رواية «قصاص الأثر» لخليل النعيمي الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات، ما كدت ابدأ فيها حتى التهمتها في يومين. أنا من قراء خليل النعيمي منذ الثمانينيات، حين قرأت له الرواية القصيرة «الخلعاء» أذهلني أن الرواية كلها في جملة واحدة، وأن الرواية مكتوبة بلغة الأرض وطعم الحياة في الشام، تابعت قراءته بعد ذلك.
روايات مثل «تفريغ الكائن» و«مديح الهرب» وغيرها، وكتبه في الرحلات، ثم هذه الرواية التي هي فريدة في بابها. فهي أشبه بمونولوج، لكنها ليست بالمونولوج. هي رحلة بحث عن الأمل الضائع وعن ماض يراوغه الجمال الضائع. وعن زمن مفتقد وعن زمن مرتجى. رحلة في بوادي الشام هروبا من امرأة كونية وبحثا عن امرأة كونية. رحلة تتقصى الماضي الطوباوي للصحراء والماضي القاتل والماضي الميتافيزيقي، وكل هذه اصطلاحات لم يأتِ أي منها في الرواية، لكنها مشاعر مع متعة المتاهة مع بطل الرواية، لا أريد أن أقول وكاتبها فهي أجمل من أن تكون سيرة ولو روحية. الجزء الأكبر من الرواية في بادية كل ما يتحقق فيها من بشر هم حكايات ضائعة، إلا الثعلب الذي يكون المحاور للبطل، الذي يجيب عما لا يجد له إجابة. والذي من براعة السرد ترى الحوار طبيعيا بين كائنين وحدهما بين الفراغ والعدم. ينطق الثعلب بما هو غائب ولا ترى ولا تشعر بأي غرابة. ورغم إنها هَمّ أقرب إلى هموم الصوفية الباحثين عن الاتحاد مع المطلق، الله أو المرأة! المرأة هنا هي الغاية، هي مخاتلة الوجود للرجل فخبرات المكان والبشر فاتنة إلى درجة مذهلة.
ينحت خليل النعيمي كعادته من المكان لغة، من الأشياء أفعالا بسهولة الأسماء وهذا جهد كبير للكاتب، لكنه يصل إلينا في عذوبة ما اشتُق منه من حيوان أو جماد وفي جهامته إذا كان كذلك، وفي كل الأحوال صفّته الروح فانسكب في النص سهلا فهو ابن إبداع عميق. تشعر من تأني الكاتب في صياغة الجمل قبل العبارات أنه يدق كلماته في إيقاع فنان يصوغ عالما من إيقاع زمن مفقود لمكان ظالم. تشعر بأن خليل النعيمي لم يكتب هذه الرواية كلمة بعد كلمة، لكن حرفا بعد حرف. وعليك أن تستمع للإيقاع وليس مهما أن تمسك بمفردات هَمّ الرواية دفعة واحدة أو بوضوح تقليدي. عليك أن تتأنى لكن لا تشعر أبدا بالعجز. وهو لا يتركك بعيدا عن الإيقاع الذي يهدهد روحك أو يعذبها قبل المعنى، بل مع المعنى أيضا فيضع لك علامات الترقيم بعناية الذي ينحت تمثاله الذي أراد أن يفك قيوده فقطع هذه الرحلة التي تبدو من الخارج هروبا ومن القلب بحثا عن الأبد البعيد. يختفي البطل الذي هو في رأيي قصاص الأثر، ويظهر قصاص الأثر ليبحث عنه. يجده أو لا يجده ليست هي القضية. تظهر زوجته الحقيقية التي لا تدرك أن خروجه إلى البادية كان من فعل امرأة أخرى، أو بأثرها. ونجد أنفسنا بعد بحث طويل أمام مفردات واقعية بعد أن كانت الرحلة من لغة الأزل والأرض البكر التي ظلت على سرها وغموضها، رغم ما مرعليها من بشر. لكن الألفاظ الواقعية على قلتها سرعان ما تظهر لها أجنحة من مشاعر المتحدثين. الأقرب أن قصاص الأثر الحقيقي لا يجده، وما معنى أن يجده بعد أن كشف لنا بطل الرواية عن بحثه العميق عن ملاذ في الأرض. ملاذ وهو الذي يعي مفردات المكان حبة رمل بقطعة صخر بنفخة هواء ببقعة ضوء بقطرة ماء.. لقد صرنا على تخوم دمشق، وتمت مرثية البادية توقعا لما هو أجمل.. ربما.
ويظل ما مضى من سرد يخايلك بلغته المجنحة وتصريفات خليل فيها. في أفعالها وأسمائها. من الأسماء أفعال ومن الأفعال أسماء ومن المكان الفعل والأثر، وكلها من رمال الأرض ومائها، وكالعادة يبدو السرد خطوة خطوة مع المشاعر العميقة يسرع إذا أسرعت ويبطئ إذا أبطأت، يغامر في الاشتقاقات حين تدلهم المواقف، ينير حين تضيء. ورغم قليل من المفردات المكانية قد تستعصي علينا نحن أبناء المدن، لكنها قليلة وتكرارها يوضحها لنا. في النهاية نحن أمام رحلة هارب من الأزل إلى أبد غامض. رحلة تفتن الروح مهما بدا فيها من محاولة العقل للفهم والرغبة في الوصول إلى شاطئ.
روائي من مصر
إبراهيم عبد المجيد