ابتدأ نفض الذهن عن البنيوية ليس بالحديث عما بعدها، ولكن عن طريق تغيير مسار البوصلة في اتجاه «النقد الثقافي» باعتباره بديلا ليس فقط عن البنيوية، ولكن عن «النقد الأدبي» أيضا. وقدم النقد الثقافي باعتبارها «البوصلة» التي يمكن بواسطتها تجديد دراسة العمل الأدبي، بالالتفات إلى الأنساق «المضمرة» الثاوية في النص؟ وليس النقد الثقافي، كما يسلم بذلك كل مؤرخيه والمشتغلين به أيضا سوى مظلة كبرى تختبئ وراءها كل المقاربات أيا كان نوعها أو اتجاهها. وجاءت ترجمة كتاب تودوروف عن «الأدب في خطر» لتكرس الاتجاه نفسه ولتكنس أوراق خريف البنيوية المتساقطة على الأرضية العربية المجدبة. فصار الحماس للدراسات الثقافية، والنقد الثقافي، وما بعد الاستعمار، وتكاثرت محاور الاهتمام التي تدور حول السياق والدلالة والتأويل والأنساق والجنوسة والهوية والنسوية والذات والآخر، والحجاج، إلى جانب ما تبقى من «البنيوية» عند البعض الآخر الذي وصل متأخرا، فظل يعالج مصطلحية السيميائيات والعلامات والسرد والسرديات والراوي بالمرجعيات التي تحققت في الستينيات أو السبعينيات، دون العمل على مواكبة التطورات التي تحققت مع السرديات ما بعد الكلاسيكية أو مع التطويرات التي عرفتها السيميائيات الجديدة.
لا تقف المعضلة عند حد الاشتغال بالنص والعلامة بمعناهما اللغوي الذي كان مهيمنا خلال المرحلة البنيوية، بل تعدتها بسبب بروز النص الرقمي إلى بداية الانخراط لدى البعض في الاهتمام بالثقافة الرقمية، والوسائط الاجتماعية، والإشهار، فصارت البوصلة التي كان يسترشد بها في تحليل النص المكتوب هي نفسها المعتمدة في البحث عن النص المرقوم، فكان الوعي والممارسة وليدي التصورات الجاهزة الموروثة عن ذهنية الاشتغال بما وُجد وتيسّر. وكانت النتيجة أمشاجا جديدة من الاشتغال بالأدب، وبالعلامات المختلفة، وبالإبداع التفاعلي بدون تمييز أو تفريق. وما هذا الغصن إلا من تلك الشجرة.
إن الشروط التي توفرت مع ما بعد البنيوية على المستوى العربي مختلفة جدا. فالذين بدأوا ينتجون دراساتهم الأدبية وجدوا من جهة التربة مهيأة مرجعيا. لقد ترجمت الكثير من الأعمال التي تنسب إلى بعض رواد البنيوية وما بعدها كما تقدمها الدراسات الأنغلوساكسونية: من ألتوسر وفوكو وديريدا إلى بول ريكور مرورا برايموند وليامز وإدوار سعيد وهومي بهابها وسواهم. كما أن التمييز بين الثقافة العالمة والشعبية الذي يقدمه أصحاب النقد الثقافي ميزة يتميزون بها كان قد تحقق مع البنيوية نفسها. إننا نجد العدد الثامن من «تواصلات» 1966 الذي دشن بداية تشكل الدراسات السردية بنيويا تعامل مع ما كان يعتبر خارج نطاق الأدب، مثل الرواية البوليسية، والسينما،،، بل إن دراسات بروب المورفولوجية حول الحكايات العجيبة ابتدأت مع بداية القرن العشرين. والأمثلة لا حصر لها. ويمكن قول الشيء نفسه عن الاهتمام بالوسائط الجماهيرية والعلامات وغيرها. لقد كانت البنيوية بداية حقيقية لتغيير النظر في الأدب وفي الثقافة أيضا. وتركيزها على الجانب «البنيوي» في مستواه الشكلي كان مع «البويطيقيين» فقط. أما السيميائيون فقد انشغلوا بالدلالات والمعاني. وبالنظر إلى السرديين نجد ميك بال على سبيل المثال لا الحصر، ابتدأت مشتغلة بالسرديات البنيوية ثم انفتحت على جوانب أخرى في المرحلة ما بعد البنيوية، من المنظور السردي نفسه، على النقد النسائي والثقافي وعلى الثقافة الشعبية.
كانت هجرة النقد الثقافي إلى الفضاء العربي محاولة لفصل ما تراكم، عربيا، من أدبيات خلال المرحلة البنيوية لدى بعض الباحثين، مع المرحلة الحالية. فلم ينجم عن ذلك سوى القطيعة مع مرحلة مهمة من الدراسة الأدبية العربية. لم يحدث نقاش حول البنيوية في صيغتها العربية بهدف الوقوف على منجزاتها وحدودها ومشاكلها بهدف إقامة الجسور مع ما يليها. بضربة لازب ألصقت بها تهمة أنها كانت «جمالية»، و«أدبية»، وأن ذلك ليس هو الجانب الذي يمكن الالتفات إليه في النص الأدبي وغيره من النصوص التي لم تكن تعتبر أدبية حسب التقليد العربي. فجاءت كلمة «الأنساق» لتحل محل «البنيات». وكما أننا خلال المرحلة البنيوية لم ندقق في «البنيات» صرنا فيما بعدها نتحدث عن «أنساق» نقوم بإسقاطها على نصوصنا التي لم نتعرف على بنياتها.
إن الانتقال من إبدال معرفي إلى آخر يتطلب معرفة إكراهات الإبدال السابق وحدوده، بهدف إنجاز مرحلة جديدة تنبني على ما تأسس في مرحلة سابقة. أما تحريف مجرى التطور فليس سوى ممارسة القطيعة التي تجعلنا لا نطور معرفتنا ولكن نجرِّب سبيلا آخر نتوهم أنه يمكننا من حل مشاكل قراءتنا للنص. إن البنيوية جاءت، أدبيا، لتؤسس علما لدراسة الأدب. والعلم يتطور لأنه لا يطرح إلا الأسئلة التي يمكنه الجواب عنها. ومتى أجاب عن أسئلة طرح غيرها ليفتح مجالات جديدة للبحث. وتلك هي البوصلة. أما خلق مسارات جديدة ومتعددة ومختلفة فليس سوى التيهان، والتشتت.
أفرح لأن لهذا الجيل إنجازات مهمة وواعدة. لقد تحققت له شروط كثيرة غابت في زماننا، مثل المراجع، والنشر، والجوائز، والمحفزات، وتراجع الحساسيات. لكن الغائب الأكبر لديه هو الحوار والعمل الجماعي. اتخاذ زوايا منعزلة قد يخلق ناقدا لا معرفة علمية وثقافية.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
تحية كبيرة لأستاذ الأجيال الدكتور سعيد يقطين الذي مازال يواصل أستاذيته الحصيفة نقدا ونظرا وكذاتوجيهاته العلمية لجيل جديد سمته الأساس :التشتت. والحق أن هذا التشتت والتوتر هو ميزة هذا العصر في جميع مناحي الحياة. وهذا ما جعل بعض التصورات الفلسفية الجديدة تنحت منطلقات جديدة في التفكير أشار إلى بعضها الدكتور سعيد يقطين في مقالته هذه بأجزائها الثلاثة بشكل مبطن. فتحية محبة وتقدير لأستاذنا ومزيدا من العطاء مع دوام الصحة والعافية.