من المآسي التي شكلت جماليات ما بعد الرعب.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس