ليس لخوفها من الموت، بل لتعلقها الفاتن بالحياة، تريد السيدة التسعينية إنغبورغ باور أن تعيش. لديّ ما أفعله هنا، تقول: «أحب المشي الصباحي في الغابات. الزيارات الأسبوعية للأبناء والأحفاد. ثلج عيد الميلاد والهدايا اللذيذة التي أوزعها تحت الشجرة في الليلة تلك. أحب كل هذا وأشياء أخرى، ثم ..» وهي تشدد على هذه المهمة حين تعرض لائحة المسرات التي تدعوها للحياة: «عليّ متابعة الإشراف على زوجي الذي أقعدته جلطة دماغية قبل عام ونصف العام.. هو يحتاجني الآن، وأنا أحب ما أقوم به وأريده أن يستمر».
بصمت وشغف كنت استمع للسيدة باور وهي تقص بالبسيط والعميق من المفردات حكايتها البليغة والمثيرة مع الحياة: «صحتي جيدة، أقوم بما يقوم به الآخرون، ولكنهم أخبروني، إثر زيارة عادية للطبيب، بأن قلبي متعب وأن عليّ الخضوع لعملية جراحية سريعة ولكن..».
في قسم خاص بالأمراض القلبية، تابع لمستشفى فييناوي كبير، عرفت السيدة باور أثناء زيارة لصديقة ترقد هي الأخرى هناك، في سرير مجاور لسريرها الذي تدخله وقت النوم فقط، فهي تقضي وقتها بالتجوال في المستشفى أو بالجلوس خارج الغرفة، بحثاً، كما يبدو، عمن يدلها على القرار الصحيح الذي عليها اتخاذه. فالسيدة باور تحمل قلباً معرضاً في كل لحظة لجلطة لئيمة قد تقضي عليه.
وهو الأمر الذي يلزم الأطباء، كما أخبروها، بإجراء جراحة فورية له، ولكن الجراحة هذه قد تقود بدورها إلى خلل جسيم في عدد من الأعضاء الأخرى تُقعد المريضة وتحولها إلى حالة تستحق الرعاية الدائمة، شلل نصفي أو أكثر، حسب الأطباء أيضاً. شلل محتمل أو موت مفاجئ، وعلى السيدة باور أن تختار
بين موت عادي لا تخشاه، ولكنها لا ترغب فيه الآن. وشلل يحيل المرء إلى محض كائن يتنفس، يتألم وينتظر الموت الأول، حسب. على السيدة أن تختار.. فكيف تختار؟
مواصلة المشي الصباحي في الغابات، قلت لها، بعد أن قصت الصديقة حكايتها وقدمتني إليها. وانتظار زيارات الأبناء والأحفاد. هذا هو الخيار العقلاني الأجمل والأكثر صواباً.
ــ ماذا تقصد؟
ــ وضع جميع نصائح الاطباء جانباً، وكأنها لم تكن. وانتظار ندف الثلج الأولى المبشرة بعيد الميلاد.. إنها الأشياء التي تفرح القلب وترجعه صحيحاً. لم تجب السيدة إنغبورغ باور على الفور، فكرت قليلا . تأملت الوجوه من حولها. السرير والغرفة الكبيرة، ولعلها استعادت بسرعة خاطفة جميع اللحظات الدافئة أو القاسية في حياتها الطويلة.. وربما مرّ الموت من أمامها، ولم نعرف، على هيئة طبيب ضاحك، أو مرت الحياة بصورتها التي تحب: غابة في الصباح؟
ــ أمامي القليل من الساعات لأقرر.. أحتاج للكثير من الشجاعة والحكمة، هي ليلة طويلة تنتظرني على الأغلب، وأرجو أن أخبرهم غداً بالقرار الصحيح.. ما القرار الصحيح؟
ما القرار الصحيح، كررت السيدة باور سؤالها الثقيل وكأنها تعيده على نفسها وليس علينا نحن الذين من حولها. لم أرجع لزيارة الصديقة مجدداً، ولم ألتق بالسيدة باور لمرة ثانية. ولكنني واصلت الاتصال الهاتفي يومياً للأطمئنان على الأولى والسؤال عن القرار الأخير للثانية.
ــ أنا بخير، أجابت نجوى في اليوم التالي، وسأغادر المشفى غداً.. أما السيدة باور، تابعت: سترجع إلى بيتها غداً هي الأخرى، لقد قررت رفض العملية الجراحية ومواصلة حياتها السابقة كما كانت.
أفرحني رفض السيدة إنغبورغ باور وضع قلبها أمام احتمالات سديمية قد تصلح العطب فيه، أو تقضي نهائياً عليه. رفضها الشجاع لذاك الشق اللامرئي من المغامرة واستسلامها الغريزي لشقها الواقعي الملموس. ما تعرفه وخبرته على امتداد عقود طويلة ماضية وما ترغب بمتابعة الإمساك به إلى حين تأتي النهاية الطبيعية وحدها.
ــ حين تجـــيء النهاية من تلقـــاء نفسها سأكون حاضرة بلا خوف أو تردد، أما الآن فعليً أن أعيش، هناك ما ينتظرني ويستحق أن أعود إليه.
هناك الكثير، أردد من خلفها. هناك الحياة على اختلاف وقائعها وتجلياتها، حتى لو بدت لئيمة وهي توضع أمام الخيارات التي وضعت هي بلا رحمة أمامها. هناك الحياة كما يدل خيارها الأخير والجريء بلا جدل عليها.
٭ كاتب فلسطيني
نائل بلعاوي