خارج القضبان

حجم الخط
6

«حيثما تكون سعيدا فذلك بيتك» يقول الكاتب الفرنسي مارسيل جوهاندو، وحسب مقولته لم يعد المنفى منفى ولا الوطن وطنا، فقد أخذت هذه المعطيات مفاهيم جديدة مرتبطة بالحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية للشخص.
أمّا البيت الشهير الذي نحفظه عن ظهر قلب «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة» فيبدو أنّه مجرّد دعاية سياسية على الطريقة العربية، لأن البيت حين قيل لم يقل في سياق حب الوطن والوفاء له، ويمكن الرجوع لتاريخ قائله الشريف قتادة أبو عزيز بن إدريس.
ولأن المقولات عندنا ملغمة دوما بمعطيات مبطنة، فإن المنفى في مفهومنا العربي يغطي حكايات لا نهاية لها. فكثر، خاصة في هذا العصر، لم يكن المنفى بالنسبة لهم سوى البديل الحقيقي للوطن. وحين نبلغ هذه المرحلة مع تداخل المعاني بين مكانين فهذا يعني حتما أن الوطن هو المكان الذي تشعر فيه بكرامتك محفوظة وبأحلامك تتحقق وبالأمان الذي لم يوفره لك بلدك الأصلي.
في الأدب العربي الحديث نقرأ تجارب أدبية كثيرة لكتاب عاشوا في المنفى، وانشطارهم بين قطبين يشملان مكانين وثقافتين ونظامين وتفاصيل أخرى توقعهم في مقارنات لا تنتهي بين ما خبروه من حياة في المنفى وما عانوه في الوطن مع حنين قاتل للهناك.
بشكل ما هناك خيانة واضحة من طرفهم للأمكنة التي منحتهم الحرية ولذة العيش، والتحليق خارج قضبان الأوطان المسيجة بالرداءة، لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا النكران خيانة للمنفى المحترم؟ وهل الاندماج مع أهل هذا المنفى خيانة للوطن الذي لم يعرف احتضان أبنائه؟
ترى ما رأي اللاجئ اليوم الذي يخرج من وطنه أعزل ومعدما تماما فقط من أجل البقاء على قيد الحياة؟ ماذا قدمت لهم أوطانهم ليقولوا «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة»؟ وهل يمكن لبيت شعر كهذا أن يطبب الجرح الغائر في أعماقهم وهم يتجرعون يوميا وجع فقدان الأحبة، ووجع الذل والإهانات من أجل لقمة العيش، ووجع الخروج من أوطانهم كحثالات مرفوضة عند «بلاد العرب أوطاني»؟
منذ زمن بعيد كانت تجربة كتاب المنفى مخيفة في ازدواجيتها، أقلها ما قرأته لكتاب عرب عاشوا في المهجر يبتهجون بإضافة منافيهم إلى أسمائهم في نهاية مقالاتهم، ذلك أن المنفى أصبح «العلامة التجارية» التي تسوق أدبهم وكتاباتهم، وقد تجعل من مكافآتهم المادية أكثر بكثير من الكتاب المحليين مواطنيهم. وفي هذا التقدير المادي لكتاب غادروا أوطانهم نحو بلدان منحتهم الاستقرار المادي، ما يحيلنا إلى أن الكاتب يقاس أيضا بمستواه المادي ولا يقاس بمستواه الأدبي.
يبدو هذا الاستنتاج خطيرا، لكنه مطروح، وأتمنى أن يُثرى من طرف قرائي لأنني ابنة هذه العائلة «الثقافية» بكل حسناتها وسيئاتها، ولمست هذا التقييم المجحف في حق كثيرين من خلال احتكاكي بهم. كما لمسته في تجارب سابقة قرأت عنها. تجربة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة نموذجا، إذ أن المهجر رفع من مكانة جبران كثيرا، مع أن ميخائيل نعيمة كان الأقوى كنص ولغة، حسب آراء معاصريهما، ونقاد معروفين آنذاك.
من جانب آخر يمكن الاطلاع على تجربة الكاتب عبد الرحمن منيف التي رواها في كتابه «الكاتب والمنفى»، ومن خلال ما ورد في حوارات أجريت معه. وتجربة عبد الرحمن منيف مع المنفى تبدو نسبية اليوم مقارنة مع كتاب آخرين.. كيف؟ منيف سعودي من أم عراقية، ولد في الأردن، تعلم في العراق، ثم في القاهرة، ومنها إلى بلغراد، وعمل في دمشق وأقام فيها، ثم مكث في بيروت فترة ومنها إلى العراق مرة أخرى، ثم باريس وأخيرا حط الرحال في دمشق التي أسس فيها عائلة مع زوجة سورية. فقد احتضنه العراق، رغم أن كتابا عراقيين فروا منه بحثا عن مكان آمن لهم ليقولوا ما يريدون، صحيح أن خروجه من العراق لم يكن عاديا، بل ارتبط بمواقفه، لكن هذه الفترة مهمة في مسيرته الحياتية والأدبية. عاش في القاهرة وأيضا احتضنته، رغم أنها لفظت بعض كتابها، وتعرض بعضهم لمضايقات متعددة، بدءا من مضايقات النظام إلى مضايقات الإسلاميين، إلى مضايقات القضاء.عاش في دمشق وفضل دمشق عن باريس وعواصم غربية أخرى، مع أن دمشق كانت بالنسبة للبعض المكان الأكثر حظرا للحريات، وهنا يبدو منيف محظوظا أكثر من كتاب سوريين عانوا من الرقابة والنظام آنذاك في عقر موطنهم.
فيكتور هوغو يقول: «لا يهم إن عاش الجسد في ضيق، المهم أن يعيش الفكر في فضاء حر» ولهذا نجد فئة واسعة من الناس سواء كانت مبدعة أم لا تعيش منفًى من نوع آخر. المنفى الذي يحيط بك حين تكون مختلفا عن غيرك، بحيث تشعر بأنك خلقت في المكان والزمان الخاطئين.
ألا يحدث ذلك؟ حين تشعر بالاختناق بين أهلك وعائلتك، حين تتلفظ بكلمة فترى الأعين تتفحصك إن كنت في عقلك أم أنك مجنون أو مريض؟ يحدث ذلك كثيرا، وأنت تحت المراقبة من أهلك وجيرانك وأناس لا تعرفهم في الطريق، كلهم يقومون بوظيفة تحويل حياتك إلى جحيم. يحدث حين ترى أمرا لا أخلاقيا يحدث أمامك وحين تتدخل يزجرك الجميع… تبدو غريبا بتصرفاتك الراقية بين من تعتبرهم أبناء وطنك، ويحدث أحيانا حين يتبرأ منك «أبوك» مثلا، فقط لأنك قمت بشيء لا يناسب مزاجه… تهوي إلى القاع تماما وتشعر بأنك لا شيء حيث أنت. تٌنسَفُ «كُلّك سوا» بسبب زلة صغيرة، بسبب كلمة، أو بسبب نميمة لا أساس لها من الصحة. هذا وطنك أحيانا، إن لم يكن وطنك دائما… وهذا ما يجعلك تبحث عن منفًى يحررك من قضبان وهمية صنعها الآخرون حولك. وإن لم تستطع فحتما ستصنع منفاك الخاص في رأسك… أو منفاك السري في أدبك. المنفى أحيانا وطن حقيقي، ولكننا نجحف في حقه فنسميه منفًى إلى الأبد.
والصراحة تقال، شيئا فشيئا ومن خلال أسفاري واحتكاكي بالناس اكتشفت أن هذين المصطلحين طور الانقراض، فنحن ننتمي للأرض، وهي وطننا أما الأمكنة الصغيرة فيها فهي متاحة للجميع، وأقربها إلى قلوبنا تلك التي نجد فيها الدفء والمحبة وسعادة قلوبنا.
وقد قلت دوما إن الصداقة وطن، وقد عنيت دوما ما قلت. فحيثما لك صديق فأنت محاط بما يكفيك لتكون سعيدا، أما الأماكن الخالية من الأصدقاء فهي أماكن قاحلة حتى إن كانت جميلة وصالحة للحياة.
ولعل المحطّة الأخيرة من مقالتي اليوم تختصر مفهومي الخاص للصداقة، لكنها أيضا محطّة حقيقية تحيلنا إلى فكرة الأهل والأحبة، فوحدهم يصنعون أوطاننا ويحددون مفهوم الوطن على طريقتهم، فحيث يكون الأهل نشعر بأن هناك الوطن، وهذا ما يعتقده أبناء المهاجرين من الجيل الأول والثاني، إذ يستحيل أن تقذف بهم إلى بلدهم الأصلي على أنه وطنهم الحقيقي، ففي غفلة الأهل الذين تركوا أوطانهم لأسباب عديدة، أنجبوا مواطنين لمنفاهم، وحوّلوا أوطانهم إلى منافي لهم…
إلى هنا وللحديث بقية …
فالعالم يتغير بسرعة فائقة ولا يمنحنا مجالا لوضع نقطة نهاية.

شاعرة وإعلامية من البحرين

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول للأسف الشديد، عربي:

    سيدتي لم اجد إجابة على هذا السؤال الملح دائما في مخيلتي ؟
    وهو لماذا : نجد في بلداننا العربية مغتربين اوربيين و آسيويين
    يمضون عقود من الزمن يعملون في مجالات مختلفة ومتعددة
    اما برفقة أسرهم او منفردين، جاءو بهم كخبراء ،عاملين،اكادميين
    بينما تجد المواطن العربي في الدول الاوربية اما لاجئ او معارض
    او كما اشرتي كتاب وشعراء هجرتهم عن اوطانهم اقلامهم وكلماتهم وارائهم
    العربي في المنفى كاره لوطنه .. والغربي تواجد من اجل المنفعه المشتركة
    اليست هذه ام المعضلات القديمة والمعاصرة للعرب كافه !!

  2. يقول غادة الشاويش المنفى:

    سيدة بروين اولا احب ان اثني على مقالك الرائع لكنه للاسف لن يجعلني انا غادة الشاويش ، المنفى ان اغير توقيعي السبب بالطبع انني لست اديبة عالمية اتلقى الجوائز !! ولن يمنحني اللقب اهمية فانا رصاصي قلمي العاري عن وحل الدولارت وعندما يقرر لبس البدل الحريرة سيفقد صدقه ووهجه وطهر هدفه ذاك ان الحرف يفنى مهما كان مزخرفا ان لم يقف نبض قلب صاحبه خلفه وان لم يكن القلب الذي يقف خلف الكلمات قلبا استشهاديا وبالمناسبة ( هههه ليس انتحاريا يائسا يحتاج الى مصح على طريقة ذلك المقال الذي كتبتيه سيدتي والهمتني يومها ان اكتب في منبر عن العمليات الاستشهادية في بعدها العسكري وهو موضوع لا علاقة له بالادب ولا بالمحللين النفسيين من ابناء المدرسة الواحدة والقراءة الخاطئة التي لجئتي اليهم في ذلك المقال عموما شكرا لانك على الاقل الهمتني ان اكتب في عنوان خاص ، او انافس عليها ولست ابدا اتمتع بشروط منفاك الذي اراه سياحيا انطوانيتيا هههههههههه سامحيني هذه الهاءات تدل على فاصل اسميه هجمة الضحك الخاطئة الخاطفة على كلام ماساوي يبعث على الضحك من شر البلية المنفى الذي يمنحك جنسيته وحقك في التعبير قد لا يعيد لك كحل عيني الوطن بطعمه الحلو مهما كان استبداديا فنقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب الا للحبيب الاول كم منزل في الكون يالفه الفتى وحنينه ابدا لاول منزل سيدتي اكتب لك من منفاي الذي هو منفى مترفع عن الشهرة ومن زاوية منكوبة في ركن تعليق هي فعلا وطن اعطتنيه جريدة القدس قد اقتل من اجله بحسب رسالة الرصاص التي تلقيتها قبل فترة حيث اطلقت علي النار في ( منفاي السياحي لاخرس عن الانتقاد وابتلع التعليقات والبس طربوش الممانعة بكل دمويته او اسكت واعي ايامي في منفاي مقالك يقهرني سامحيني بروين فانا من المغضوب عليهم ولا ارغب بالتوبة واحب ان اموت كافرة بالعمائم السوداء وبنظام بشار وباوراق بوتية منعت من تجديدها بسبب المقاومة ضد اسرائيل احب ان اموت جائعة خلف الحسين وضحايا مضايا ولا ارغب ان اعيش مترفة خلف يزيد وفرعون وسماحة المال الايراني التاجر الفاجر احب ان اتعرض للقهر والقصف والحذف كاصغر معلقة معلقة من حروفها التي تشبه حبل مشنقة على ان اكون كاتبة اتلقة الاف الدولارات المغمسة بالدم لاشهد ان ثورة سوريا مؤامرة وان القائد الدكتاتور هو القائد الكتور .كاتبة من المنفى نجت من القتل حديثا تضحك رغم الماساة على المنفى الفايف ستارز وانا بالمناسبة مغمورة ومقهووورة واتعرض للتشهير والتشفير والقتل واكتب لك من المنفى القبييييح واؤكد لك بلادي وان جارت علي عزيزة واهلي وان ضنوا علي كرام

  3. يقول غادة الشاويش المنفى:

    واعدل لك توقيعي كاتبة من المنفى نجت من القتل قبل فترة تضحك رغم الماساة على ( المنفى الفايف ستاز ) وانا بالمناسبة مغمورة ومقهووورة واتعرض للتشهير لا الشهرة هههه وللتشفير بالشفرات ايضا هههههه وليس فقط بقرصنة ايميلي واكتب لك من المنفى الذي لم يمنحني الا لجووءا ثانيا من غير اوراق ثبوتية والذي حبسني فيه عرضة للقتل والتصفية بحس نزوات اجهزة الامن العربية الممتدة من عمان الى اسرائيل الى سوريا فبيروت حزب الاسد احب ان اقول لك ارجووووكي سيدتي المنفى هو المكان الذي لا تركب فيه سفينة فتهرب ولا تملك فيه ورقة تثبت انك انت !!ولا يسمح لك فيه بالبقاء حرا او حيا او حتى محايدا ولا بالسفر لانه ممنوع والمطار ليس لك ولا بقول الحقيقة لانها جريمة اطالة لسان على المقامات السامة وليست السامية ولا بالموت شهيدا بل برصاصة مجهولة اطلقها احدهم على عصفور في رحلة صيد وقتلت انت بدلا من ذلك العصفور بالخطا وبعدها يخرج في جنازتك من هتكوا عرض جهادك مشيعين باكين على انك كنت مقاوما معهم اغتالتك اسرائيل وليس هم او النظام البعثي القذر هل عرفت سيدتي معنى المنفى اتمنى ان اكون صححت نظرتك الوردية عن الشهرة والمال والمنفى الذي يمنح المواطنة القدس وطني ومربع التعليق انفاسي شكرا لجريدتي جريدة القدس التي سمحت لي بان ابث قهري علنا !

  4. يقول نسيمة حرة من الجزائر:

    على كل منفى عن منفى يفرق، و الظروف هي من تصنع الفارق.
    عزيزتي غادة دائما أقرأ لك لكن هذه أول مرة أخاطبك مباشرة مع أني دائما أتأثر بتعليقاتك و مقالاتك لكن هذا الأخير بلبلني. صدقيني قلبي معك و مع كل المقهورين و ما أكثرهم في بلداننا العربية.

  5. يقول غادة الشاويش المنفى:

    شكرا لمشاعرك الطيبة اختي نسيمة حرة وكما قلت فقد اصبح عدد المقهورين كبيرا لا تنسيني من الدعاء

  6. يقول نسيمة حرة من الجزائر:

    أعدك.

إشترك في قائمتنا البريدية