يقال إن الزواج الناجح يتحقق عندما يلتقي المرءُ الإنسانَ المناسب في التوقيت المناسب، ولا يفيد ان تلتقي الإنسان الصح في التوقيت الخطأ أو الإنسان الخطأ في التوقيت الصح!
بيد أن زواج السياسي اليساري المخضرم برئاسة حزب العمال البريطاني المعارض كان «الإنسان الخطأ في التوقيت الخطأ». فهل أخطأ كوربن بتقدمه لخطبة يد هذا المنصب في 2015؟
لا يبدو السؤال أبداً في غير محله. ذلك ان الرجل يشكل حالة من الشذوذ السياسي تستحق التأمل.
أشرح أكثر: وصل كوربن إلى رئاسة حزب العمال متأخراً ربع قرن أو أكثر. كل من يتابع الحد الأدنى من الحراك السياسي في الغرب خصوصا والعالم عموما، يدرك أن الزمن ليس زمن كوربن والمكان ليس مكانه.
ورغم ذلك انتُخب وفاز وسط حملة عداء وتشويه شعواء طالته التقى حولها رفاقه في الحزب ومنافسوه في الانتخابات والحكومة وكثير من النواب والإعلام اليميني وحتى بعض اليساري وجزء من الرأي العام.
كان تقدمه في استطلاعات الرأي ثم فوزه بالانتخابات يوم 12 من هذا الشهر أول دليل على خلل ما، وناقوساً عن أن شيئا ما لا يسير على ما يرام في السياسة البريطانية. مَن قامر بانتخاب كوربن؟ ولماذا فاز على الرغم من حملة التشويه تلك؟
أبسط الجواب هو أن الذين صوّتوا لكوربن من جمهور الحزب (قيل إنهم انضموا للحزب من مختلف التيارات والنقابات خصيصا لدعمه) لا يثقون في قادتهم المناوئين لكوربن، ولا يثقون في المؤسسة السياسية التي نالت منه، وأن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لا تؤثر في الرأي العام ولا تسوقه بسهولة مثلما هو سائد. بل إن عداءها ربما للرجل أسهم في وصوله إلى حيث هو الآن.
هل هي صحوة ضمير جمعي أم صحوة سياسية أثمرت تراجع منسوب الثقة في إعلام نافذ وحر، لكنه لا يمتلك جرأة الشذوذ عن توجهات المؤسسة السياسية المسيطِرة والموجِّهة؟
لا جواب واضحا، ولكنها حالة تستحق التأمل وجديرة بالبحث.
هذا من حيث المكان. أما من حيث الزمان، فحالة كوربن تبدو مستعصية أكثر. الرجل عدو بائن للحروب التي تخوضها بلاده بتزكية من برلمانها وقطاع واسع من إعلامها، ما يجعل مهماته ومواقفه المقبلة صعبة ومعقدة ومكلفة. هذا زمن الحروب، وكوربن رجل سلام. الحروب لا تريدها الحكومة البريطانية وحدها، ولا تُشَّن لأن الحكومة الفرنسية أو البريطانية أو الأمريكية (سابقا ولاحقا) مجرمة ومتعطشة للدماء، بل لأنها (الحروب) أحد أبرز عناوين العولمة التي تغمر العالم. لا توجد أزمة واحدة نشبت في الشرق الأوسط خلال الأربعين سنة الأخيرة لم تتعامل معها الدول الغربية بحرب، بغض النظر عمن في الحكم، يمين، يسار، وسط، ائتلاف.. لا فرق. من الحرب على الدول إلى الحرب على الجماعات المتطرفة دينيا. هذا لأن هناك دورة اقتصادية يجب أن تحافظ على سيرها، وأسلحة يجب أن تسوَّق، وأناسا يجب أن يموتوا، ومصالح اقتصادية واستراتيجية يجب أن تتحقق لأصحابها مهما كلفت من ثمن.
كل هذا تحت عناوين مختلفة، مرة حقوق الإنسان، ومرة حماية الأقليات، ومرة السلاح الكيمياوي لهذه الدولة أو تلك..إلخ. والعناوين لا تهم كثيراً لأنها مجرد ألوان يزيّن ـ ويبرر ـ بها السياسيون ووسائل الإعلام خطبهم ومانشيتاتهم.
والمؤلم في الأمر ان هناك حروبا مقبلة سيكون على كوربن اتخاذ مواقف منها، في الحكم كان أم في المعارضة.
العالم اليوم تقوده قوة اقتصادية جعلت من قيادة حزب العمال البريطاني الحالم الرومانسي العائد إلى الحكم في التسعينات بعد عقد ونصف من الغياب، جعلت منها آلة حرب قذرة خاضتها في العراق (2003) على الرغم من المعارضة الشديدة في البرلمان وملايين الرافضين لها في شوارع بريطانيا.
ما الذي يجعل رجلا مثل بلير يغامر برصيده السياسي واليساري الجميل في حرب يدرك سلفا أنها مفتعلة فيتحول إلى مجرم حرب، لولا قوة لوبيات المال والأعمال؟ (ربما التقى ذلك مع ميول شخصية لديه نحو أصولية مسيحية).
في عالم اليوم يبدو الساسة موظفين لدى تكتلات المال والأعمال أكثر منهم في خدمة شعوبهم التي تنتخبهم.
في عالم اليوم، إسرائيل كيان مقدس يجوز انتقاده إلى مستوى معين فقط، ومن غير المسموح أبداً مصاحبة مَن يُصنَّفون أعداءها أو الجلوس معهم. وكوربن جلس مع بعضهم وتناول الغداء مع البعض الآخر، ومنح آخرين فرصة الاستماع إليهم. في عُرف التوجه العالمي الخاضع لسيطرة الغرب، هذا كفر.
فهل يستطيع كوربن مواجهة هذه الآلة الجهنمية؟ الجواب بلا تردد: لا.
وسائل الإعلام لم تستسلم بعد فشلها في الجولة الأولى التي تمثلت في منع فوز كوربن برئاسة الحزب. هي الآن تشحذ لجولات أخرى بلا ملل. الصانداي تلغراف اليمينية النافذة، مثلا، عادت يوم الأحد للنبش في ماضي الرجل ومساعديه فاكتشفت أنه أحاط نفسه بمشاغبين شاركوا في مظاهرات مناوئة للعولمة وحرضوا على مهاجمة رجال الشرطة (أحدهم جون ماك دونل وزير الخزانة في حكومة الظل التي شكلها كوربن). ولا غرابة أن نسمع ونقرأ الكثير لاحقا عن فترة شباب كوربن ومغامراته العاطفية وأنه، مثلا، حاول تقبيل فتاة في لحظة طيش جامعي، أو ركب درجة ابن الجيران بلا إذن من صاحبها!
كوربن في وضعية لا يُحسد عليها. وأخشى أنه بحلول الصيف المقبل سنكتب عنه «زعيم حزب العمال السابق» بعد أن يطاح به من خلال انقلاب ديمقراطي داخلي، وانتخاب زعيم آخر تتوفر فيه المواصفات المطلوبة.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
هذا هوالجميل في الديمقراطية ، بإمكانك ممارست القذارة دون إسالة الدماء، لأن السياسة لا تفترض الطهر
اعتقد ان الناس تميل الى التغيير. هذا هو السر. بريطانيا منذ فوز تاتشر 1978 جنحت الى اليمين بافراط حتى من حزب العمال. و آن الاوان للتغيير