جيل 2008 الأمريكي

حجم الخط
0

من تجارب مبكرة فاشلة، بل مأساوية في ما يتعلّق بأحدهم على الأقل، التقى شبان وشابات للإقامة في منزل مهجور متداع في إحدى مناطق نيويورك. ما أدّى بهم إلى هناك هو عدم قدرتهم على دفع إيجار السكن العادي، واضطرارهم مع ذلك إلى مغادرة الأمكنة التي يقيمون فيها. أحدهم، مايلز هيلر، قدم إلى ذلك المنزل مغادرا مكان إقامته في فلوريدا، إثر التهديد الذي بدأ يتعرض له بسبب علاقته بحبيبته بيلار، التي لم تبلغ سن الرشد القانوني بعد، فرأى أن يتوجه إلى ذلك المنزل ليقيم هناك ريثما تبلغ عمر الثامنة عشرة. قبل ذلك، وهو في فلوريدا، كان يعمل «مدبّرا» للمنازل التي هجرها أصحابها عنوة، تحت وطأة الإفلاس. وهو تجاوز في مهنته المطلوبة منه، وهي تنظيف البيوت وإخلاؤها مما تركه المغادرون من أثاثهم فيها، فعمل على تصوير كل ما يشاهده هناك، لأرشيفه الشخصي. كانت تلك مهنة متعبة ومتواصلة ما دام أن البيوت التي تُخلى كانت تزداد وتتضاعف بسبب أزمة 2008 التي أصابت اقتصاد الولايات المتحدة.
إقامة مايلز هيلر السابقة في فلوريدا كانت هروبا أوّل من منزله العائلي، وذلك بعد عقدة الذنب التي عاناها من مقتل بوبي، ابن زوجة أبيه الذي كان بمثابة شقيق له. وهنا، في المنزل المتداعي في «صانست بارك» سيلتقي بأولئك الآخرين الذين من بينهم صديقه بينغ ناثان، الذي يعمل هو أيضا بما لا يقلّ غرابة عن مهنة «المدبّر». فهو، المتعلّق بإرث الماضي شأن مايلز هيلر، يقضي نهاراته في محلّه الذي سماه «مستشفى الأشياء المحطّمة» مشتغلا في إصلاح الطابعات اليدوية (الدكتيلو) التي فات زمنها وغير المستخدمة، التي ينبغي أن يكون مكانها حاويات القمامة.
بين الآخرين المقيمين في منزل صانست بارك (النيويوركي)، أليس برغستروم التي تعمل في مؤسسة عقارية، وربما هي التي أرشدت الآخرين إلى ذلك المنزل. في الوقت نفسه تعمل أليس على إنجاز أطروحتها حول فيلم «أحلى أيام حياتنا» الذي يتناول محنة الشباب الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولا يخلو فصل من الرواية من ذكر هذا الفيلم، والنقاش حوله بين المقيمين في المنزل، والاستشهاد بأحداثه التي منها مثلا ما راح يعرضه فردريك مارش على ابنه طالب الثانوية من ميداليات الحرب التي حصل عليها، ولا يكترث هذا الابن لما يرى إذ هو «يفضّل التكلّم عن هيروشيما، وعلى احتمال الانفجار النووي أكثر من الهدايا». ذاك أن عقله منصبّ على المستقبل، «على الحرب التالية».
ومن المقيمات في المنزل إيلين برايس التي لا يفارقها الشعور بوحدتها، حيث لم تتمكن من أن تكون قريبة من أيّ من هؤلاء، كما لم تستطع برسوماتها أن تلفت الأنظار. حين رفضت أليس أن تتموضع لها لترسمها عارية بدا لإيلين أنها غير مقبولة من أحد، وأن كونها فنانة غير معترف بها من أحد. وإذ قبِل بينغ بذلك دخل الاثنان في علاقة عصية على فهم كل منهما، طالما أن هذه العلاقة بدأت بما يشبه المقايضة، الجنس مقابل التموضع العاري.
هكذا تأخذهم تلك الإقامة المشتركة إلى ما يشبه التكتّل المضاد للخارج، فيصير ما يحدث بين أحدهم والآخر هو المتاح الوحيد لعواطفهم، كما لغرائزهم. وما يطغى على كل اشتباك هو الاضطرار للقبول طالما أن احتمالات الخارج منعدمة كلها.
جميعهم ما يزالون في عمر الشباب يبحثون، في ذلك المنزل المتداعي والمحتل، عن أفق ما ينفتح نحو المستقبل. لكنهم، مع ذلك، شأن الكثيرين ممن هم في جيلهم، موجودون في عالمهم الجبّار لكن الذي يرونه منخورا مهترئا في قلبه. كل الحوادث الكبرى الفارقة في سنوات أمريكا الأخيرة حاضرة في الرواية، من سقوط البرجين إلى «القاعدة» إلى فتوى الإمام الخميني إلى معارك الدفاع عن الكتاب والصحافيين المهددين، ومنهم الكاتب الصيني ليو كسيابو وسعي منظمة «بن» لحمايته من نظام بلده.
الرواية حاشدة بشخصياتها الكثيرة، وبأسمائها التي ترد في الأحداث المتذكَّرة، سواء في رواية كل من هؤلاء لماضيه أو في الشخصيات العامة، الثقافية، حيث الكتاب والممثلون السينمائيون والمسرحيون ومؤسّسو دور نشر، وهؤلاء بينهم والد مايلز هيلر ووالدته الساعيان إلى استعادته بعد تركه لهما طيلة سنوات فراره. شخصيات وأسماء كثيرة تجعل الرواية واسعة المساحة متشابكة الأحداث إلى حدّ أنها تبدو كما لو أنها عمل كاتبها الوحيد، فيما بول أوستر كثير الإنتاج ونجم ساطع الحضور.
ذلك هو الجيل السابق الذي تتعقّب الرواية كذلك حاضره مقارنة بما كانه في ماضيه. الأم، الممثلة التي كانت متفوّقة في كل ما أدّت تتابع البحث عن ابنها مايلز فيما تؤدّي على المسرح آخر دور لها. الأب المقبل على إقفال دار نشره بعد تراجع الإقبال على الكتب إلخ. أما في ما خصّ المقيمين في ذلك المنزل فلم يأت إجلاؤهم عنه بدون عواقب. ألقى رجلا الشرطة أليس من الطابق الأعلى، ومايلز هيلر ردّ بلكم أحدهما لكمة قرية تسبّبت بكسر فكّه، وهذه، في نظر القانون الأمريكي، جريمة استدعت من مايلز الفرار، لمرة ثالثة ربما، ولتشتت الآخرين تاركين، في البيت الذي لا يمكنهم العودة إليه، كل شيء: أطروحة أليس، ورسوم إيلين، وكل ما كان الآخرون محتفظين به.
رواية بول أوستر «صانست بارك» نقلها إلى العربية سامر أبو هواش وصدرت عن «دار المتوسط» في 276 صفحة، 2107.

٭ روائي لبناني

 

جيل 2008 الأمريكي

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية